قضيت يوما كاملا وطويلا جدا جدا مع جويس، الله يقرف عمرا (بعيد الشر يارب) فهي مازلت تستمع بحياتها، وسنتحفل بربيعها الثامن والثمانين بعد شهرين…. …. التقيت بها بعد قطيعة دامت ستة أشهر، تلقيت خلالها مليون ايميل، وكل واحد قد بدأته بـ : عزيزتي الابنة العاقة
Dear ungrateful daughter
نعم أنا ابنتها العاقة، والشهادة لله الشياطين لا تقبلها أما!
….
من هي جويس؟
هي سيدة سورية، نعم سورية حتى نخاع عظمها، علما بأنها لم تطئ أرض سوريا في حياتها. كان عمر والدها ١٤ سنة عندما هاجر إلى أمريكا، وكانت أمها ابنة تسعة سنوات. ركبوا مع عوائلهم “البابور” حسب تعبير جويس، وظلوا ستة أشهر حتى وصلوا من ميناء اللاذقية إلى نيويورك في آواخر القرن الثامن عشر! لم يكن في جعبة العائلتين سوا بعض الزعتر، ولكن القدر كان مصرا أن ينقذ هذين المراهقين رغم جهنمية الرحلة هربا من الحكم العثماني، وكذلك كان مصرا أن يرميهما في الغرام كي ينجبا لاحقا جويس حتى يبليني بها! نعم، كان عليّ ـ ككل انسان ـ أن أحمل صليبي فوق ظهري، على حد تعبير الأخوة المسيحين، وأصرّ القدر أن تكون جويس هذا الصليب! تعرفت عليها منذ خمس وعشرين عاما، أي في بداية حياتي الأمريكية. التقينا صدفة، فتعرفت من خلال اسمي (أو ربما الحدس الذي يربط الإنسان دائما بالجذور)، تعرفت على هويتي السورية.
لم يكن بيتها بعيدا عن بيتي…. رأيت فيها الأم الذي تركتها وراءي في سوريا، ورأت فيني الابنة التي لم تنجبها! كانت متزوجة من رجل أمريكي خليط ارلندي ويوناني، توفي ـ السلام لروحه فلطالما أحببته ـ منذ خمس سنوات، وترك لي مهمة الاطمئنان على جويس، إذ لم يُرزقا بأولاد، ولم يبق من عائلتهما في كالفورنيا أحد!
…….
هي تعيش في بيت جميل وفيه كل ما يبعث على الراحة، علما بأن أصغر قطعة أثاث فيه عمرها خمسون عاما. شجرة العائلة وصورة جديها مع أمها وخالاتها المعلقة على الحائط، بالإضافة إلى الشموع وتماثيل العدرا والقديسين، تشعرك وكأنك في بيت أثري في إحدى قرى معلولة بدمشق، المكان الوحيد في العالم الذي مازال الناس فيه يتحدثون الآرمية لغة المسيح. كذلك القصة التي تكررها جويس في كل حديث وفي كل لقاء لي معها عمرها أيضا أكثر من خمسين عاما، ومن خلال الطريقة التي ترويها بها تستشف ملامح هويتها السورية هنا وهناك…
………..
لا تعرف من العربية سوى بضعة كلمات، لكنها تتقن ثلاث عبارات وبطلاقة! لا تستطيع أن تترجم تلك العبارات إلى الانكليزي، فعلى ما يبدو لا تعرف معناها. لكن الغريب في الأمر، أنها تعرف المواقف التي تستطيع فيها أن تستخدم تلك العبارات إحداها وأهمها “لا تخافي بابا الله بيدبر”!
تقول جويس: كان والدها يملك محلا تجاريا يبيع فيه أغطية الاسرّة من شراشف وملاحف، وكانت تساعده في عمله،
وكلما خف البيع وتهدد وضع العائلة المادي كان والدها يكرر على مسامعها تلك العبارة! لذلك، كلما شعرت جويس أنني تحت ضغط ما تضع يدها على كتفي، وتقول بعربية جميلة “لا تخافي بابا الله بدبر”! العبارة الثانية “كلي خرا”. كلما أرادت جويس أن تعبر على عدم موافقتها على ما أقول، تصيح فيني “كلي خرا” يبدو أنها لا تفهم العبارة حرفيّا، لكنها تعرف مدلولها ومواقع استخدامها! العبارة الثالثة “الله يحرق دين اليهود” (ألم أقل لكم بأنها سورية حتى النخاع؟؟!!) حفظت جويس هذه العبارة عندما كان والدها يكررها، وهو يصغي إلى راديو ترانزيستور صغير معلق في رقبته، أبان حرب “العدوان الثلاثي” على مصر في ١٩٥٦.
تكرر تلك العبارة كلما سمعت خبرا صحفيا لا يروق لها، حتى ولو كان خبرا عن ازدياد عرض مؤخرة كيم كارديشيان (ألم أقل لكم بأنها سورية حتى النخاع؟؟؟!!!)
…………
تركتُ المدينة التي كنت أعيش فيها بقرب جويس ورحلت إلى المدينة التي أعيش فيها الآن منذ سنين… كان انتقالي بمثابة صدمة عاطفية كادت تحطمها. أذكر اليوم الذي رحت فيه إلى بيتها كي أخبرها بأننا قررنا أن ننتقل، قلت لها بالانكليزي:
Joyce, I am going to drop a bomb!
جويس، سألقي عليك قنبلة! والمقصود بهذا التعبير أنني سأخبرك خبرا قد يهزك!
فردت: ماذا؟
قلت: اشترينا بيتا في المدينة الفلانية وقررنا أن ننتقل! فكاد يغمى عليها، وهي تمتم:
Killiiii Kharaaa, this’s not a bomb this’s an atomic war
(كلي خرااااا، هذه ليست قنبلة إنها حرب نووية) بكينا وتعانقنا… رحلت ولم أرحل… فعلى الأقل يجب أن أسوق مرتين في الشهر أكثر من ساعة ونصف، إلى مدينتها كي أطمئن عليها وخصوصا بعد وفاة زوجها، ناهيك عن التلفونات والايميلات المتبادلة….
……
تعرفت جويس على عشرات الناس في بيتي خلال الربع قرن الماضي.. لم يتفق أصدقائي ومعارفي على قضية أكثر مما اتفقوا على أن جويس شخص “غير” مرغوب فيه وليست أهلا للصداقة! وكانوا يحسدونني على مقدار صبري وقدرتي على التحمل…
فعلا، هي سيدة خشنة، لا تلتزم بالحد الأدنى من أصول اللياقة، صوتها يعلو على الجميع، ورأيها هو الصح، وليأكل الجميع “خراااا”! حسب ماترويه عن حياتها، كان والدها سوريّا من العيار التقيل، وظل ملتزما بعادات سوريا في القرن الثامن عشر…
تربت في ظله كانثى “ تستحق الشفقة” وعندما تزوجت بعد وفاته أمريكيا تمردت بكل ما تعنيه الكلمة، وراحت تقتص لحياتها في ظل والدها، ومما زادها مرارة أنها لم ترزق بولد، فصوتها يجب أن يسود، وهي تأمر ولا تؤمر! وخصوصا بعد أن تقدم بها السن، فالمسنون في أمريكا يأمرون ولا يؤمرون، ولهم الأولوية في كل شيء، من منطلق أنهم بنوا أمريكا وعليهم أن يتكافئوا في أعمارهم المتقدمة، فهم في هذه الأعمار ضيوف اقترب رحيلها!
….
ازدادت جويس مع التقدم في العمر تسلطا، وتضاءلت قدرتي مع التقدم في العمر أيضا على الصبر والتحمل. لذلك، تصادمنا…..
ولذلك، تعتبرني ابنة عاقة! مازلت أشفق عليها وأحبها، ولكن تحت ضغوط الحياة لم أعد أتحمل صوتها الذي يثقب غشاء اذني،
ليس في التلفون وحسب، بل كلما التقينا، وخصوصا أن لديّ حساسية مرهفة ضد الأصوات بما فيها الموسيقا ناهيك عن النشاذ منها!
فأنا كالسمكة لا أتنفس الحياة إلا في المحيط، ومحيطي الصمت!
….
تثقب طبلة اذني وهي تكرر علي قصة مللتها: ـ يا حزني على أخي جورج، كانت زوجته شرموطة!
ـ ليش يا جويس كانت شرموطة؟
لأنها كان تقف إلى جانب اخيها ضد أخي، وكان أخوها مثليا! كان ينام مع رجل، ولا يحترم تعاليم الكتاب المقدس، وكانت شرموطة لأنها تركت وصية كي يدفنوها في المقبرة التي دُفن فيها أخوها، وليس حيث دُفن زوجها، أليست وصيتها تلك صفعة على وجه عائلتنا؟؟
(ألم أقل لكم بأنها سورية حتى النخاع؟؟!!)
يا “حوينتك” يا أخي جورج!
“حوينتك” كلمة شامية قح، تعرف جويس متى تقولها ولكن لا تعرف ترجمتها الحرفية. تتابع:
كنت أكره عمتي ماري؟
ـ ليش؟
لأنها تزوجت كاثولكيا، ولم تتكلل في كنيسة الأرثوذوكس, أغضبت والدي جدا، لم أتكلم معها في حياتي، ومازلت أزعل لغضب والدي يومها.
بعد أكثر من ٧٥ عاما مازالت تكره عمتها لأنها أغضبت أخاها ـ والد جويس ـ بزواجها من رجل لم يوافق عليه!!!
(ألم اقل لكم بأنها سوريّة حتى النخاع؟!!) تتابع:
أولاد أختي كلهم ناجحون ورائعون، وأولاد اخي ـ بسبب امهم الشرموطة ـ فاشلون!
علما بأن أولاد اخيها، واعرفهم جميعا، لا يقلون نجاحا عن أولاد اختها، ولكنها الجينات السورية!!!! تتابع:
عشت أول ثلاثين عاما من حياتي في بوسطن، ومن ثم انتقلت مع أختي وعائلتها إلى كالفورنيا. بعت واختي بيت أبي في بوسطن وتقاسمنا الثمن، بعناه لعائلة صينية، العائلة التي اشترته لم تحبني واعتبرتني فالا سيئا، ولذلك بعد أن تم البيع عزموا اختي وعائلتها إلى الغداء على حسابهم بشرط أن لا آتي أنا، وتتابع:
Fuck all the Chinese
كل الصينين منايك!
هنا أحتج: جويس كل الصنيين منايك لأن عائلة صينية لم تحبك منذ حوالي ٥٨ سنة؟؟
وترد بعنف: كلي خراااا (ألم أقل لكم بأنها سورية حتى العظم؟!!)
………………..
تشير إلى ١٢ اسوارة ورثتها عن أمها، وتقول: سأترك هذه الاساوير لـ جوي (ابنة أختها)، ولهاذار (حفيدة اختها)، أما ايمي (كنة اختها) فلن أترك لها شيئا!
ـ لماذا؟
لأنها شرموطة ديمقراطية، صوتت لصالح اوباما! وتتابع: يحرق دين اليهود!
هنا أحتج: جويس، فهمنا ايمي شرموطة لأنها ديمقراطية، ولكن ماعلاقة اليهود؟
ترد: كلي خراااا (ألم أقل لكم بأنها سورية حتى النخاع؟؟؟!!)
……………
وصلت البارحة إلى بيتها وأنا أصلي “الله يجيبك يا طولة البال” طلبت مني أن آخذها في رحلة تسويق لأنهم نزعوا منها شهادة السواقة منذ عامين وإثر حادث نجت منه كقطة بتسعة أرواح، وعلما بأن لديها مساعدة تعيش معها، لكنها تريدني أن آخذها بنفسي، فقط لأثبت لها بأنني ابنة مطيعة! أقسم لكم لو دخلت عروس وكل المعازيم على الماركت لما انتبه الناس إليها كما انتبهوا الينا،
اعتلت السيارة الكهربائية المخصصة للمسنين والعاجزين، وراحت تسوقها وكأنها مراهق يستمتع بالقيادة لأول مرة!
وكلما التقت بأحد في طريقها تصرخ: واااااو…..وييييي! راح صوتها يلعلع في كل أنحاء الماركت، على عكس الأمريكان الذين يلتزمون الصمت المطبق في الأماكن العامة! طلبت التحدث مع مدير الماركت، ثم شكت له أنها لم تجد الجبن الكريمي المخلوط بسمك السلمون، فاعتذر منها وأعطاها بطاقة تسويق بقيمة ٢٥ دولار كهدية! طلبت أيضا أن ترافقها موظفة إلى السيارة كي تنقل الأغراض من العربة إلى سيارتي
فقلت: جويس، أنا استطيع أن اقوم بذلك، لا حاجة للموظفة
فصرخت: كلي خراااا….
…………..
تناولت معها طعام الغداء وودعتها حوالي الساعة الخامسة ظهرا، ورحت أصارع زحمة بعد الظهر، فأخذتي ثلاث ساعات لأصل إلى البيت منهكة.
……………..
هذا هو التاريخ البشري… نعم، هو مجموع قصص البشر الذين عاشوا خلاله، فلكل منا تاريخه وقصته…. لكل منا قصته التي يرويها من خلال وجهة نظره، وقد تكون مختلفة جدا عن قصص الآخرين الذين عايشوه! عجبا، لو قرأنا تاريخ جويس من خلال عمتها ماري أو زوجة أخيها جورج أو كنة أختها ايمي، أو تلك العائلة الصينية، أو حتى من خلالها اختها لويس، هل ستتطابق الأحداث على ما ورد في قصة جويس بالتأكيد لا!
…..
لذلك، تقبلوا قصص الناس كما يروونها، فلكل منا قصته ولكل منا وجهة نظر مغايرة! لكن، اياكم أن تقرأوا التاريخ بجدية، أو أن تثقوا كثيرا بما جاء في كتبه، فلقد روته “جويس”، من خلال وجهة نظرها الشخصية، ولو رواه أي شخص آخر في محيطها، لقرأنا تاريخا مختلفا كليّا!