في سنة 1985م, على ما اذكر أو سنة 1984م على ما اذكر أيضا كنت ابلغ من العمر 14 أربعطعشر سنة( أربعة عشر سنة) وكنت يومها على مقاعد الدراسة فمررنا بدرس عن بائع الحلوى الفاسد الذي يبيع الهريسة والعنبر و( الكريزه) والعوامة على عرباية, يجرها بكل قوته, وكان في المنهاج الدراسي مع الدرس صورة لرجل عجوز يبيع الهريسة والحلوى المكشوفة للذباب, فتعلمنا في المدرسة درسا أن الذي يبيع الحلوى هو فاسد جدا يضر بالمجتمع وينقل لنا الأمراض ويومها حذرنا أستاذ اللغة العربية ( عبد المنعم) بأن هذا البائع فاسد جدا ويجب مقاطعته وعدم التعامل معه مطلقا, وقال لنا: يا أولاد..يا أبنائي…يا أحبابي, قلنا: نعم, يا أستاذ, قال: هل رأيتم الرجل الذي يقف صباحا أمام بوابة المدرسة ليبيعكم الحلوى؟ قلنا, نعم, كلنا شاهدناه يا معلم, قال: هذا هو الفاسد الوحيد الذي يضركم ويضر بصحتكم, يجب أن لا تشتروا منه, أفلا ينبهكم أهاليكم في البيوت؟ فقلنا: لا, قال: لأن أهاليكم جاهلون لم يدخلوا لا المدارس ولا الجامعات ويجهلون بأنواع البكتيريا, ويجب أنتم أن تحذروا إخوتكم وأخواتكم الأصغر منكم سنا من هذا الفاسد الملعون الذي يضر بالمجتمع وبصحتكم, هل فهمتم؟ فقلنا جميعا بلهجة واحدة: نعم فهمنا يا أستاذ.
ومن يومها كنت كلما آتي إلى المدرسة ينظر لي ( أبو شريف) وهو يبتسم لي ويحييني بكلمة صباح الخير, أما أنا فقد كنت أنظر إليه باحتقار لأنه فاسد جدا ويريد أن يضر بصحتي وصحة أخي الصغير الذي كان مغرما بالشراء منه يوميا, وكنت كلما رأيت أخي الصغير يقترب منه, كنت أركض إليه وآخذه من يده وأقول له: تعال, فيقول لي أبو ( شريف) لالالا يا عمي خليه يجي بدي أعطيه حبة هريسة مجانا, فأقول له: لا شكرا, وأنظر إليه بنظرات كلها حقد عليه, طبعا أبو شريف بائع الحلوى لم يكن يعلم أنني مكتشف عظيم لحقيقته, كنت أنظر إلى نفسي وكأنني مكتشفٌ عظيم اكتشف ممرا بحريا جديدا بدل الالتفاف من خلف الرجاء الصالح أو أنني اكتشف طريقا جديدا لتجارة الصين مع العرب بدل طريق الحرير, وكنت كلما نظرت إليه أقول في نفسي له ( بتفكرني مش كاشفك يا فاسد يا مجرم يا حقير!!!!), كان أبو شريف بائع الحلوى يقف يوميا بعربته ذات الأربع عجلات أمام المدرسة صباحا وظهرا, وكان يتعرض في الصباح للبرد القاسي جدا ولم يكن لديه وسيلة ليتقي بها من حبات المطر والبَرَدْ غير شجرة الزيتون الرومية الكبيرة التي كان يركض ليقف تحتها تاركا عربته أمام بوابة المدرسة وفي الصيف يتعرض لحرارة الشمس الحارقة وكانت نفس الشجرة وتحتها حجر كبير يجلس عليه ليقي نفسه من حر الشمس, وفي الليل كان نفسه بائع الحلوى ( أبو شريف) يقف في حارتنا ليبيع لنا الذرة المسلوقة واحيانا يبيع لنا الخضروات وكانت جدتي رحمها الله تبتاع منه بعضها وكنت أقول لأمي( هذا مجرم هذا فاسد وهو سبب القحة والسعال والإسهال الحاد التي كان يأتينا على فترات, وكنت أحذر أخي الصغير وأختي الصغرى من مغبة الاقتراب منه أو التعامل معه, وكنت أنادي بمقاطعته نهائيا, هذا المجرم السفاح الذي يبيعنا الحلوى غير الصحية.
وكان مدير المدرسة في بعض المرات يخرج خارج سور المدرسة ليقول له بأن البيع أمام بوابة المدرسة ممنوع, فكان الرجل يجر عربته كجندي يجر أذيال الخيبة معه وهو عائد من معركة انهزم فيها شر هزيمة أو كأنه آخر جندي عاد من اسبارطة ومات بأثينا وأوصى أن يكتبوا على شاهد قبره( قل للذين هنالك أننا راقدون هنا وذلك احتراما للقوانين التي فرضوها علينا), وكان يغيب يوما أو يومين ومن ثم يعاود الوقوف أمام المدرسة وأحيانا يقف على الضفة الأخرى من الطريق المنقسمة إلى صايدين, كنت كلما رأيته بمنظره ومعه سدر الهريسة أحقد عليه أكثر من أي وقت مضى وأقول في سري: يا لك من مجرم تريد قتلنا وذبحنا.
وتقدمت بي السنون وتعمقت في الأدب والسياسة والفلسفة والاقتصاد ولكن قبل كل هذا كنت أحقد على كل بائع حلوى أو ذرة أو قهوة في الطرقات وأتهمه وأقول كلكم فاسدون مثل أبي شريف,(كلكوا أبو شريف) ولكن بأسماء مختلفة وأشكال وألوانٍ مختلفة.
ولما انخرطت في العمل الثقافي وتابعت نشاطات الحكومة وبرامجها واحتككت بالعالم المحيط بي, اكتشفت أنني كنت أدرس مادة مزورة أو كنت أتعاطا في المدرسة الحشيشة والحبوب المنومة, اكتشفت أن أبا شريف لم يكن فاسدا كما تعلمنا في الدرسة واكتشفت بأن أبا شريف كان يربي أطفالا من تعب يديه, لم يكن لصا ولا حراميا ولا سرسريا ولا عرصا ولا قوادا, اكتشفت أنه ربّى أبناءه وكان يطعمهم من كد يديه وليس من كد العمال والشغيلة, لم يكن طائفيا ولا انتهازيا ولم يكن يقبل أن يأكل هو وزوجته وأولاده إلا من كد يديه, طبعا سألت عن أبي شريف كثيرا, أين هو وأين هي أراضيه وأين هو الآن, لم يجبنِ أحد وانقطعت اخبار الرجل وترك القرية وهاجر إلى المدينة, وفي يوم من ذات الأيام كان أحد الطلاب الذين كنت معهم في المدرسة قد أصبح طبيبا في المستشفى ووجدته صدفة وقال لي: بتعرف أبو شريف بائع الحلوى؟ قلت: أه بعرفه, وين هو, قال: هو الآن عندي في المستشفى, وعلى الفور توجهت إلى المستشفى وركنت سيارتي في مرآب الطوارئ ودخلت قسم أمراض الباطنية وسألت عنه, وحين دخلت غرفته وجدته شيخا هزيلا يرتجف ويتمتم, فتقدمت منه وسألته: كيفك يا عم أبو شريف, قال: مين إنت مش عارفك يا إبني, فذكرته بنفسي ولكنه لم يكن يتذكرني مطلقا, طبعا معه حق لأنني لم أكن أتعامل معه ولم أكن اشتري منه وكنت أقود حملة مضللة من أجل مقاطعة بضائعه, وأثناء وقوفي أمامه دخلت زوجته الختياره وسألتها: شو مرضه, فقالت: عنده ضعف في عضلة القلب على قد ما كان يجر العرباية من شارع لشارع ومن حارة إلى حارة, وعنده ضربات شمس متعددة لم يكن يشعر بها لكثرة ما مشى بالعرباية تحت أشعة الشمس الحارقة, وعددت لي أمراضا سببها لسعات البرد التي كان يتعرض لها, كنت أود وقتها لو انكببت على قدميه أغلسهن بماء عيوني أو بالماء النقي والصحي, كنت أتمنى أن يعود بي الزمن إلى الوزراء واشتري منه كل ما يبيعه حتى لو كان مكشوفا للذباب…ليتك تقدر اليوم أن تنهض من خاصرة القطن الطبي وتبتسم لي لأبادلك الابتسامة بدل أن أحقد عليك.
أبو شريف بعدما توفى ورحمه الله برحمته, اكتشفت أنه لم يكن مجرما ولم يكن فاسدا, كان أبو شريف أشرف رجل أردني, كان أبو شريف أشرف رجل عربي على الإطلاق, كان أبو شريف أشرف من الأستاذ عبد المنعم أستاذ اللغة العربية الفصحى, وكان أنظف من مدير المدرسة, كان أبو شريف أيضا أشرف من واضع مناهج التربية والتعليم للصف السادس والسابع, كان أيضا أشرف من وزير التربية والتعليم واشرف من رئيس الحكومة ومن أمين العاصمة ورئيس البلدية, كان أبو شريف أشرف من مجالس النواب التي انتخبناها على مر ربع قرنٍ من الزمان, كان أبو شريف أشرف من وزير الصحة نفسه, عاش أبو شريف شريفا, علّم أولاده في المدارس والجامعات ونشئوا جميعهم على حب الوطن وحب عمل الخير وعلى التواضع وعلى الإيمان بالله وبتقوى الله, كان أبو شريف رجلا صالحا, لا يسرق لا يزني لا يشتهي زوجة أخيه, كان أبو شريف متواضعا جدا لم يسرق قوت الغلابة ولا المساكين, كان أشرف رجل يمشي على اثنتين.
بائع الحلوى المكشوفة لم يكن يضع لنا مواد متسرطنة في الهريسة والعوامة وكرابيج الحلب والعنبر, وهو بحق يستحق أن ننصب له تمثالا أكبر حجما من تمثال الحرية الذي أهدته فرنسا لأمريكيا بمناسبة عيد الاستقلال والثورة الأمريكية, لم يكن أبو شريف فاسدا بل كان المنهاج فاسدا وأساليب التدريس فاسدة وأساليب التعليم فاسدة, كنت أعتقد أن أبا شريف هو الفاسد الوحيد الذي تعرفنا عليه في المدرسة, وهذا ليس ذنبي, فلم نكن نتعلم في المدرسة أن رأس الفساد هو في الحكومات التي لا تراعي مصالح المواطنين والتي تصنع الفساد من خلال الترهل الإداري غير المقصود, كنت أعتقد يا أبا شريف رحم الله روحك بأنك أفسد انسان على وجه الأرض وإذ بي أتفاجأ بأن الفساد في مجالس النواب ومناهج التعليم وطرائق التربية والتعليم, كنت أحقد عليك لأن المسئولين في البلد كانوا يوجهون أنظارنا إليك وحدك لكي لا ننظر إلى فسادهم الكبير والصغير واستثماراتهم الوظيفية, لم نتعلم في المدرسة أن هنالك مفسدون يستثمرون وظائفهم ويبيعون ضمائرهم ويسرقون كد العامل وتعبه, لم يعلمونا أنهم كانوا يسرقونك ويسرقون كل الناس, تذكرت هذه الحادثة الآن عندما أرادت ابنتي الصغرى أن تشتري (فولا) مسلوقا من بائع عرباية متجول في الشوارع, فنهرتها أختها الكبرى وقالت لها: لالالا يا حبيبتي هذي كلها أمراض هذا فاسد, فقلت: معقول بعده الأستاذ عبد المنعم في المدرسة؟ معقول أنا وابنتي ما زلنا ندرس على نفس الشيخ!!يعني ( بعدنا على إقراية بيضه ورغيف)!!, حين سمعتها طار الشرار من عيني وأدمعت عيناي وذهبت إلى البائع الجوال واشتريت منه لبنتي الصغرى كيسا من الفول, فقالت لي ابنتي الكبرى(بابا على التلفزيون في إحدى المحطات الفضائية حكوا إنه هذا فاسد وكله جراثيم) فقلت: طيب ليش ما حكولك إنه في فساد بمجلس النوّام أقصد النواب وإنه في فساد بأجهزة الدولة وبالوزارات!! الفضائيات هي الفاسدة التي تزور الحقائق وهذا أصدق من كل فضائيات العالم العربي والأوروبي, يعني الفضائيات ما حكوش إلا عنه إنه فاسد؟ هل هذا هو الفاسد الوحيد المسكين الذي يجب أن نحاربه في لقمة عيشه؟ ليش ما يحكوا عن الفاسدين الكبار؟؟؟!!!وركضت وهرولت مسرعا إليه وأنا أتصوره وكأنه المرحوم أبا شريف يقف أمامي وأردت أن أكفر عن جريمتي بحقه ودفعتُ له عشرة أضعاف ثمنه الحقيقي, فقال لي: هذا كثير يا ولدي ويداه ترتجف, فقلت له: الرزق على الله يا حجي, إنت مش فاسد بل أنا الفاسد الذي لم يعلم أولاده الدرس الحقيقي عن من هم المفسدون…الله الرازق يا حجي, فدعا لي بالخير…فقلت له: الرزق بيد رب العالمين والصحة والمرض والشفاء والموت والحياة بيده وحده:بالمجان أخذتم بالمجان أعطوا…طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات, طوبى للحزانى, طوبى لصانعي السلام, طوبى لبائعي الذرة والفول والهريسة والبليلا (الحمص المسلوق) المكشوفة للذباب طوبى لشرفاء الأردن الذين يعيشون بكدهم وعرق جبينهم.