التقيت الراحل برنارد لويس بمنزله في برينستون، بالولايات المتحدة الأميركية أول مرة عام 2005، برفقة الإعلامي الأميركي اللبناني سام منسى، بصدد إجراء لقاء معه. بدل الوقت المخصص للقاء، بقينا ثلاثة أيام نستمتع فيها بالساحر «العم بيرني» كما يسميه طلبته. لم يكن قد مرّ على جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أربع سنوات، وسنتان على إسقاط نظام صدام حسين، ومثلهما على صدور كتابين صغيرين للويس، لكنهما واسعا الانتشار هما «أين الخطأ» و«أزمة الإسلام».
عاجلت «العم بيرني» بسؤال عن السؤال الأميركي الأكثر رواجاً يومها: «لماذا يكرهوننا؟»، وكان هذا السؤال الذي يؤرق عوالم الأكاديميا والصحافة الأميركية والغربية، لمحاولة فهم أسباب الأزمة بين الإسلام والغرب! «الكره»، قال لي لويس: «مسألة شعورية لا تثيرني مراقبتها كثيراً، ما يعنيني هو: لماذا المسلمون غاضبون؟». كان وضع واحدة من مقالاته الرئيسية تحت هذا العنوان عام 1990 في مجلة الـ«أتلانتيك» الأميركية المرموقة، وفيها خرج بمصطلح «صراع الحضارات» الذي سيستعيره بعد ثلاث سنوات الراحل صاموئيل هانتغتون، ويلتصق خطأً به.
لن يكون هذا الالتباس الوحيد الذي يحيق بسيرة لويس. فهو جعل من الالتباس موضوعاً لعمله وبحثه. فالالتباس، بحسبه، يقع في صلب سوء الفهم بين الغرب والإسلام، عائباً على الحضارة الغربية المسيحية أنها ظلت لعقود طويلة لا تقيم فرقاً بين «التركي» وبين «المسلم»، وظلت تقاوم بعناد إسباغ صفة دينية على المسلمين تشير إلى مضمون معتقدهم، مكتفية بالإشارة الإثنية للمسلمين على أنهم «أتراك».
امتدح لويس في الإسلام تراثاً من التسامح والاعتراف بالآخر، واصفاً إياه بأنه «واحد من أعظم الأديان العالم. لقد أسبغ الكرامة والمعنى على حيوات منهكة ومعتمة». لا تستقيم عبارة كهذه مع سمعة لويس الشرق أوسطية بأنه كاره للإسلام والمسلمين، والتي غذتها سقطاته السياسية وليست الأكاديمية، لا سيما الدور الذي لعبه في إسباغ وزن ثقافي على قرار إدارة الرئيس جورج بوش باجتياح العراق، وهو ما كان حاصلاً بصرف النظر عن رأي برنارد لويس! وعلى الرغم من شديد إعجابه بالإسلام، إلى حد ممالأته الأتراك ومراوغته في الاعتراف بالمجازر ضد الأرمن، فإنه لم يتعامل مع الحضارة الإسلامية بمنطق الممالأة. الأهم أنه لا يحاكم الإسلام بصفته ديناً، بكليته، بل يقيم تفريقاً جراحياً دقيقاً، بين مدارس إسلامية محددة استلهمت من الدين ما يستثير فيها غريزة العداء. ولا يبرئ لويس النتاج الثقافي الغربي، من تزخيم أدبيات المعاداة للغرب وأميركا؛ إن كانت الماركسية السوفياتية، أو قبلها النازية التي ازدهرت أفكارها في العالم العربي في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، أو لاحقاً الأدبيات الأوروبية «العالمثالثية» التي تخيلت عصراً ذهبياً غابراً جعلت مسرحه العالم الثالث، حيث النقاء والبراءة التي ستدمرها لاحقاً أفاعي الغرب، بحسب لويس!!
الأصل في مقاربته أن الصراع يدور، بين نظامين ورؤيتين للعالم، منذ فشل الحصار التركي الثاني لفيينا عام 1683 وصعود الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية في آسيا وأفريقيا. وهو صراع يتخذ الإسلام فيه موقفاً دفاعياً في مواجهة الحضارة الغربية ذات القلب المسيحي، والتي حققت نجاحات في استقطاب حضارات أخرى، بينها الحضارة الإسلامية، لتدور في فلك أفكارها وأنماطها الإنتاجية والاستهلاكية والقيمية والقانونية.
ويستفيض لويس في شرح الجراح النرجسية التي تعاني منها الحضارة الإسلامية نتيجة عدم تقبلها تراجع دورها الكوني والإمبراطوري، لحساب من تعدّهم أدنى شأناً منها!
أما المرتكز الثاني في مقاربته فهو الموقع المركزي للإسلام، في التكوين الاجتماعي والثقافي والسياسي والمؤسساتي للمجتمعات المسلمة، حيث لا تصح أفكار الحداثة الغربية التي تقول بـ«إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر»! فالأصل الأعمق للهوية ليس الدولة الوطنية، بل الإطار الاجتماعي السياسي الذي يشكله الإسلام. يتقصى لويس في كتاباته بحرفية عالية الجذور الإسلامية حتى للحركات العلمانية السياسية العربية، متوسعاً في رصد الرموز والإحالات التاريخية للأسماء والوقائع. فلا تفوته في اسم «ياسر عرفات (أبو عمار)» الإحالة الإسلامية إلى الصحابي عمار بن ياسر، أو إطلاق الرئيس أنور السادات على معركة عبور القناة اسم «معركة بدر»!! ويلاحظ بدقة باهرة تصدر رجال الدين والشيوخ والإصلاح الديني الرد على انتصارات الإمبراطوريتين النمساوية والروسية في بلاد المسلمين في القرن الثامن عشر، من الحركة الوهابية في الجزيرة، إلى النقشبندية في الهند.
ويعرج على حركات المقاومة والاستقلال في القرن التاسع عشر؛ من حركة سيد أحمد برلوي في الهند، إلى الشيخ عبد القادر الجزائري في شمال أفريقيا، إلى حركة الإمام شامل الداغستاني في القوقاز! ويطرح تعثر علاقة جزء كبير من الدول ذات الأغلبيات المسلمة، لا سيما العربية، بالحداثة، حيث تجريب النظريات الاقتصادية الغربية جلب الفقر، وتجريب المؤسسات السياسية الغربية جلب الاستبداد، ليخلص إلى أن القهر جعل هؤلاء يدمجون بين مقتهم أوضاعهم وبين عدائهم للغرب بوصفه مصدراً لهذه الأفكار، ليس بتطبيقاتها بل بما هي في الأصل.
ولا يكف لويس عن الإدهاش وعن طرح الأسئلة التي تتحدى البديهيات. أروع أسئلته: «أغلبية المسلمين ليسوا إرهابيين، لكن لماذا أغلبية الإرهابيين مسلمون؟».
فعلاً، لماذا؟
الشرق الأوسط