مانويل ألميدا
أثارت الأزمة السياسية الأوكرانية حالة من الخلاف الدبلوماسي على الصعيد العالمي، إلا أنها رغم ذلك لم تسترع انتباه الرئيس السوري بشار الأسد، الذي لديه ما يكفي من المشكلات داخل سوريا. لكن ألا ينبغي أن يشعر بقلق إزاء مواجهة مصير الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش؟ ما يثير الدهشة هو أن نتائج الأزمة الأوكرانية قد تصب في صالح الأسد أو ضده.
التوترات الراهنة في أوكرانيا، التي تعيد للأذهان ذكرى الحرب الباردة، تخفي استراتيجية عدائية ورؤية ثقافية الأولى مؤيدة لروسيا والأخرى مؤيدة للاتحاد الأوروبي. اندلعت المظاهرات عندما نكص يانكوفيتش عن الوعد الذي قطعه بتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة والسياسية مع الاتحاد الأوروبي. لكنه ما كان ليفعل ذلك من دون رعاية روسية، ترجمت إلى خمسة عشر مليار دولار من المساعدات في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، والتي أوقفتها روسيا بسبب الشكوك المحيطة بمصير يانكوفيتش.
وأدت التشريعات المناهضة للمعارضة التي أقرتها الحكومة الأوكرانية في أوائل يناير (كانون الثاني) إلى تجدد موجة الاحتجاجات واسعة النطاق. ولم يفلح تصويت مجلس النواب لإلغاء هذه التشريعات أو استقالة رئيس الوزراء شيئا يذكر لاسترضاء المعارضة السياسية التي طالبت بإجراء انتخابات رئاسية. حتى أن هناك البعض ممن يتحدث عن احتمال نشوب حرب أهلية.
وجاء خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغاضب، الذي يصف جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى إقناع أوكرانيا بتوقيع اتفاق التجارة الحرة بالابتزاز»، دلالة واضحة على مدى كراهية روسيا لوجود حليف للغرب على رأس السلطة في بلد رئيس مجاور لها. واتهم مستشار بوتين لشؤون أوكرانيا يوم الخميس الماضي الولايات المتحدة «بالتدخل بشكل أحادي وفج في الشؤون الداخلية لأوكرانيا».
يذكر أنه، في ذروة الحرب الباردة، عندما كانت أوكرانيا جزءا من الاتحاد السوفياتي، كانت سوريا العميل العربي المفضل للاتحاد السوفياتي. فزار حافظ الأسد موسكو في عام 1971، بعد وقت قصير من توليه السلطة في انقلاب عسكري، وقام بتعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين الدولتين.
وأثناء حكم الرئيس ميخائيل غورباتشوف، عمل الاتحاد السوفياتي على تنويع علاقاته الدبلوماسية مع دول أخرى في الشرق الأوسط (بما فيها إسرائيل)، ثم انقطعت معظم المساعدات الروسية الموجهة إلى سوريا بانهيار الاتحاد السوفياتي. لكن بعض أبرز ملاح هذه العلاقة لا تزال قائمة، بما في ذلك وجود البحرية الروسية في ميناء طرطوس السوري.
وفي يناير من عام 2005، التقى بشار الأسد – نتيجة لوطأة الضغوط الغربية بشأن لبنان – بوتين في موسكو. وتعهد الرئيسان بتجديد علاقات حقبة الحرب الباردة، وألغت روسيا 13.4 مليار دولار من الديون السورية (أكثر من 70 في المائة من الديون السورية لروسيا).
ورغم حنين بوتين لعصر الحرب الباردة، بوصفه انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية» في القرن العشرين، إلا أنه يدرك جيدا أن أيام الاتحاد السوفياتي التي كان قادرا فيها، أو يعتقد أنه يملك القدرة، على تحدي مصالح أميركا تقريبا في كل ركن من أركان العالم صارت من الماضي. كما لم يعد الشرق الأوسط، من منظور روسيا، ساحة للتنافس المباشر للقوى العظمى. ويقول ديمتري ترينين مدير مركز كارنيجي في موسكو، في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست: «لا تنخرط روسيا في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بنفس الصورة التي كان يمارسها الاتحاد السوفياتي، لذلك فإن سوريا لم تعد مهمة بالنسبة لروسيا كموطئ قدم من الناجية الجيوسياسية». من ناحية أخرى، يبدي الخبراء الروس اتفاقا على رغبة روسيا اليوم في الاحتفاظ لنفسها بدور مميز، والحفاظ على قدر من النفوذ في المشهد العالمي، وموازنة القوة الأميركية وخصوصا في مجلس الأمن الدولي دون الدخول في صراعات مسلحة على تلك الأهداف. كما تسعى لإقامة نظام عالمي لا يحل فيه مؤيدو الليبرالية وحقوق الإنسان والأجندات الخارجية محل سيادة الدولة. المثير للمفارقة، هو أن روسيا تقوم باستثناءات عندما تقرر حاجتها إلى التدخل في الشؤون الداخلية جيرانها.
لا يزال لروسيا مصالح معينة في سوريا. فالحكومة السورية أهم مستورد للأسلحة الروسية كما تستخدم روسيا مرفق طرطوس البحري. وهناك أيضا مخاوف روسية إزاء الموجة الجهادية في سوريا، والتي تعيد أشباح الشيشان والمخاوف من أن تؤثر على حرب روسيا ضد الإسلاميين في داغستان. لكن أيا من هذه المصالح لا يشكل ضرورة حيوية لروسيا لوصف بقاء الأسد في السلطة بأنه أحد الأهداف المحورية للسياسة الخارجية.
من ناحية أخرى تشكل إيران، لا روسيا، الراعي الرئيس والمؤيد للأسد. لكن الواضح أن موقف روسيا غير مرتبط بنتائج الأزمة السورية، فقد قبلت روسيا ببيان جنيف 2012 الذي يدعو إلى إقامة حكومة انتقالية في سوريا على أساس الموافقة المتبادلة. كما لعبت دورا محوريا في التوصل إلى اتفاق تدمير الأسلحة الكيمياوية السورية. وانحازت أيضا إلى الصين في عرقلة معظم قرارات مجلس الأمن الدولي التي يمكن أن تعطي الغرب تفويضا للقيام بعمل أكثر حسما ضد الحكومة السورية.
لذا، كيف يمكن لنتائج الأزمة الأوكرانية أن تؤثر على موقف الأسد وروسيا في الأزمة السورية؟ هناك سيناريوهان على الأقل. فدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للمعارضة في أوكرانيا سيضع الدبلوماسية الروسية على حافة الهاوية، وبالتالي قد يجعلها أكثر تعنتا في التنازل عن سوريا. ومن ثم فإن وقوع توترات خطيرة مع الغرب سيكون أمرا لا مفر منه إذا خسر يانكوفيتش معركته ضد المعارضة وتولت السلطة حكومة موالية للغرب. هنا سيكون الأسد هو المستفيد.
إذا تمكن يانكوفيتش، بدعم روسي قوي، من النجاة من محاولات المعارضة لعزله، حينئذ سيظل الرجل القوي في أوكرانيا، أو قد يجري استبداله بمتشدد آخر موال لروسيا، وحينئذ لن يصب ذلك في صالح الأسد. فقد تكون الدبلوماسية الروسية أكثر استعدادا لفكرة تشكيل حكومة انتقالية في سوريا من دون الأسد، شريطة أن تتلقى ضمانات بشأن مصالحها الأساسية في بلاد الشام. وقد يمكن تفسير زيارة أحمد الجربا، زعيم الائتلاف الوطني السوري المعارض، الأخيرة لموسكو، على أنها إشارة إلى ذلك.
منقول عن الشرق الاوسط