أحزان لا تنتهي‎

يقول عطا – بعد أن أفاقَ من الغيبوبة وعاد اليه رشده  : رأُيتُ كل شيء بسرعة خاطفة وبرق  في  ذهني الكثير  من التجليات  والأفكار  وقلت في  نفسي    سأسقط لا  محالة  ..   كان أخي – راضي – على الطرف المقابل للسقالة الخشبية ويبدو انه أحس أن السقالة ستقع فقفز  سريعاً  الى  داخل  أحد الشبابيك القريبة.   كنت انا  على  طرف  السقالة البعيد   أمسك بيدي قضيباً من الألومينيوم طويلاً نستعمله لتسوية الطينة ولاستقامة مستواها لم يكن هناك وقت لرمي القضيب والتعلق بأحد الحبال بعد ان مالت السقالة الى ناحيتي معلقة من جهة واحدة فقط فانزلقتُ وهويتُ من الارتفاع  بعلو  أربعة  طوابق..   سطع  عقلي  بوميض  من الافكار المتسارعة  . قلت علي  أن  أبقى   ممسكاً بقضيب الالومينيوم ربما على مبدأ قضيب  لعبة  الزانة قد يعيد توتر القضيب قذفي مخففا من وقع سقوطي وقد اجد وقتا للتفكير اين اضع يدي ورجلي وربما استطعت ان اتجنب الوقوع  على قطعة حديد أو حجر كبير .سأرفع ذراعي الاخرى الى جانب رأسي لأحميه فلو سلم الرأس سلم الجسم مهما كانت الإصابة شديدة , وسأتحمل الألم وسابقي عيني مفتوحتين وبالتأكيد سيعطونني لاحقاً مسكناً .  ربما أخطأ أخي – راضي- وتعجل بتهيئة السقالة ولم يضع وزنا كافياً على قوائمها الأربعة وربما انقلب أحد أكياس الإسمنت عن  إحدى القوائم وجر  معه أكياساً أخرى فاختل بناؤها وتداعت .

كم عليه ان يبقى الإنسان يقظاً والخطأ لا ينام ؟ لا بد لأحد السباحين المهرة أن يغرق ولا بد لسائق متمرس أن يتعرض لحادث مرور ,الأيادي تتعب والقلب يمل والصبر ينفذ والبصائر تسهو. أخر شئ تراءى  لي   قبل أن أصطدم بالأرض كان وجه  ابني حمود ومؤخر رأسه العريض قال لنا الطبيب بعد ان ولد بشيء من الأسف والحيرة : يبدو ان  هذا الطفل   مصاب بداء المنغولية  وأردف إن ظهر ذلك واضحا في الاشهر القادمة عليكم أن تتحلوا بالصبر والايمان بقضاء الله , المصاب به يكبر ولدية درجة من التخلف العقلي لذلك لا تتوقعوا منة تحصيلا علميا هذا ان استطاع تجاوز المرحلة الابتدائية وقد تضطرون لوضعه في مدرسة خاصة وقد يجد عنده المدرسون موهبة ما كالرسم أو السباحة فينمونها ويكبرونها ويعيش مميزاً متفوقاً قال- عطا – للطبيب بتحسر  وتألم  جاف   هذا بكري من الذكور جاءني بعد عشر سنوات على ولادة أخته الصغرى وكان لنا امل كبير بصبي يحمل إسمي وأُحَمٍّلُه شقائي لاحقاً , لا وجود لهذه المدارس عندنا في القرية ولا وجود للمال الزائد أنا اعمل بقوة عضلاتي وسأبقى أعمل ما بقيت صحيح الجسم لا الوم أحداً ولا حتى الله وسأحمل ما دمت أتنفس شقائي وشقاءَه معاً . نقلاً عن مجموعة العمال التي  هرعت   لتسعفه أن قضيب الألومينيوم كان لا يزال ممسوكاً تحت إبطه الأيمن لكن عظام الكتف لم تكن بمكانها وعظام ساقيه تصدر اصواتاً ورأسه ينام على كثيب من الرمل الناعم . وقبل أن تعود اليه حواسه بزمن غير معلوم كما قالت زوجته وقد رافقته أخر أيام غيبوبته أن اسم حمود لم يكن يغيب عن شفتيه و قال هو لاحقا أنه رآه مرة يرتدي ملابساً زرقاء قطعة واحدة كالتي يرتديها مهندسو البناء اثناء عملهم وعلى رأسه خوذة صفراء لامعة ويضع نظارة شمسية ., ورأى مرة اخرى تجمعا كبيرا من الناس الفرحين وسمع اصوات وزغاريد النساء , بقي على هذه الحالة اكثر من عشرين يوما وقل الاهتمام به وصارت الممرضات يتثاقلن وقد اعتدن عليه ولم يعد من شيء يستحق إلا تبديل السيرومات وتقليبه من  جهة لأخرى   وتبديل اغطية  وشراشف  سريره  ونظافته الشخصية   . في إحدى المرات صدر عنه صوت صغير خشن تنبهت له إحدى الممرضات فنادته في أذنه يا أخ ياأخ  أمال رأسه قليلاً باتجاه الصوت.     وتضيف زوجته أنه بعد أن فتح عينيه وتكلم لم يعرفني انا وحمود لمدة ثلاثة أيام تقريبا كان يحادثنا حديث الغرباء وتقول ضاحكة : قلت له أنا أمرأه سورية أعمل هنا في النظافة وأحضر أبني معي خوفا عليه فلا معيل له غيري وفي اليوم الثالث نام نوما طويلا , طول الليل وجزءً من النهار وعادت الى وجهه حمره خفيفة وانفتحت أساريره . استيقظ بعدها ولما راني انا وحمود قال منذ متى أنتما في لبنان ؟ وقال عطا :  ذاك اليوم كنت أحلم وكأني أسير على درب ضيقة تحفها عن جانبيها حشائش خضراء طويلة تجاوز  اعلى الكتفين   سرت كثيراً الى ان وصلت الى بوابة خشبية ففتحتها ودخلتُ.

تعلم حمود عادات جديدة وصار يخرج كل يوم تعتني به أمه تزرر قميصه النظيف وترفع سرواله و تشد  خصره   بحزام أنيق كان يبدو مميزا فعلا عن أقرانه , يميل الى السمنة ويحب الكرات الملونة رافق أقرانه الى المدرسة إنما دون دفاتر وأقلام ولا واجبات منزلية وعرف أقرانه حالته فعاملوه  برفق ولين وعلموه بعض النكات والحركات القبيحة . أحياناً كانت أمه تبكي وأخرى تضحك حين يعود بسروالة المتهدل وأزرار قميصه المزررة على غير انتظام تمسح عن جانبي فمه لعابه المتجمع وتطلب منه أن يبقي لسانه الكبير داخل فمه وتكرر عليه ما تقوله له كل يوم بالحركات والإشارات والكلام أن يبقى بعيداً حين يرى سيارة قادمة وان لا يقترب من الحفر والنار ولا يصعد الى السطح.   قيل أن تغيب الشمس كانت العائلة تجلس على شرفة المنزل الواطئة عطا في المنتصف على كرسيه المتحرك وحولة ابنتاه وزوجته كما يفعلوا كل يوم وكأنهم بانتظار أن يطل  حمود من رأس الحارة فحدث صخب كبير وسُمعَ صوتُ اقدام راكضة واقبل أطفال يتراكضون  كأفراس السبق وقبل ان يصلوا الى منزل حمود أخذوا يصيحون وكأن كل واحد يريد لصوته ان يصل أولاً يا عمي عطا تعال وشوف حمود…’ يا عمي عطا مات حمود  ….صاح أخر لم يمت نقلوه الى المستشفى …, يا عمي عطا صهريج – زين الدين – ضرب رأسه من الخلف. عائلة  زبن الدين معروفة لا تؤذي أحداً , ثلاثة أبناء , والدهم كان يعمل بلاطاً في القرية ولم يغادرها إلا قليلاً أنهكته الحياة ومات مبكراً وترك أبناءه وزوجة نشيطة .تشجع الأولاد وخرجوا إلى العمل كبيرهم نادر سافر الى الأردن واشتغل بكل شيء واستقر بالنهاية نادلاً في أحد المطاعم الصغيرة , جمعوا مبلغا من المال واشتروا لأمهم بقرة هولندية ضخمة بضروع زهرية   واسعة  وأهدوها في أحد الأعياد أربعة أساور سميكة من ذهب حقيقي رفضت الوالدة ان تضعها في معصميها كونه لا يليق بامرأة أرملة أن تبدي زينة واضحة واعتادت يدها ان تكون حرة غير مُسوّرة كما قالت , لكن وتحت إصرار أبناءها – وقد أخذتهم عزة بالنفس – وأرادوا بيان حالة تحسن أوضاعهم المعيشية وازدهار أعمالهم أجابت رجاءهم وطوقت معصميها باثنتين من كل جهة وكانت تخفيهم في كثير من الاحيان تحت كم الثوب الطويل او تضع عليهم عصابة سوداء …. في أحد الصباحات أرادت السيدة أن تاخذ البقرة الى المرعى القريب و كانت قد نزلت زخات مطرية في أول الشتاء فنبتت أعشاب غضة تكاثفت في أماكن تجمع المياة وحوالي الأحجار الرطبة جَرّت السيدة البقرة بحبل لفته على معصمها وأوثقت إحكامه بقبضة يدها واختارت طريقا ضيقاً مختصراً. تنبهت مجموعة من الكلاب وقد أيقظتها جلبة الصباح  و رائحة وخوار  البقرة وابتدأت بالنباح وعلا نباحها واشتد ,   لم تهتم المرأة وتابعت طريقها إلى أن هاجمتها إحدى إناث الكلاب- -وكانت ذات جراء – هجوما وحشياً بأنياب أشبه بأنياب الذئب , استشعرت البقرة الخطر وسارت راكضة تدق الأرض بأظلافها وسحبت     وراءها المرأة, انعقد الحبل وتوتر واشتبك  مع  الأساور وانحشر تحتها وضغط معصمها فباتت لا تستطيع له فكاكا فأسرعت تماشي سرعة البقرة الخائفة وتذب بيدها الاخرى وبصراخها الكلبة التي تحاول نهشها من الخلف, تركتها الكلبة بعد مسافة وقفلت مسرعة الى جرائها. انفلتت فردتا حذائها ووقعت على الأرض أمسكت الحبل باليد الأخرى وصارت تجذب البقرة بكل ما بقي فيها من قوة جرتها البقرة مسافة قصيرة وتوقفت متحفزة  ’ حررت الحبل من معصمها وجلست تنظر مبلغ إصابتها كان كاحلاها قد التويا التواءً واضحاً وعلى ركبتيها ومرفقيها خدوش والام  ومضض  على  صدرها     , عادت الى المنزل متألمة وجاء أبناؤها يريدون ذبح البقرة لكنهم أجمعوا في النهاية أن لا فائدة من معاقبة حيوان لا يعقل فباعوا البقرة وأزادوا على ثمنها مبلغاً من المال واشتروا صهريج يشترون المياه  من الآبار القريبة ويبيعونها في القرية  .كذلك يعرف فرع هذة العائلة – بالأعرج – يبدو أن والد جدهم كان أول من عرج في القرية او كان الأعرج الأوحد فيها ومن كثرة مناداته بالأعرج ذهب اسم العائلة وصارت عاهته بديلا لها, يقال أنه كان فلاحاً مكتملاً لا يخيفه شيءٌ يحسب له حسابات أبيض الوجه ملون العينين نشيط الذهن والجسد يحب الارض ويقضي معظم أوقاته يجوب الأراضي الخالية و الحقول القريبة لا يخاف  ولا يهدأ   ويحفظ بالخبرة والمعايشة أماكن النباتات البرية ومنابت الفطر ومساكن رفوف الحجل . يستدعونه حين يحدث خلاف على حدود القطع الزراعية وملكيتها ويضعون اسمه شاهداً رئيسيا على أوراق البيع والشراء  ,  ذاك الزمان لم يكن بالقرية مطحنة قمح فخرج أحد الأيام الى قرية  قريبة  من المدينة  فيها  مطحنة  حبوب    يحمل كيسا من القمح على حمارة وأثناء عودته كمن له اثنان من( الكسارة الحوارنة) في منطقة وعرة في منتصف الطريق تعرف ب -رُجُم الطبيخ – وحاولا تخليصه الحمار وكيس الطحين واشتبك معهما بالأيادي والأحجار وأصابهما فتركا الغنيمة مغلوبَينْ وأُصيب هو بحجر ضخم على ركبته اليمنى لكنه تحامل وتحمل الألم وأوصل الحمار وكيس الطحين الى القرية, تورمت ركبته كثيراً وعالجها بالتثبيت والطب الشعبي لكنها  لم  تعد  تنطوي وقسط طرفه  كأنه قطعة واحدة  واستعان بعكاز  بقية  حياته   .    أنجب تسعة أبناء أربعة إناث وخمس ذكور أبنة الأكبر- فارس- كان مثل والده تماماً كأنما ولد بجناحين ورث  حب  الارض  وحديث المواسم  ورحلات الصيد وسكنى الارض البعيدة  , توفي باكراً في بداية الشباب بلدغة أفعى أحد أيام الحصاد القائظ   وقضى الأعرج بقية حياته نزقاً مكروباً يحمل احجاراً صغيرة في جيوبه تحسباً للعراك والهوش . قال زين الدين  في التحقيق أنه نبه الأولاد الى الابتعاد عن الصهريج وأنه كان يرجع الى الخلف بطيئاً ,وان الصهريج يحمل جهازا يصدر صوتاً منبهاً حين ينقل (كير) السرعة الى وضع الرجوع   وانه حزين جدا وسيحمل وزر هذا الولد تعيس الحظ مدى عمره إن حدث له شيءٌ.
بقيت أمه الى جانبه في المستشفى تمسح لعابه حول فمه وتحضن يديه ذات الأصابع القصيرة والثخينة براحتيها وتنظر الى حركات شفتيه الشبيهة بحركات االرضاعة في اليوم السابع فارق الحياة , توفي حمود دون ذكريات..

About مروان الشامي

أنا مروان الشامي طبيب سوري مهتم بالمدنية والتحضر أعمل خارج سوريا حاليا
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.