حميد عقبي*
الليلة ليلة حضرة مولانا أبو صالح سلطان الرجال، ليلة مختلفة تماماً ولها طقوسها الخاصة، يلبس الجديد ويضع في جيبهِ ثروته في صرة قماش، يربطها بعناية ويتحسسُّها كل وقت كونها كنزه الوحيد ومفتاح أحد أحلامه.
يتفق علي مع رفيقه على أخذ مكان في مقدمة الصفوف لمشاهدة الطقوس وألا يفوتهما شيء، هذا المكان المميز للرجال وليس للأطفال لكنه يشجع صديقه التصرف كالرجال وعدم التفريط في هذا الموقع المهم، الجميع هنا يعرفونه فهو أبن صاحب مقيم الحضرة ومن حقه أن يختار المكان الذي يحبه وأن يصطحب معه رفيقه فوالده مشغول في الإشراف على عشاء الضيوف، أهل الحارة كلهم هنا وللنساء والأطفال الصغار مكاناً قريباً لكن لا يحق للحريم مشاهدة كافة التفاصيل، ينظر إلى الميكرفون الذي تم ربطه بقصبة اريل التلفزيون كي يصل صوت الأناشيد والمولد للحارات القريبة.
ينتظر هذه الليلة منذ سنة فقد كان مريضاً العام الماضي ولم يتمكن من حضورها، لكنه هذه المرة وقبلها بشهرٍ نصحه أحد رفاقه بعمل نذر للتقرب من ولي الله الصالح الشيخ عبدالقادر الجيلاني صاحب هذه الحضرة..يتذكر نقاشه مع رفاقه وهم يرددون ما يقوله الكبار عن ولي الله ومعجزاته الخارقة وبركاته التي ينعم فيها أهل الأرض والسماء.
في هذه اللحظة الهادئة قبل بداية مراسم الحضرة بدقائق حيث يخيم الصمت خلال تناول الفقهاء وخدم الولي والمنشد للقهوة، يسمع ذلك النقاش الآن يتذكره ويعيشه
الأول : ــــ الكبار يقولون الأولياء لهم عند الله ما يريدونه
الثاني:ـــ سيدنا ولي الله عبدالقادر الجيلاني حبس الشياطين والجن ووضعهم تحت الأرض
الثالث:ــ سمعت جدتي تدعوه بعد صلاتها وتطلب منه أن يرزق الله أبي ويقضي ديونه وبعد أسبوع حصل أبي على عمل وكسب الكثير ..كله ببركة الولي لكن لازم تنذر كما فعلت جدتي.
الرابع :ـــ لكن الولي مات…
هنا يصفعه الأول على رأسه وهو يستغفر ثم يصرخ فيه
ــــ راح تخسف بنا الأرض بسببك…أولياء الله جلوس تحت عرش الرحمان هكذا سمعت أمي تردد ما سمعته من القيم حارس مقام الشيخ أبو صالح.
يضيف الثاني :ــ وهم ينزلون من السماء إلى الأرض يساعدون من يدعوهم..لولا قوتهم كانت الدنيا خراب لآن الشيطان ينفخ نار
الثالث : يا على قل يا أبو صالح وتنوي بنذر بس يقولون الذي لا يوفي بالنذر ..ربنا يمسخه يخلي وجهه مثل القردة.
الرابع : خلى نذرك كبير علشان تتحقق دعوتك.
ولكن هل الله والولي يعرفان لغة الأطفال؟
هنا يصفعه الجميع وهم يستغفرون
الأول :ـــ ولي الله يا ملعون يعرف لغة الطير والشجر والحجر.
الثاني :ــ الذي يغلط على الولي يدخل النار.
الثالث :ـــ ولي الله الجيلاني صاحب نبي الله الخضر ، تحرسه الملائكة هكذا قال شيخ الجامع..الأحسن أننا لا نتدخل بحاجات كبيرة ونظل صغار.
ينتهي النقاش …هنا يقرر أن ينذر بثروته ويؤخر حلمه الأولى في شراء كرة قدم، جمع هذه الثروة من مصروفة الخاص فله أحلام صغيرة شراء كرة وحلمه الكبير شراء دراجة هوائية.
الولي حسب ما توقع رفاقه نفذ رغبته ولم يمرض هذه الليلة ولا أحد يدفعه أو يطرده من الصف الأمامي المخصص للكبار..تبدو الأمور جيدة ولكن عليه دفع النذر الليلة بعد نهاية الحضرة يمر أحد خدم الولي بيده صحن كبير وهو يصيح من كان في رقبته نذر يضعه هنا..في اللحظة تنطفئ الأضواء وخلال جمع النذور فقط..دقائق قليلة يسود فيها الظلام..هكذا جرت العادة عند جمع النذور.
ترتعش زهرة روحه مع تراتيل المولد ثم ترقص بفرح ساحر مع إرتفاع إيقاع الأناشيد..الجميع هنا يعيش سكرة ترتفع لحظة بعد لحظة، هؤلاء البسطاء لهم همومهم وأحلامهم الصغيرة مثله، هو يتمنى بداخله الآن أن يمتلك كرة تجعله الكابتن على رفاقه، الآخرون أي الكبار مطالبهم أيضاً متواضعة، أغلبهم يتمنون قضاء ديونهم أو شفاء مريضهم وأهم من ذلك البركة في الرزق والعيال وتفريج الهم، بعضهم في هذه اللحظة الهامة يتمتم بصوتٍ مسموع ويهمس للولي بطلبه..علي من موقعه الإستراتيجي يسمع هذه الهمسات ويتفاعل معها، يتمنى من الولي أن يرد على هؤلاءِ ويحقق رغباتهم.
يرتفع الإيقاع بقوة مع ترديد مقطع ” موالي يا موالي أبو صالح سلطان الرجال”، يهتز الجميع، يتدافع خدم الولي ــ هي لحظة الذروة ـــ ينزل الخدم إلى وسط الحلقة لتبدأ المرادعة، يتناطحون برؤسهم، يركضون يضربون الجدران برؤسهم، قوة غريبة وهائلة تفوق قوة أضخم الثيران، يشعر علي أن الأرض تهتز من تحته لكنه لا يشعر بالخوف، يتفاعل هو أيضاً يهز رأسه، يكاد يحسُّ بقوة غريبه تدعوه للركض والمشاركة، هنا يقترب منه شيخ الحضرة يمسكه، يهزه…يشعر أنه فهم رغبته، حركة الشيخ جعلته ثابتاً في مكانه.
يسأل نفسه :ـــ هذه الشجاعة والقوة أهي كرامة من الولي؟
يظل جسده متسمراً كما أمره شيخ الحضرة، يتصبب العرق من جبينه ، يشعر بقوة داخلية وأن بوسعه هد الجدران الإسمنتة بضربة واحدة من رأسه الصغير.
تنتهي الحضرة يلمحه الشيخ، يبخ وجهه بالماء، يشعر بالسكينة ثم يخر على ركبتيه لا يفهم ما يحدث له.
تأتي لحظة دفع النذور عليه رمي مدخراته كما وعد الولي وأن يغترف غرفة من طست فيه تراب جلبوه من مقام الولي، يتسارع الناس إليه، يغترفون منه، يمسحون به وجوههم وينثرونه على فرشهم وبعضهم يسفه أو يمزجه مع الماء كشراب مبارك…في هذه اللحظة يمد ليلتقط الصرة يعود إلى الواقع يحسبها بشكلٍ مادي..ضياع المال يعني تبخر أو تأجيل حلمه في شراء كرة ـــ يعني لن يصبح كابتن على رفاقة، لن يصبح صاحب فريق يختار الأقوياء للعب ضمن تشكيلته ويحقق الأهداف كونه الكابتن وصاحب الكرة، سيظل مجرد لاعب قد يكون ضمن تشكيلة قوية وربما ضمن التشكيلة الضعيفة فصاحب الكرة هو من يقرر وله السلطة المطلقة تفوق سلطة حكم المبارة والجميع لا يناقش في قراراته هذا قانون اللعب ـــ هنا تداهمه كل هذه الأفكار، تنطفئ الأضواء، في بطن الظلمة يمسك بالصرة يتشبث بالحلم، تمر اللحظة، يعود الضوء، تظل يده ممسكة بصره في جيبه.
تنتهي الليلة، يهرع إليه رفاقة يسالونه إن كان دفع نذره، يرد عليهم بنعم، يركض ليعتزل، يُحسُّ بفداحة الخطيئة، يندم، يقرر أن يذهب ليسلم الصرة إلى الولي يداً بيد.
في الصباح الباكر يركض إلى مقام الولي ممسكاً بالصرة، يصل ويتسلل إلى الداخل، يجثو على ركبتيه معتذراً ويحاول بصدقٍ شرح موقفه متمنياً أن يكون الولي يفهم لغة الأطفال.
في لحظة المصارحة هذه يده ترتعش، تمد بالصرة، يتخيل أن يداً بيضاء مضيئة ستخرج لتصافحه وتأخذ الصرة، ينتظر فعلاً حدثاً كبيراً بحجم المشكلة، لكن صوت صراخ حارس المقام ولعناته على هذا الذي جاء إلى المقام ليسرق التراب أو يأخذ شفاعة وبركة مجانية…في البداية لم يفهم صراخ القيم، لكنه تنبه أنه المتهم والمقصود لم تحدث معجزة، المعجزة كيف يفلت من الحارس؟
يقفز بسرعة متجاوزاً سور المقام، يركض هارباً، بينما هو يركض يتجاوز المقبرة، فجأة يحسُّ بكرة أمامه يظل يركلها ويركض إلى أن يتجاوز مرحلة الخطر، تتدحرج الكرة، تستقر، يُسرع لتفحصها إنها شبه جديدة وقوية وأفضل من الكرة التي كان يحلم بها، يتفحص جيبه…الصرة موجودة، كيف حدث؟ ماذا يحدث بالضبط؟ أهو الولي يفهم لغة الأطفال؟ هذه الكرة أهي رزق من الله ساقه الله إليه؟ أهي محض صدفة ومجرد حظ؟
يركل بكل هذه الأسئلة، يحتضن الكرة ويركض لتشكيل فريقه الرياضي.
* كاتب وسينمائي يمني مقيم في فرنسا