نبيّك هو أنت….لا تعش داخل جبّته!! (1)

وفاء سلطان

ماهو الجهاز العقائدي وكيف يتشكل؟
مامدى قوة تأثيره على حياة الإنسان؟
لماذا ليس سهلا أن نتخلى عن عقائدنا؟
كيف نستطيع أن نحسّن عقائدنها، أو أن نستبدلها بأفضل منها؟
*************
الجهاز العقائدي هو نسيج فكري متداخل ومعقد، يبدأ بالتشكّل منذ اللحظة الأولى للحياة ويستمر باستمرارها.
كل خيط في ذلك النسيج هو خلاصة لتجربة ما، والنسيج برمته هو خلاصة التجارب التي يمرّ بها الانسان خلال حياته. لايمكن ان ينطبق جهاز عقائدي لانسان ما على جهاز عقائدي لإنسان آخر مهما تشابهت تجاربهما، اذ لا يوجد شخصان على سطح الأرض يعيشان نفس التجارب.
كلّ خلاصة تمسك بالأخرى، وفي النهاية تشكل تلك الخلاصات نسيجا فكريّا متينا لا تستطيع أن تغيره سوى تجارب جديدة وخلاصات اخرى.
هل بإمكانك أن تتصور بأن عليك أن تحيك قطعة من النسيج، ولديك حزمة من الخيوط المختلفة الألوان والأنواع. تسحب من تلك الحزمة خيطا خيطا وتربط الواحد بالآخر مرة إثر مرة، فتكبر قطعة النسيج في كل مرة تضيف خيطا جديدا، وتزداد صلابة وقوة وصعوبة في الفك وإعادة التركيب لو أكتشفت خللا ما فيها وقررت أن تعيد صياغته.
هكذا يتشكل نسيجك الفكري، فكرة فكرة. لا تسطيع أن تعزل واحدة عن الأخرى مهما اختلفت في طبيعتها وظروف تشكلها. لنفرض جدلا بأن قناعة تشكلت لديك تقول بأن صديقك عدنان رجل ماكر وليس أهلا للثقة. تدخل تلك القناعة كخيط في نسيجك الفكري لترتبط بغيرها. في حقيقة الأمر لا تستطيع أن تفصل بين تلك القناعة وقناعة تشكلت، لنقل منذ عشر سنوات، تصر على أن الدسم الحيواني يضر بالجسم ويجب التخفيف منه.
كلا القناعتين مختلفتان ولكنهما معا يشكلان خيطين في نفس النسيج، والتخلص من إحداهما سيخلخل وحدة النسيج بنفس المقدار.
إذا النسيج الفكري يُشبه إلى حد بعيد لعبة الدمينو Domino set عندما يسقط خيط منه قد لا يسقط الخيط الذي يليه ولكن حكما سيتأثر ويتخلخل. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل من السهل أن يسقط الخيط الأول، طبعا لا! وهذا ما سنحاول أن نتطرق اليه لاحقا.
********
يمر الإنسان بتجربة ما فيخرج منها بقناعة ما، ثمّ يضيف تلك القناعة إلى سابقاتها وهكذا دوالييك.
تصاب بنوبة زكام، يدخل جارك كي يطمئن عليك وفي يده حزمة من الأعشاب البرية، ثم يقترح عليك أن تتناول مغلي تلك الأعشاب فتفعل وتشعر فعلا بالراحة، إذ يخف ألم حنجرتك ويتحسن صوتك وتقل كمية المخاط الذي يتسرب من انفك. من خلال تلك التجربة تتولد لديك قناعة بأن هذا النوع من الأعشاب يفيد مرضى الزكام فتضيف تلك القناعة إلى جهازك العقائدي، ومع الزمن تنصح كل مصاب بالزكام بأن يتناول مغلي تلك الأعشاب.
الوعي في حيز عقلك هو الذي قرر أن يستقبل الجار ويتبع نصيحته ولمس آثار تلك النصيحة، ولكن اللاوعي خرج بالخلاصة وسجلها لديه كي يضيفها إلى خلاصاته الأخرى.
عندما تصاب مرة أخرى بالزكام لا تحتاج إلى جارك كي يدخل عليك مرّة أخرى وفي يده باقة من تلك الأعشاب كي ينصحك بشرب السائل المغلي منها، بل ستقوم بنفسك بتعميم خلاصة تجربتك السابقة وستركض إلى المطبخ كي تحضر المغلي دون الحاجة إلى تكرار التجربة السابقة. وقد تذهب في تعميمك لخلاصة التجربة أبعد من ذلك فكلما أحسست بتوعك صحي، حتى ولو لم يكن في طبيعته زكاما، تركض إلى المطبخ كي تتناول المغلي الساحر. تكرار الفعل دون الحاجة إلى خوض نفس التجربة يدعى بـ “البرمجة”. فلقد تبرمج اللاوعي عندك على أن علاج الزكام يتم بشرب مغلي تلك الأعشاب.
القسم الأكبر من عملية البرمجة تلك تتم في السنوات الأولى من العمر، ولذلك يصبح اللاوعي عند الإنسان في سنواته اللاحقة مبرمجا، ولم يعد قادرا على إعادة النظر في الخلاصة التي سُجلت لديه، فراح يعممها على كل التجارب المشابهة للتجربة التي أدت إلى تلك الخلاصة.
أضرب مثلا آخر:
لو اعطيت انسانا يعرف الانكليزيّة دون سواها كتابا بالعربية وطلبت منه أن يتطلع على صفحاته، سيقوم وبدون أدى تفكير بفتح الكتاب من اليسار الى اليمين.
تجربته الاولى في القراءة والكتابة علّمته بأن يفتح الكتاب من اليسار الى اليمين، فراح يعمم الخلاصة التي خرج منها على أي كتاب يفتحه.
والعكس صحيح لو اعطيت انسانا لا يعرف سوى العربية كتابا باللغة الانكليزية وطلبت منه أن يتطلع على صفحاته، سيقوم وبدون أدنى تفكير بفتح الكتاب من اليمين الى اليسار.
تجربته الاولى في القراءة والكتابة علّمته بأن يفتح الكتاب من اليمين الى اليسار، فراح يعمم الخلاصة التي خرج منها على كلّ كتاب يفتحه.
خلاصة التجربة تحولت الى فكرة استقرت في عمق اللاوعي عند الانسان الذي خاض تلك التجربة، ثمّ راحت تلك الفكرة تتحكّم بطريقة سلوكه عندما يتعرض لتجارب مشابهة.
فتح الكتاب من اليسار الى اليمين فكرة استقرت في عمق اللاوعي عند الانسان الانكليزي، وكانت قد تشكلت كخلاصة من خلال تجربته الاولى في علم القراءة والكتابة. لقد عممّ تلك الفكرة على تجاربه المشابهة، التي قادته الى فتح كتاب بلغة أخرى لا تقرأ من اليسار الى اليمين.
ونفس القول ينطبق على الانسان العربي الذي يفتح كتاب بالانكليزية من اليمين الى اليسار.
…………………………
قبل أن نتطرق إلى التعميم وفوائده ومساؤيه، سنعود للإبحار بعمق في كيفية تشكل الجهاز العقائدي.
كل تجربة نمرّ بها تترك لدينا إما إحساسا بالألم وإما إحساسا بالمتعة وإمّا لا تترك إي إحساس فتسقط خارج اللاوعي. الدماغ وعند الخروج من التجربة، يسجّل لديه نوع الشعور الذي رافق تلك التجربة.
عندما تحرق يديك بسطح ساخن ستتألم، وسيقوم الدماغ بتسجيل الخلاصة التي خرجت منها.
سيتشكل لديك اعتقاد بأن لمس السطح الساخن يسبب ألما، هذا الاعتقاد سيمنعك من تكرار التجربة في المستقبل.
لو لم يسجل دماغك تلك الخلاصة لما تبنيّت ذلك الاعتقاد، ولكنت ستلمس السطح الساخن مرّة اخرى كلما اقتربت منه.
كيف تمت عمليّة التسجيل هذه؟!!
الإحساس الذي نجم عن التجربة، والذي هو في النهاية خلاصة تلك التجربة تسجل في اللاوعي عندك. نجمت عن عملية التسجيل تلك تغيرات في تشريح وكيمياء الدماغ، هذه التغييرات تعتبر بمثابة شيفرا ترمز إلى الإحساس وتذكر به كلما واجه الانسان نفس التجربة.
هذه الشيفرا هي الخلاصة أو الفكرة بشكلها المبرمج!
تدعى العلاقة بين الفكرة والتغييرات التي رافقتها في الدماغ، أي الشيفرا، الإرتباط العصبي Neural associations.
ولذلك عندما نقول فلان من الناس مبرمج (مغسول) الدماغ، يحمل ذلك التعبير دلالات عضويّة تشريحية وكيميائية وليس فقط دلالات عقائديّة فكريّة.
…………….
لتوضيح تلك الفكرة قام الدكتور Merzenich في جامعة كاليفورنيا/ سان فرانسيسكو بتجربة على شمبانزي.
استطاع أن يتوصل الى منطقة في دماغ الشمبانزي تسيطر على اصبعه الوسطى. فقام بتدريب الشمبانزي على استخدام اصبعه الوسطى دون الأصابع الاخرى عند التقاطه لطعامه.
كان يشجعه بمنحه المزيد من الطعام كلّما استخدمها، ويمتنع عن ذلك كلما فشل في استخدامها.
خرج الشمبانزي من التجربة باعتقاد رسخ في دماغه على أنّ استخدام اصبعه الوسطي يؤدي الى حصوله على المزيد من الطعام.
التغييرات التي طرأت على منطقة الدماغ المرتبطة بالاصبع الوسطى، من جرّاء تسجيل ذلك الاعتقاد، أدت الى ازدياد حجم تلك المنطقة بمعدل 600 مرّة.
الممتع في الأمر، عندما توقّف الطبيب عن مكافأة الشمبانزي على استخدام اصبعه الوسطى لم يتوفق الشمبانزي عن استعمالها.
لقد فقد الشمبانزي المكافأة لكنّه لم يتوقف عن السلوك، لماذا؟
لأنه اصبح مفسول الدماغ!
كيف؟
لم يعد الواقع هو الذي يتحكم بالسلوك، بل التغييرات الدماغية التي سببتها قناعة الشمبانزي بأن استخدام أصبعه الوسطى يدر عليه مزيدا من الطعام، هي التي تتحكم به.
البرمجة الدماغية هي التي تتحكم بالأمر بغض النظر عن اسمترار الواقع الذي أدى إلى تلك البرمجة أو غيابه.
تساءل الدكتور ميرزينخ: هل بالإمكان إعادة فك البرمجة؟ وفي محاولة لتحقيق ذلك حاول أن يمنع الشمبانزي من استخدام اصبعه الوسطى. بمعنى آخر، حاول أن يغيّر قناعته بأن استخدام اصبعه الوسطى يدّر عليه المزيد من الطعام.
تساءل: كيف؟
طبعا المتعة التي يشعر بها الشمبانزي عند تلقي الطعام هي التي أدت إلى تبني ذلك الإعتقاد، إذا لا شيء سيساعد على فكّ البرمجة والتخلص من ذلك الإعتقاد سوى الألم.
وقال يحدث نفسه: دعني أسبب له ألما كلما استخدم اصبعه الوسطى حتى يتبنى اعتقادا مغايرا يقول بأن استخدام الأصبع الوسطى يسبب ألما.
لم تشر التجربة إلى نوع الألم الذي سببه الطبيب على الشمبانزي كي يجبره على التخلي عن اعتقاده المبرمج ( ربما لأن الأمر يتعارض مع الشروط الأخلاقية التي تُفرض عند إجراء تجارب على الحيوانات، وخوفا من احتجاج منظمات الدفاع عن الحيوانات)
المهم، أكد الطبيب أن تطبيق الألم أجبر الشمبانزي على التخلي عن اعتقاده ألا وهو ضرورة التقاط طعامه باصبعه الوسطى. عندئذ تبنى الشمبانزي اعتقادا مغايرا للإعتقاد السابق وهو أن استخدام الأصبع الوسطى يسبب ألما.
إذا لا نستطيع أن نغير قناعة ما إلا إذا دخلنا في تجربة معاكسة للتجربة التي أدت إلى تلك القناعة.
……………
الأفكار تجذب مشابهاتها.
تلك حقيقة أثبتتها الدراسات التي أجريت على السلوك البشري. بمعنى عندما يتبرمج اللاوعي يتشكل حاجز بين اللاوعي والوعي يمنع تسرب أية فكرة من الوعي إلى اللاوعي مالم تتوافق تلك الفكرة مع مثيلاتها الموجودة سلفا في اللاوعي.
أضرب مثلا:
قد يعتقد انسان أبيض بأن الإنسان الأسود يميل إلى العنف وبالتالي أكثر إحتمالا لإرتكاب الجرائم، لكنه يدخل لاحقا في تجربة يتعامل من خلالها مع رجل أسود ويجده تماما عكس اعتقاده المبرمج، فيحاول أن يصرف نظره عن تلك الحقيقة ويصرّ على صحة اعتقاده السابق. الفكرة السابقة لم تسمح بدخول فكرة جديدة تتعارض معها. ومع الزمن يحاول الإنسان باللاوعي أن يتجنب خوض كل تجربة قد تثبت له عكس قناعاته المبرمجة.
كان لي جارة عراقية شيعية هاجرت إلى أمريكا عقب حرب الخليج الأولى، وبعد أن هرس صدام حسين الشيعة في الجنوب وطاردهم حتى فرّ معظمهم إلى السعودية. في السعودية، وبناء على أقوال تلك الجارة، عوملوا بطريقة لا إنسانية، ولاحقا حصل معظمهم على إذن سفر وعمل في أمريكا.
في كل مرة كنا نتقابل كانت تهتك عرض الأمريكان، وتندد باسلوب حياتهم وبأخلاقهم وبقيمهم، وكنت أصغي إلى أقوالها بإهتمام بالغ ليس حبا بما تقول وإنما رغبة في دراسة ذلك النمط من السلوك!
مرة كنا في طريقنا من مدينة لاهويا في مقاطعة سان دياغو إلى مدينة كورونا في مقاطعة ريفرسايد، وكلا المقاطعتين في ولاية كاليفورنيا.
لا يمكن أن أتصور بأن هناك طريقا في العالم أجمل من الطريق الذي يصل بين تلك المقاطعتين. يمتد حوالي مائة ميل، وليس هو سوى صورة فنية تعكس إبداع الخالق والمخلوق!
عادة، عندما نسافر عبر تلك الطريق زوجي يقود وأنا أسترخي في مقعدي وأسرح ببصري عبر زجاج السيارة ثمّ أغرق في تلك الجنة المحيطة بي.
في تلك المرة كنت أقود وكانت جارتي العراقية تتبوأ مقعدي. عندما وصلنا إلى المدينة التي نقصدها خرجت من الطريق العام عبر طريق فرعي. هناك وعلى الزاوية كان يقف رجلا شحاذا ويمد يده سائلا المارة كي يعطوه بعض النقود.
أشارت جارتي العراقية بيدها إلى ذلك الرجل، ثم أطلقت ضحكة هستريائية وقالت: تلك هي أمريكا التي تدافعين عنها!
شعرت بامتعاض لم أستطع أن أخفيه، فالتفت إليها وبهدوء قلت: أخشى أن تعيشي حياتك في أمريكا، ياسيدتي، ولا ترين منها سوى أمثال ذلك الرجل!!
…………
في عقر اللاوعي عند تلك السيدة قبع محمد نبيّ المسلمين وراح يقرّ اذنها بكل أحاديثه التي تلعن الكفار وتحرم التشبه بهم ولا تسمح بالعيش بينهم. منذ محمد وحتى الآن لم يسمح الحاجز الذي يفصل الوعي عند المسلم عن اللاوعي من أن يدخل ذلك اللاوعي سوى من يقرع طبل محمد من السلفين والخلفين.
يعيش المسلم تجارب جديدة تؤدي إلى قناعات جديدة، لكنها وطالما تتضارب مع قناعاته التي تبرمج اللاوعي عنده، يرفض أن يتبناها ويصرّ على أنه لا يراها ولم يعشها.
الطريق الجبلي المحاط بأجمل الأشجار والأحراج والمهندس وفق أحدث الطرق العلمية لا يعبر عن أمريكا ولا يعكس شيئا من عظمتها، لكن رجلا معتوها ومرميّا على قارعة الطريق يمثّل كلّ ما يعنيه ذلك البلد!
ولذلك لم تستطع جارتي العراقية أن تتبنى قناعات جديدة، ووصل بها الأمر أن تعيش التجربة وتتظاهر بأنها لم تعشها.
الحاجز الذي يفصل بين وعيها واللاوعي عندها حاجز اسمنتي ثخين، ولا يسمح لأية فكرة تتعارض مع أفكارها المسبقة بأن تتسرب إلى اللاوعي عندها.
هي تبرمجت ولا تستطيع أن تعيش حياتها إلا وفقا لتلك البرمجة!
للحديث صلة.
……………………..
عزيزي القارئ: هذا ما وعدت به، وأعتذر عن التأخير فالتحكم بالوقت صار بالنسبة لي مشكلة. أرجو أن تتمّ قراءة الموضوع بالتسلسل وحتى آخر حلقة كي تحصل على الغاية المتوخاة. أرحب بالإقتراحات والتعليقات.

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.