لصوص الزمن ؟!

سيمون خوري :
لا أدري من قائل هذه العبارة الرائعة أو أين قراتها
” .. يالها من حماقة أن تخشى ضياع حياتك، دون أن تشعر بشئ اتجاه تبديد دقائقها وساعاتها ..”
تخطيت قليلاً عتبة السبعين ، بيد أني أدركت متأخراً قيمة الزمن . ربما لأننا نحن جيل الأربعينيات والخمسينيات ، لم ندرك أن الوقت هو العمر كله .وهو اغلى ما نملك بصفة شخصية ، بإعتباره هو الحياة .
كنا صغاراً نلهث لكي نصبح كباراً ، لم تكن لدينا آلعاب إليكترونية ، ولا ” أيرون مان ” ولا ” باربي ” من الثياب القديمة التي فقدت الحياة ، صنعنا كرة لعب ، نتأرجح على أغصان شجر الزيتون والجوز . ونتعارك وسط المقابر، حيث تتحول الصلبان والشواهد الى دريئة .وأغلب الظن ان ذلك كان يسعد موتى الماضي . نلاحق القطط والصراصير الطيارة ، ونراهن بعضنا على ” حبة راحة ” الحلوة أو على بذر المشمش .ومن عود صغير صنعن البنات ، صغيرتهن . هذه ” عائشة ” وتلك ” ماريا ” وكانت ضحكاتنا تعزف موسيقى وأفكار ، يتعذر صياغتها في الفاظ . وكثير من الالفاظ الراهنة لاتحمل لنا الآن ، ذات المعنى كما كانت في الماضي . حتى الشتائم ، كانت تحمل في طياتها ابتسامة ومحبة على وزن ” يبعتلو حمى ” و” العين التي تضربو ” .
وفي اليوم التالي ، على مقاعد الدراسة يتهاسم المعلمون بموعد التظاهرة ضد الإحتلال والإستعمار . ونحن الصغار في مقدمة الصفوف نهتف ” يلعن رب الإستعمار” وليسقط ” واحد من فوق ” وبسبب الضجيج والصراخ لم نستطيع تمييز الكلمة .. لكن لاحقاً عرفنا أن المقصود هو ” أرثر بلفور ” وزير الخارجية البريطاني الذي منح المنظمة الصهيونية وعدا بأرض فلسطين مقابل إستثماراتهم في المملكة المتحدة نتيجة أزمتها الإقتصادية حينذاك .
مثل الجميع عشنا على الكلمات ، والخطب الرنانة الجوفاء التي لم تستطع فتح كوة صغيرة في جدار الغباء السياسي انذاك لكافة حكام المنطقة واحزابها . تلك الخطب المتكررة مثل صوت ألة التنبية في السيارات القديمة . مجرد ” زعيق ” .أعتقد أنه نتيجة تكرار تلك الخطابات السياسية والعقائدية . إصيبت جملتنا العصبية وكافة مراكز الإستشعار لدينا بالعطب . ادت الى إنعدام أو الى إضمحلال الإستقلال العقلي ، وتنامي عقلية التواكل على الغير. وسيطرة عقلية ” هز الرأس ” ربما عبارة ” مواء ” قريبة الى حد ما من الواقع القائم وما زالت تحتفظ براهنيتها .
تكسرت وتبددت احلام الحرية والتحرر ، وحافظت كافة الدكاكين السياسية على رفوفها ما لديها من خطب ومقولات جاهزة . وربما لأننا لم نستطيع تغيير افكارنا السياسية والعقائدية القديمة … رواحت المنطقة في ذات المربع . وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير أفكارهم القديمة ، لا يستطيعون تغيير اي شئ . فما بالك بمجتمعات تحاول اللحاق بالماضي . وتقدم له حقوقاً ليست له . إنها أشبة بكلب ينبح على خياله في مرآة ثم يدور خلفها باحثا على ذيله . قلائل فقط من الأصدقاء الذين أدركوا أنه عندما تكون في صف الأغلبية ، فقد حان وقت التغيير . والتحرر من القطيع . من اؤلئك الذين يبحثون عن وسيلة لحشر الزمن في اربع وعشرين ساعة من الخطب الجوفاء . سنبقى نحمل راية اليسار الإنساني ، دون تعصب ولا مواقف مسبقة.
منذ ايام حضر احد احفادي لزيارتي لم يتجاوز عمره الخمس سنوات ، أهداني إبتسامته الجميلة . قال :


سألته المعلمة من أين أنت ؟
أجاب : فلسطيني يوناني ..
هكذا ستون عاماً ونحن فلسطيني سوري وجزائري وفلسطيني يمني وفلسطيني امريكي إنها الدياسبورا
والأن سوري ألماني وسوري أمريكي وسوري كندي وبلغاري ..الخ
وأيضاً عراقي نرويجي ودانماراكي …الخ
وكردي تركي و وعراقي وسوري والماني وبريطاني ..الخ
ويمني وصومالي ومصري وليبي وسوداني … دياسبورا بالجملة .
مهاجرون .. مجرد ناس عاديين دون ملابس أنيقة ..ولا سلوك استعراضي . نحاول اللحاق بالزمن . من أجل مصلحة ومستقبل أبناءنا والبشرية معاً . لا نبحث عن الماضي ، بل نتعقب المستقبل . نتمنى أن يكون مستقبلا جميلاً .
أتدري من الذي إخترع لفظة ” الغد ” ؟! حسناً …أكثر ما أخشاه على هذه الأجيال، هم لصوص الزمن . ما فوق العولمة القاتلة عندما يصبح الإنسان الحاضر أشبه بالإنسان الآلي . انها جرس الإنذار الأخير قبل إضمحلال الإنسان ، وتحولة الى مسخ كافكوي.
بالنسبة لي سارحل مطمئنأً لأني تداركت مؤخراً ما فاتني من زمن . إنها محبة الآخر ، وموسيقى ” التيبت ” وتأمل أمنا الطبيعة .
سيمون خوري أثينا 15 / 5 / 17

About سيمون خوري

سيمون خوري مواليد العام 1947 عكا فلسطين التحصيل العلمي فلسفة وعلم الأديان المقارن. عمل بالصحافة اللبنانية والعربية منذ العام 1971 إضافة الى مقالات منشورة في الصحافة اليونانيةوالألبانية والرومانية للكاتب مجموعة قصص قصيرة منشورة في أثينا عن دار سوبرس بعنوان قمر على شفاه مارياإضافة الى ثلاث كتب أخرى ومسرحيةستعرض في الموسم القادم في أثينا. عضو مؤسس لأول هيئة إدارية لإتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين فرع لبنان ، عضو إتحاد الصحافيين العرب منذ العام 1984. وممثل فدرالية الصحافيين العرب في اليونان، وسكرتير تجمع الصحافيين المهاجرين. عضو الهيئة الإدارية للجالية الفلسطينيةفي اليونان .
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.