رسالة إلى أهل الذكر

 اضطرنا الدكتور عبد المعطي بيومي عندما كتب كلمة – رسالة – إلى قبيلة المثقفين («المصري اليوم» ٣٠/١١/٢٠٠٦) لأن نعيد الحديث في موضوع كنا نريد أن نخلص منه إلى ما هو أهم، لأنه عرضه باعتباره «نصاً» قرآنيا، فلم يعد أمامنا خيار. وأنا أعذر الدكتور بيومي وأفهم موقفه هذا لأمرين:

 الأول: لأنه كما قال دخل الأزهر منذ 50 سنة، ومعنى هذا أنه لم يشاهد القاهرة في الأربعينيات، عندما كانت معظم النساء يسرن في الشوارع مكشوفات الشعر، وكانت مصر أكثر إسلاماً، وكان الإخوان المسلمين في الأوج، ولم يروا مما يحكم به الدين أن يقاوموا ذلك أو على الأقل أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن الحركة الوحيدة التي حدثت في مصر وقتئذ كانت تلك التي قادها الشيخ محمود أبو العيون احتجاجاً علي لباس البحر «المايوه» في المصايف المختلطة، ولو قدر له أن يشاهد هذا لخفف من غلوائه، ولعرف أن الأمر الذي يتحدث عنه ليس كما صوّره، وأن شيوخه لم يستنكروه.

 والأمر الثاني: الذي أعذره بشأنه أنه دخل الأزهر من ٥٠ سنة، أي أنه دخله صبياً في المعاهد الأزهرية فتلقى ما قاله له شيوخه من تفسير ابن عباس، وما ذهب إليه المحدثون من أن “السنّة” هي ما جاء عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، وأخذ هذا كما يأخذ التلميذ من أستاذه، ودارت الأيام فأصبح هو يعلمه لتلاميذه الذين يأخذون عنه.. وهكذا تأتي أجيال لم يقدر لها أن تنظر فيما قدم إليها من عهد التلمذة حتى أصبحوا أساتذة يعلمونه، وتم هذا كله دون تفكير أو تدبر وإنما هو تلقين عن تلقين.

 نحن يا سيدي – أعني من قلت عنهم «الهواة» – نظرنا كباراً فيما أخذتموه أنتم مآخذ التسليم كتلاميذ، ثم كان عليكم أن تعلموه، لأن هذا هو «المقرر والمنهج»، نحن درسنا كل كتب السنة، ولكن في سن ناضجة، وبثقافة منفتحة وبعقل نعطيه الحق المطلق في معرفة الخطأ من الصواب لأن هذا مجاله، ومهمته التي خلقه الله لها. أما الدين فإن مجاله أن يوضح لنا الخير من الشر، وأن يسير مع العقل فيما انتهى إليه من معرفة الخطأ والصواب، وهو منهج يخالف منهجكم الذي استكثر على العقل “التحسين والتقبيح”.

 رأينا المحدثين يقررون أموراً نرفضها، يقولون الصحابة جميعاً عدول، والصحابة لديهم هم كل من رأي الرسول ولو للحظة واحدة، بل يدخلون فيهم الجن المسلم وأطفال المسلمين، وكان منهم ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري، وهم أكابر الحديث.

 ونحن نرفض هذا لأن الصحابي حقا الذي يعد عدلاً بحكم هذه الصحبة هو أمثال أبي بكر وعمر وعلي وأبي عبيدة، وليس الذين قال فيهم الله: «وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين» «الجمعة ١١»، وقد كان هؤلاء ممن يقولون عنهم الصحابة.

 ورأينا المحدثين يتحدثون عن «الإقرار» وهو ما شهده الرسول من أحد فلم ينكره، علي أساس أنه لو كان حراماً لنهي عنه الرسول ولما سكت عليه. وتنازل الدكتور عبد المعطي وقدم إلينا قطعة من الفقه المضنون به على غير أهله، فقال: «ومما أقره القرآن وزاد عليه الخمار «غطاء الرأس»، فأمر سبحانه وتعالي بأن يشمل غطاء الرأس فتحة الصدر أيضاً بحيث تضرب المرأة غطاء رأسها علي فتحة صدرها فتغطيه بخمارها، والذين عرفوا قواعد المنهج في التشريع الإسلامي يعرفون أنه إذا أقر الله أو رسوله أمراً صار واجباً لأنه بإقراره دل علي وجوبه. وكذلك سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ما أقره الرسول صلي الله عليه وسلم بقول أو فعل أو تقرير، فما بالنا إذا كان النص القرآني أقر بغطاء الرأس «الخمار» وأمر بلام التأكيد، بألا يكتفي بغطاء الرأس فقط بل ليشمل الخمار، ولا يسمي خماراً إلا إذا غطي الرأس، تغطية الجيب الذي هو فتحة العنق والصدر.

 فالهواة الذين يهوون الخوض في الدراسات الإسلامية ولا يعلمون منهج التشريع الإسلامي في أن الإقرار – حتى بالصمت – يجعله أمراً تشريعياً فإذا سكت الرسول عن أمر حدث أمامه صار سكوته تشريعاً”.

 أجل قال هذا المحدثون وبعض المفسرين، ولكن هل علينا أن نأخذ ما قاله هؤلاء مأخذ التسليم؟ وإذا كان الله تعالي قد أمرنا أن نتدبر القرآن، أفلا يكون علينا أن نتدبر ما قاله المحدثون والفقهاء، وإذا كان القرآن يقول: «والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا» «الفرقان ٧٣»، فهل نخر ونسلم «بالعشرة» للفقهاء والمحدثين؟

 ولا يجوز للمحدثين أن يغيروا من معاني الكلام ليعدوا الإقرار مثل الأمر الصريح، وهذا لا يجوز، فكيف يكون السكوت مثل الأمر الصريح في مجال التشريع، كما لا يجوز الحكم علي الحق بأقوال الرجال – كائنا من كانوا – فإنما يكون الحكم علي الرجال بالحق.

 ومن ناحية ثانية، نجد الرسول يقول «الحلال ما أحله القرآن والحرام ما حرمه القرآن وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته»، ويقول «لا يأخذ علي أحد بشيء فإني لا أحرم إلا ما حرم القرآن ولا أحل إلا ما أحل القرآن» فكيف يعتبر المفسرون أن سكوته يعد إقراراً وحكماً؟

 إن ما يمليه العقل وما يأخذ به الشرع أيضاً هو أنه لا تحريم أو تحليل إلا بنص صريح من القرآن لا يقبل تأويلاً، لأنه إن قبل التأويل جاء الاحتمال، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فهكذا يكون الحرص في هذا المجال المهم، مجال التحريم والتحليل، أما أن يسكت الرسول عن أمر فيصبح مشروعاً وواجباً، فهذا ما يخالف طبائع الأشياء، و قصارى ما يقبل هو أن يصبح الأمر لهذا الشخص بالذات دون غيره.

 وجد القرآن المرأة الجاهلية تضع خماراً فأمرها أن تحجب بهذا الخمار فتحة الصدر، الأمر هنا هو تغطية الصدر، وليس الإبقاء علي الخمار، وفتحة الصدر يمكن أن تغطي أصلاً دون خمار، ولا يمكن أن تعد إشارة القرآن إلي الخمار هنا إقراراً، ولا أن يعد الإقرار تشريعاً، وكيف يعقل أن يأمر القرآن المرأة المسلمة في كل العصور، ومن كل الجنسيات أن تضع علي رأسها بالتعيين خماراً؟ ولماذا لا تضع طاقية مثلاً أو قبعة؟. الخلاف هنا هو خلاف في تحقيق طبيعة الإقرار والفرق بينها وبين الوجوب الشرعي الذي يسري علي الجميع.

والقواعد السليمة للتشريع تفترض التثبت، وتشترط شروطاً دقيقة لما يفرض، وهذا هو ما يأخذ به القرآن، لأنه يري أن التحريم أمر صعب ولا يجوز التوسع فيه، وقد حصره في النص الصريح من القرآن، وإذا كان ثمة اجتهاد فيفترض ألا يميل لإعنات الناس، لما أشرنا إليه ولأن التيسير أفضل من التعسير.

نقلاً عن “المصري اليوم”جمال البنا – مفكر حر

About جمال البنا

ولد فى المحمودية من أعمال محافظة البحيرة (تبتعد عن الإسكندرية 50 كيلو) فى 15/12/1920 من أسرة نابهة عرفت بعلو الهمة ، فوالده هو مصنف أعظم موسوعة فى الحديث (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى فى 24 جزءًا ، وشقيقه الأكبر هو الإمام الشهيد حسن البنا المرشد المؤسس للإخوان المسلمين .  عكف منذ طفولته على الاطلاع بحيث تزود بحصيلة ثقافيـة غزيرة ، وبعد أن أتم دراسة الابتدائية ودخل المدرسة الخديوية الثانوية . حدث شجار بينه وبين أستاذه فى اللغة الإنجليزية وهو إنجليزى ، فترك الدراسة غير آسف ، واستكمل دراسته بوسائله الخاصة .  واصل جمال البنا مطالعاته ، وأصدر كتابه الأول سنة 1945 وهو عن الإصلاح الاجتماعى، وفى العام التالى (1946) أصدر كتابه "ديمقراطية جديدة" الذى تضمن فصلاً بعنوان "فهم جديد للقرآن" استعرض فيه فكرة المصلحة كما قدمها الإمام الطوفى ، وانتقد الموجة الحماسية لدى بعض الدوائر بفعل نجاح دعوة الإخوان المسلمين وقال : "لا تؤمنوا بالإيمان .. ولكن بالإنسان" وهذه الملاحظة لا تزال أحد معالم دعوة الأستاذ جمال البنا فى الإحياء الإسلامى .  فى عام 1952 أصدر "مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم" كما أسس (1953 ــ 1955) الجمعية المصرية لرعاية المسجونين ، وحققت الجمعية ثورة فى إصلاح السجون ، وأدت إلى مجابهة بينه وبين السلطات .  عندما قامت حركة الجيش فى مصر بقيادة عبد الناصر فى 23 يوليو سنة 1952 بدأ الأستاذ جمال البنا فى كتابة كتاب باسم "ترشيد النهضة" ارتأى فى الفصل الأول أن هذه الحركة هى انقلاب عسكرى وليس ثورة ، وما أن اطلع الرقيب على ذلك حتى أصدر أمرًا بمصادرة الكتاب ، وأخذ كل الملازم المطبوعة ، وبهذا التصرف تأكد جمال البنا من أن الحركة ذات طابع ديكتاتورى ، وأن لا فائدة من محاولة تقدم الرأى والمشورة .  عنى الأستاذ جمال البنا خلال الحقبة الناصرية المعادية للاتجاهات الإسلامية بالحركة النقابية ، فأصدر وترجم الكثير من الكتب والمراجع التى نشرتها منظمة العمل الدولية بجنيف والجامعة العمالية بمدينة نصر والدار القومية.. كما حاضر بصفة منتظمة فى معهد الدراسات النقابية منذ أن تأسس سنة 1963 حتى سنة 1993 عندما انتقد التنظيم النقابى القائم . وقد كان آخر كتبه النقابية عن (المعارضة العمالية فى عهد لينين) الذى كتبته مدام كولونتاى ، فقام بترجمته والتعليق عليه .  فى سنة 1981 أسس جمال البنا الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل ، وكانت منظمة العمـل الدولية قد استعانت به فى عـدد من الترجمات ، كما استعانت منظمة العمل العربية كخبير استشارى . وبحكم هذه الصفات نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات فى كثير من الدول الإسلامية . وفى 1981 دعا معظمها للاجتماع فى جنيف خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولى بها ، وفى هذا الاجتماع تأسس الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل من مندوبى اتحادات عمالية فى الأردن والمغرب وباكستان والسودان وبنجلاديش . وللاتحاد مكتب فى كوالامبور وآخر فى الرباط .  مع السبعينات وملاءمة المناخ للعمـل الإسـلامى بدأ الأستاذ جمال البنا كتاباته التى كان أولها "روح الإســـلام" و "الأصــلان العظيمان : الكتاب والسُنة" ، وعددًا آخر من الكتب لا يتسع المجال لها .  ابتداء من 1990 شغل بإصدار كتابه الجامع "نحو فقه جديد" فى ثلاثة أجزاء الذى دعا فيه إلى إبداع فقه جديد يختلف عن الفقه القديم ، ولا يلتزم ضرورة بالتفسيرات ، أو علوم الحديث .. الخ ، أو أصول الفقه ، وصدر الجزء الثالث عام 1999 .  أثار الكتاب ضجة كبيرة ودعا بعضهم لمصادرته ، ولكن المسئولين تنبهوا إلى هذا سـيذيع دعوته فمارسوا مؤامرة صمت إزاءه ، رد عليها جمال البنا عام 2000 بإعلان تأسيس "دعـوة الإحياء الإسلامى" التى ضمنها خلاصة فكره الإسلامى والسياسى والثقافى .  فى سنة 1997 أسس بالمشاركة مع شقيقته السيدة فوزية "مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى" ، وتبرعت السيدة فوزية بقرابة نصف مليون جنيه للمؤسسة مكنها أن تؤدى دورها فى غنى عن السؤال . ولما كانت زوجة الأستاذ جمال البنا قد توفيت سنة 1987 ولم يتزوج بعدها ، فإنه حول شقته إلى مكتبة تحمل اسم المؤسسة . وتضم المكتبة قرابة خمس عشر ألف كتاب عربى ، وثلاثة آلاف باللغة الإنجليزية ، كما تضم مكتبة والد الأستاذ جمال وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن ، والكثير من تراث آل البنا ، والأصول الخطية لكتب الشيخ البنا ، وقد زودت المكتبة بقاعة إطلاع وآلة تصوير ووحدة كمبيوتر .  بالمكتبة 15 ألف كتاب عربي وثلاثة آلاف كتاب إنجليزي وبها قسم للدوريات يضم 150 مجلة ، وبعض الموسوعات والمجموعات القديمة لصحف الإخوان المسلمين من سنة 1936 ، وأوراق خطية للإمام الشهيد حسن البنا ، والكثير من وثائق الإخوان المسلمين ، فضلاً عن جذاذات من الصحف ، ومسودات وأصول كتب للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ولجمال البنا .  استطاع الأستاذ جمال البنا بفضل تفرغه للكتابة أن يصدر أكثر من مائة كتاب (منها قرابة عشرة مترجمة) وهو يكتب بتمكن وأسلوب سهل ، وإن كان له طبيعة فنية ، وقد أصدر كتابًا من ثلاثمائة صفحة عن "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" كما تعد كتبه عن "الدعوات الإسلامية" من المراجع الرئيسية لما توفر له من صلات ومراجع .  أن دعوة الإحياء الإسلامى رغم أنها قوبلت بتعتيم إخبارى أريد به عدم التعريف بها ، فإنها شقت طريقها ليس فحسب فى مصر والدول العربية ، ولكن أيضًا فى الخارج حيث أصبحت محل اهتمام الهيئات الدولية والجامعات ، وهي لا تهدف لتكوين حزب أو جماعة ، ولكنها تريد أن تقدم رؤية حرة للإسلام يُعد كل من يؤمن بها مالكا لها أو شريكاً فيها .  لدعوة الإحياء الإسلامى موقع على الانترنت ، وعنوان إليكترونى كالآتى : gamal_albanna@yahoo.com E-mail : gamal_albanna@infinity.com.eg www.islamiccall.org وعنوانها : 195 شارع الجيش ــ 11271 القاهرة هاتف وفاكس 25936494
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.