تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الخامسة

رياض الحبيّب

لقد قمت في الحلقة الرابعة من هذا البحث بتفصيل الحجج الدامغة التي عرضها كتاب “الشخصية المحمدية أو حلّ اللغز المقدّس” لمؤلِّفه أديب العراق الكبير معروف الرصافي، في موضوع مراعاة مؤلِّف القرآن الفواصلَ ما بين الآيات القرآنية. فقد أكّد الرصافي أزيد من مرّة على أنّ محمّداً كان يراعي الفواصل كلّ المراعاة ويعتني بها كلّ الإعتناء، لأنها هي الطابع الذي امتاز بها أسلوبه. ولا يُنكَر أنّ عنايته بالفواصل قد جاءت بكثير من المحاسن، لكنها مع ذلك لم تخلُ أحياناً ممّا يُعاب. وضرَبَ الرّصافي أمثلة متنوّعة على وسائل مراعاة الفواصل، منها التي تقدّم عرضها في الحلقات الأربع السابقة وهي:

1 التقديم والتأخير
2 الحذف
3 زيادة ما هو غير لازم
4 صرف ما لا ينصرف
5 التذكير والتأنيث
6 ترك المطابقة بين الجملتين في الإسميّة والفعليّة
7 إيثار أغرب اللفظتين
8 الإستغناء بالإفراد وبالتثنية
9 إجراء غير العاقل مجرى العاقل
10 الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه
11 الفصل بين الصفة والموصوف
12 إيقاع حرف مكان غيره
13 إثبات هاء السّكت
14 ترك مصدر الفعل إلى مصدر فعل آخر من جنسه
15 الجمع بين المجرورات
16 تغيير بنية الكلمة
ومن السهل على القرّاء الكرام العودة إليها، عبر الحلقات المعروضة إلى جهة اليسار من هذه الصفحة أو إلى كتاب الرصافي لمزيد من التفصيل. ويستطيع الفقهاء الجدد بالمناسبة ملاحظة أمثلة أخرى عبر السّوَر القرآنية ممّا يلفت الإنتباه، وما لم يخطر في البال إلّا عبر التأمّل في سياقات نصوصها، هذا بعد رفع هالة القدسيّة عنها.

لم يتوقف الرصافي عند هذا الحدّ من عرضه الفواصل، إنما أضاف نتيجة مهمّة في بحثه، كاد يمهّد بها لموضوع البلاغة في القرآن والذي سأتطرّق إليه بإسهاب وإطناب في الحلقات القادمة. ففي الصفحة المرقمة 566 قال: من هذه التي وقعت في سبيل الفاصلة، يظهر لك جليّاً كيف كان محمد يعتني بالفواصل التي لم تكن آياتُ القرآن آياتٍ إلّا بها، ومن مزيد اهتمامه بها نراه في بعض الأحيان يرمي بالفاصلة لمجرد الفصل من دون أن يلتفت إلى ما تقدّمَها من الكلام، فتأتي الفاصلة قلقة في مكانها غير مستقرة ولا مطمئنة. وقد قلنا [والكلام للرصافي] إن الفاصلة في آية من آي القرآن كالقافية في بيت من أبيات الشعْر، فقد يمهّد الشاعر للقافية تمهيداً تأتي به متمكنة غير نافرة متعلقاً معناها بمعنى الكلام تعلقاً تامّاً بحيث لو طُرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم، وكذلك الفواصل في القرآن فإنّ منها ما بُنيَ عليها الكلام فجاءت متمكنة، ومنها ما ليس كذلك بل جيء بها لمجرد الفصل فجاءت قلقة غير متمكنة. ولنورد لك بعض الأمثلة والشواهد على هذا من فواصل القرآن:

جاء في سورة ص:45
(واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) ثم قال- أي في سورة ص:46
(إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار)
فقوله (إنّا أخلصناهم) أي جعلناهم خالصين بصفة خالصة لا شوب فيها، وتلك الصفة الخالصة هي ذكرى الدار.
قال الزمخشري في كتابه (الكشّاف) تفسيراً للآيتين المذكورتين: {ومعنى ذكرى الدار ذكراهم الآخِرة أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها} انتهى.
وأنت ترى أن الدار هنا بمعنى الدار الآخرة لا يساعد عليه اللفظ ولا يدلّ عليه السياق!
ثم قال الزمخشري: {وقيل ذكرى الدار هو الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم} انتهى.
وهذا أيضاً كالأوّل وإن كان يناسب المقام أكثر منه، ولكنْ هي الفاصلة! وكان الأحسن أن يقول [محمّد] إنّا أخلصناهم بخالصة الذكر الجميل- تاركاً الفاصلة الأولى مكتفياً بالفاصلة التي بعدها بقوله- أي في سورة ص:47 (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) فتكون الآيتان حينئذ آية واحدة.

[تعليقي:
1 ما معنى ص؟ لا جواب! فأيّ إله هذا الذي يستخفّ بعقليّة الإنسان؟ ومعلوم أنّ إله الكتاب قد أتى بما يفوق تصوّر العقل مرحليّاً ونسبيّاً ولكنّه قطعاً لم يأتِ بنقيض وغموض.

2 قال القرطبي: {لقد استدلّ بالآية (واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) من قال بأنّ الذبيح إسحاق لا إسماعيل وهو الصحيح على ما ذكرناه في كتاب- الإعلام بمولد النبي عليه السلام} انتهى. ومن الشائعات أنّ الذبيح هو اسماعيل، علماً أنّ إسماعيل لم يكن من أنبياء اليهود كما ظنّ مؤلّف القرآن!

3 من يقرأ سورة ص وسائر السور التي ورد فيها ذكر الأنبياء يجد أنّ النبوّات بحسب القرآن مقتصرة على الرجال- بخلاف كتاب أهل الكتاب!

4 إن صحّ تفسير الرصافي بقوله (جعلناهم خالصين) فهذا يعني تأليههم! ولا ريب في أنّ الله هو الوحيد الخالص من أيّ شوب وأيّ غلط وأيّ عيب. وهنا أثير الإنتباه إلى أنّ الأنبياء لم يكونوا معصومين لأنّهم جميعاً أخطأوا بالفكر وبالقول وبالفعل! ولو افترضنا جدلاً أنّ هناك عصمة لإنسان- فوق المألوف ولو كان نبيّاً- فهي لا تعني إطلاق العنان له للتفكير أو القول أو الفعل بطريقة ملتبسة وإلّا لفقد تلك العصمة كفقدان الأنثى بكارتها. فالقول تالياً بعصمة الأنبياء- في تقديري- لمن الهراء وإنْ هو ناتج إلّا من أزمة في الوعي والإدراك!

5 لقد آثر الرّصافي- كما تقدّم- لو قام مؤلّف القرآن باختصار الآيات الثلاث إلى آيتين تماشياً مع بلاغة النصّ بما أنّه مقدّس كما يلي:
واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار* إنّا أخلصناهم بخالصة الذكْر الجميل وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار*

6 حتى هذا النصّ المقترح من الرصافي في رأيي ليس بنافع؛ لأنّ بعض المفسّرين (منهم الطبري والقرطبي) ذكروا قراءتين ل(خالصة) فإحداهما (عند قرّاء عامّة المدينة) قرئت مكسورة الآخر أي بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار، والأخرى (عند قرّاء عامّة العراق) قرئت بتنوين الكسْر، وهاتان القراءتان تتعارضان مع اثنتين: أولاهما البلاغة التي تستوجب إحكام اللغة وأخراهما الآية القائلة (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) فأيّ من ذلك الملفوظ مكتوب في اللوح المحفوظ؟]

 

أضاف الرصافي:
وجاء في سورة محمد:31 قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) أي نسمع ما يُحكى ويُخبَر به وما يقوله الناس عنكم. ولا يخفى أنه بعد أن يبلوهم فيعلم المجاهدين منهم والصابرين لم تبق حاجة إلى سماع أخبارهم وما يقوله الناس عنهم، ولكنّ الفاصلة هي التي أتت بالجملة الأخيرة، وهي كما تراها قلقة غير متمكنة في المعنى المراد، على أن الآية كلها ليست ممّا يليق أن يقوله عَلّام الغيوب!

 

وأردف الرصافي:
وجاء في سورة التوبة:19 قوله (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) فالجملة الأخيرة إنما جاء بها للفصل فقط، والكلام قد تمّ قبلها، والظاهر أنه لما قال (عند الله) كان ذلك محل الوقف، ولكنه لا يشابه الفواصل السابقة ولا اللاحقة فلا يكون فاصلة، فاحتيج إلى فصل الكلام، فجيء بهذه الجملة الزائدة عن المعنى المراد.

واستطرد الرصافي:
وقد قيل (بضدّها تميّز الأشياء) فقد تمرّ بك وأنت تقرأ القرآن فواصل متمكنة محْكمة ثم تعقبها فاصلة قلقة ليست هي بظاهرة القلق، لكنّ وقوعها بعد فواصل متمكنة جعل قلقها ظاهراً لك بيّناً. ففي سورة الأحزاب: 28-29 (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) فانظر إلى هاتين الفاصلتين اللتين قد بُنيَ الكلام عليهما من أوله كيف جاءتا متمكنتين ثابتتين ثبوت أقدام الأبطال في صدمة الحرب والنزال، ثم انظر الى الفاصلة التي جاءت بعدهما في قوله- أي الأحزاب: 30 (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا) فإنك تراها قلقة نافرة لاتناسب ما تقدمها من الكلام، إنما جيء بها لتكون فاصلة ليس إلّا! ولا ريب في أنّ مضاعفة العذاب ليست من الأمور التي تصعب على أحد من الناس فضلاً عن الله الذي هو قادر وقهّار وشديد العقاب، فلا يُناسب أنْ يُقال: (وكان ذلك على الله يسيراً) وإنما يناسب أنْ يُقال ذلك عند ذكر أمر يعجز عنه كلّ قادر سوى الله!

وختم الرصافي:
وترى مفسّري القرآن يتمحّلون [أي يحتالون ويتكلفون- المنجد في اللغة] ولو كان الكلام في غير القرآن لما تمحّلوا له هذه التمحّلات ولا تخيّلوا لأجْله هذه التخيلات، بل عابوه على قائله وانتقدوه.
_________________________________

وللحديث بقيّة

About رياض الحبَيب

رياض الحبيّب من مواليد العراق قبل الميلاد تخصص علمي حقوق الإنسان، المرأة، الطبقة العاملة اللغة العربيّة، أدب عالمي، ثيولوجيا أدب، موسيقى، شطرنج نقد الأفكار لا الأسماء، ضدّ الظلم والفقر أوّل مُعارض للمعلّقات العشر المزيد من السِّيرة في محور الأدب والفن- الحوار المتمدن
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.