المؤامرة الماسونية المزعومة.. وأبواق الغوغائية والتضليل!

رسلان عامر

ما أكثر ما نسمعه عن الماسونية، وعن مؤامرتها الخبيثة المستمرة منذ مئات، بل وآلاف السنين، حتى ليخيل للمرء أن هذه الماسونية هي قوة جبارة لا تقهر، وأنها تحرك العالم وتسيره وتتلاعب فيه وفق ما يخدمها، وأن كل عظماء التاريخ وفتوحه العظمى ما هم إلا أدوات صغيرة صاغرة في أيدي الماسونية “جل جلالها”!
فأين يقع هذا الكلام من دائرة العقل والعلم؟
مما لا شك فيه أن الماسونية بفروعها المتعددة وأساليبها المتنوعة تلعب دوراً كبيراً في التأثير على مجرى الأحداث في العالم، لكن هذا لا يعني أنها حلت محل رب العالمين؛ لتتحكم بالعالم وتديره.. وتحرك التاريخ! فهذا تضخيم هائل.. بعضه مقصود، وبعضه غير واعٍ لدور الماسونية، ومَن ينشر هذه الدعاية هو نفسه ليس بريئاً في كثير من الأحيان، فهو من ناحية يزرع الإحباط في النفوس عندما يصور الماسونية بهذه القوة القاهرة، وهو من ناحية ثانية يزيف الحقائق، وينشر الأوهام والأباطيل!
هناك ممن يروجون لفكرة المؤامرة الماسونية من يرى أن كل حركة النهضة الأوروبية وراءها الماسونية، وهم يتباكون على نظم الإقطاع والملكيات المطلقة وكنيسة القرون الوسطى، وكل ما كان في تلك القرون من ظلام وظلم وظلمات، وهؤلاء يجعلون من كل ما أنتج في الغرب من عقل وعلم وفلسفة عقلانية وإنسانية وتقدم علمي وصناعي واجتماعي وما شابه ذلك ثماراً فاسدة للخديعة الماسونية الخبيثة! فهل النقيض لكل هذه (البدع الشريرة) هو البديل الأفضل للإنسانية؟
في الغرب كتب الكثير عن المؤامرة الماسونية..


واليوم نحن نحذو حذوهم مضيفين إلى ذلك عقدنا ولا عقلانيتنا وتخلفنا وعنصريتنا وأمثالها..
فالمتعصبون الدينيون والقوميون من أصحاب نظرية المؤامرة الماسونية الخارقة العرب يرون كل ما لا يتناسب مع عصبياتهم وتعصبهم مؤامرة ماسونية وصهيونية وإمبريالية..
وبرأيهم، تصبح الغالبية الساحقة من العلماء والمفكرين الغربيين مجرد شلة عملاء للماسونية، ومن بينهم داروين وأنشتاين وماركس وبوبر وأمثالهم؛ واليوم لم تعد الدائرة مقتصرة على الغرب الأوروبي وحسب، فقد اتسع نطاقها لتصل إلى آسيا، ومن الهند -مثلاً- أضيف فيفيكادا ونهرو وأوشو وغيرهم إلى هذه العصبة!
وطبعاً برأي هؤلاء المؤامرتيين كل الثورات ومن بينها الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة العربية ضد الأتراك هي من فعل الماسونية!
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي انضم الشيوعيون التقليديون لهذه الجوقة، ولم يحملوا أنفسهم عناء التحليل الموضوعي الدقيق للأسباب التي أدت إلى هذا الانهيار، أو يمتلكوا الجرأة الكافية للاعتراف بما كان في النظام السوفييتي من عيوب خطيرة!
فإن كان المتعصبون الدينيون والقوميون يرون أن الاتحاد السوفييتي قام بمؤامرة ماسونية!
فهؤلاء الشيوعيون الديماغوجيون يرون أنه سقط بمؤامرة ماسونية، وحسب! وهم لا يعون أنهم بذلك يسيئون أيما إساءة إلى التجربة السوفييتية العظيمة برغم كل عيوبها، ويقزمونها إلى الدرجة التي يمكن أن يقضى عليها فيها بمؤامرة!
وفي سياق الأزمة السورية، ما أكثر ما اتهم الموالون والمعارضون بعضهم البعض بالعمالة للماسونية!
فبرأي الكثيرين من المعارضين السوريين “النظام السوري” هو إحدى الأدوات التي أوجدتها الماسونية العالمية لتمرير مخططاتها في المنطقة، أما برأي الموالين فالأمر بالعكس، فـ”المعارضات السورية” هي بعض من تلك الأدوات الماسونية التآمرية!
وهناك من يرى أن الانقسامات والصراعات في التاريخ الإسلامي منذ موقعتي الجمل وصفين وحتى النصرة وداعش هي من فعل الماسونية!
وفي الجبهة المعارضة.. ثمة من يرى أن الإسلام كله هو مؤامرة ماسونية ضد المسيحية!
فيما يرى آخرون أن “المسيحية النيقية” هي تحريف ماسوني للمسيحية الحقيقية المناقضة لليهودية!
ويرى غيرهم أن كلاً من اليهودية والمسيحية والإسلام هي من خبائث الماسونية الموجهة ضد الحضارة السورية!
وهكذا دواليك..
وكما نرى ثمة الكثير من الغوغائية في هذه الطروحات!
لكن ما هو رأي العلماء؟
العلماء الحقيقيون لا يحملون أية “نظرية مؤامرة” لتفسير التاريخ على محمل الجد!
المؤامرة في نظرهم يمكنها في أحسن الأحوال أن تركب موجة الحركة التاريخية والاجتماعية، لا أن تصنعها، وأن تكون عاملاً فاعلاً فيها عند قراءتها بالشكل الصحيح في الظروف المحيطة المواتية، ولكنها قطعاً ليست خالقة لهذه الحركة!
ويجمع علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ والفلاسفة، وغيرهم من علماء العلوم الإنسانية والوضعية، على أن للتاريخ والاجتماع الإنسانيين قوانين موضوعية تتحكم بحركتهما، وأن المجتمع والتاريخ ليسا قطعاً عجينة تقولبها أهواء وأطماع المتآمرين، ولا هما كومة من الرمال تذروها أو تجمعها القوى العشوائية كيفما اتفق، وأن العقل الواعي المعتمد على العلم يمكنه أن يدرك هذه القوانين الاجتماعية الموضوعية بالشكل الذي يمكنه من أن يكون قوة فاعلة فيها، فلا تبقى مجرد قوى عمياء تقود الناس بشكل ميكانيكي رغماً عنهم، وهذا يعطي الناس إمكانية أكبر على حل مشاكلهم واختيار نظمهم الحياتية الأفضل!
ومن لا يقرأ التاريخ والمجتمع على هذا الأساس الواقعي الموضوعي، ويصر على ركوب “نظرية المؤامرة”.. وهو فعلياً غالباً ما يكون مركوباً بها.. هو خارج نطاق العقل والعلم، وهو فعلياً خادم للمتآمرين.
وإذا أردنا أن نبقى في دائرة العقل والعلم فعلينا أن نكون جد حذرين عند مقاربة قضية الماسونية، ومن يتابع بعضاً من تفاصيلها سيكتشف ببساطة أن كل واحد من خصوم الماسونية المزعومين يفصل المؤامرة الماسونية وفق ما يناسبه، ومما لا شك فيه أن الماسونيين جد مسرورين من هذه الدعاية التي تعطيهم هذه القوة الخارقة، وتلك الصورة الضبابية المحيرة!
وإذا اعتبرنا الثورة الفرنسية -مثلاً- ومبادئها في الحرية والإخاء والمساواة أجزاء من المؤامرة الماسونية، فهذا سيعني أنه ينبغي علينا الوقوف ضدها، والوقوف مع نقيضها، وسيكون علينا عندها أن نكون في خندق واحد مع الملكية المطلقة والتفرقة بين الناس والعداء بينهم.. فهل هذا هو الخيار الإنساني الصحيح؟!

About رسلان عامر

نبذة عن الكاتب: مهندس سوري من موليد 1968.. متخرج من أو كرانيا عام 1994 باختصاص الطاقة الحرارية. يحمل ماجستير في الطاقات المتجددة 2007، و ماجستير في الإدارة عام2001، و دبلوم في الطاقة الشمسية عام 1999، ودبلوم تأهيل تربوي عام 1999 من جامعة دمشق. له كتاب مترجم عن الروسية منشور في دار الكلمة بدمشق، عام 2003 عن فلسفة الحب الطاوية الصينية. و يشارك اليوم في مجلات و مواقع رقمية سورية و عربية.
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.