الإسلام السياسي و أوهام التّمَيُّز عن المسيحية السياسية

على ضوء تجارب التاريخ السياسية التي إلتحفت عباءة الدين يجد الإسلاميون أنفسهم مُحرجين من مصطلح ( دولة دينية ) أو ثيوقراطية ، وبدلاً من أن يكون هذا الإحراج بل والعار التاريخي مصدراً أو دافعاً لتغيير أطروحاتهم وتصوراتهم تلك و القائمة على أساس دمج الدين بالسياسة فإنّهم يلجأون لإقامة تمييز ـ زائف كما سنرى ـ بين الطرح أو التصور الإسلامي للدولة وتصور بقية الأديان لها ، لا سيّما المسيحية صاحبة التجربة السياسية الأكثر ظلاماً وبشاعةً ، فيخرجون علينا ـ أي الإسلاميون ـ بمصطلحات وشعارات ومقولات ما أنزل بها الله من سلطان ، مثل تقسيم الدول إلى ثلاثة : دولة دينية ودولة علمانية ودولة اسلامية ويصوغون ذلك في مقولة ( ليس في الإسلام دولة دينية بالمعنى الثيوقراطي ولكن يوجد دولة مدنية بمرجعية إسلامية ) وكأنّما الإسلام ليس ديناً ، وسنعود لاحقاً لتحليل هذا الشعار وفحصه ، وفي سياق زعمهم بوجود خصائص مائزة لتصور الإسلام للدولة عن بقية التصورات الثيوقراطية المظلمة التي عرفها تاريخ البشر ، و يُجمِل الإسلاميون هذه الفروقات التي تعصم دينهم عن إعادة تجارب المسيحية في القرون الوسطى في ثلاث ، هم حسب إعتقادي المُستمَد من محاوراتي العديدة معهم في هذا الشأن :

الفرق الأول حسب إعتقادهم : الإسلام ليس فيه طبقة رجال دين ولا كنسية لذلك لا مجال لإعادة إنتاج تجربة المسيحية في القرون الوسطى ، فبالإسلام الأمر شورى .

الفرق الثاني : الإسلام لم يشهد تجرية ثيوقراطية ولا محاكم تفتيش كالمسيحية لأنّ بنيته لا تتيح له ذلك .

الفرق الثالث : الإسلام إهتم بالتشاريع الدنيوية وليس كالمسيحية التي إنصبّ إهتمامها على الأمور الدينية وأهملت الأمور الدنيوية ، فالإسلام ـ حسب إعتقادهم ـ لا يفتقر كالمسيحية للمكون النظري السياسي والدنيوي لذلك سيُكتب لتجاربه السياسية النجاح وذلك لغناها النظري . وفيما يلينا سنبين ملاحظاتنا او مآخذنا على هذه الفروق كلٌّ على حدة .

الفرق الأوّل : وهو الزعم (( بعدم وجود كنسية أو طبقة رجال دين في الإسلام لذلك لا يمكن أن تتحول الدولة الإسلامية إلى دولة ثيوقراطية )) . وأحد أبرز ممثلي هذا الزعم هو محمد عابد الجابري المفكر الإسلامي المعروف الذي قال : (( الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة ، فهو لا يحتاج إلى علمانية غربية ، العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام ، لأنّه ليس هناك كنسية حتى تفصل عن الدولة أو تُفصل الدولة عنها )) .
وهذا القول يتعمد وضع المقدمات الخاطئة لإيقانه بأنّ المقدمات الموضوعية كفيلة بهدم القياس أو الإستدلال الصوري التي بنى عليها الجابري مقولته تلك ، فالعلمانية ليست فصل الكنسية عن الدولة ، ولا يوجد تعريف موضوعي للعلمانية ورد بهذه الصيغة التي يضعها الجابري كمقدمة لإستدلاله على عدم حوجة الإسلام للعلمانية ، والجابري يدرك تماماً أنّ العلمانية هي فصل الدين ـ وليس الكنسية ـ عن الدولة ، ولكن لو إعتمد هذه المقدمة لإستحالت مقولته تلك إلى مجرد حشو لا قيمة له ، ولما كان الإسلام دين والعلمانية تعني فصل الدين عن الدولة فهذا يعني أنّ الإسلام هو مُكوِّن أو قضية ذات علاقة موضوعية بالعلمانية ، وليس كما يزعم الجابري بأنّ العلمانية غير ذات موضوع بالإسلام .

هذا من ناحية من ناحيةٍ ثانية فإنّ الإسلام وإن لم يكن به كنيسة أو طبقة رجال دين (( اكليروس)) ـ وهذا القول قد يصدق على الإسلام السني لكنه لا يصدق على الإسلام الشيعي الذي تمثل الإمامة المعصومة ركناً جوهرياً فيه ـ أقول قد لا يكون بالإسلام كنسية والأمر لا يتعلق بالمسميات فقط ، فبالإسلام سلطة دينية وهذا بإعتراف الإسلاميون أنفسهم عندما يتحدثون عن شمولية الإسلام وهيمنته على مناحي الحياة منهجاً سياسياً وحياتياً للفرد وللمجتمع ، و أي تصور ديني ـ إسلامي أو غير إسلامي ـ لنمط الحكم ، سواءً كان صاحب التصور هو تيارفكري كالإسلاميين أو غيرهم ، فما إن يسود هذا التصور ويحكم ـ بأيّ وسيلةٍ وصل بها إلى الحكم ـ فسيكون هذا التيار صاحب التصور الذي يحكم بمثابة طبقة رجال دين (اكليروس) مهمتهم تنزيل كتاب الله واقعاً معاشاً كما يتصورونه هم بالطبع طالما أنّهم بالسلطة ، لأنّ وظيفة الحاكمين ستكون ذات وظيفة ال (الاكليروس) في ظلِّ الحكم الثيوقراطي ، وهي وظيفة حكم الناس بما يُتصور أنّه شرع الله ، وهو لايعدوا في آخر الأمر أن يكون ماهية تصورهم لهذا الشرع ، فسيحرِّمون ويُحلِّلون بما تُمليه عليهم رغباتهم وأمزجتهم ووجهة نظرهم التي تتطابق طبعاً ووجهة نظر الله .

وهذا ما حدث بالفعل تاريخياً كما سنعرض لاحقاً من نماذج لدول ثيوقراطية إسلامية في محضر نقدنا للفرق الثالث الذي يزعم بعدم وجود دولة ثيوقراطية بتاريخ الإسلام ، فإنّه سواء حكم الإسلاميون أو غيرهم بإسم تعاليم يدّعَوون أنّها من السماء ، وفرضوا تصورات محدّدة ـ تصوراتهم الذاتية عن الدين ـ كنمط تدين على الآخرين الإلتزام به ، فهذا يعني أنّهم قد تحوّلوا إلى ( اكليروس) إسلامي ، وأنّ نظام حكمهم قد تحول إلى حكم ثيقراطي ( فقهائي ) بدلاً عن ( بابوي ) . لذلك لا معنى للحديث عن ( خلو الإسلام من اكليروس) فالمسألة ليست مسألة مسميات بقدر ماهي مسألة متعلقة بطبيعة مناهج الحكم وآلياته والمصادر التي يستمد منها شرعيته .

والواقع الفعلي لممارسات الإسلام السياسي وأُطروحاته تُرسِّخ لسلطة رجال الدين عبر توحيد سلطة الدين والسياسة في يد واحدة فيصبح المخالف هو منكر للدين ومارق عنه ، فشعار الحركات الإسلامية ـ التي تزعم أن لا وجود لطبقة رجال دين متحكمون أو كنيسة ناطقة بإسم السماء ـ يتمثل في حكم المجتمع بالدين ، وطالما أنّ الله لن ينزل بنفسه ويتولى شؤون الحكم دينياً فهذا يعني أنّ الإسلاميون هم من سيفعلون ذلك نيابةً عنه وبالتالي يكونون هم أنفسهم طبقة رجال الدين التي أنكروا وجودها في محضر سعيهم لنفي إمكانية إعادة تجربة المسيحية في القرون الوسطى بالإسلام . .

ندلف بعد هذا إلى مناقشة الفرق الثاني الذي يعتبره الإسلاميون واقياً لهم من إعادة تجربة المسيحية في القرون الوسطى بأوروبا ومائزاً لهم عن المسيحيين ، والذي يتضمن زعمهم بأنّ : الإسلام لم يشهد تجرية ثيوقراطية ولا محاكم تفتيش كالمسيحية لأنّ بنيته لا تتيح له ذلك ، وسنعود إلى مسألة بنية الإسلام لاحقاً لنرى إن كانت بنية واحدة أم لا ، ولنرى إن كانت تجعل من الدول التي قامت على أساسه ـ أي الإسلام ـ دولة ثيوقراطية أم لا ، ولكننا هنا سنكتفي بنبش بعضاً من التاريخ الإسلامي لنحقِّق في زعم الإسلاميين بخلو تاريخ الإسلام من الثيوقراطية ، وسنستعرض نموذج الإمام الغزالي ـ حُجّة الإسلام ـ للرد على الزاعمين بعدم وجود طبقة رجال دين في الإسلام ، فأفكاره كانت بمثابة الميكانزم الفاعل في تأسيس الدولة الثيوقراطية وكذلك التأسيس النظري لما يمكن أن نسميه محاكم التفتيش في العهد العباسي .

فالغزالي يُمثل نموذجاً لفقيه السلطان الذي يُعادل موضوعياً في التراث الإسلامي سلطة طبقة رجال الدين في التاريخ المسيحي فهو الذي يمنح صكوك الإيمان وينزعها عمن يشاء او بالأدق عمن يُعارض الدولة العباسية وخليفتها المستظهر بالله الذي كتب الغزالي بتوجيه سياسي منه كتاب ( فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية ) الذي تركّزت مادته على إظهار فضائل الخليفة العباسي المستظهر بالله والتشنيع على خصومه وتكفيرهم ومحاكمة عقائدهم والتفتيش عن ( بواطنهم ) ، ويتّضح من الكتاب أنّ الغزالي لا يُحارب ( الباطنية ) في سياق معركة فكرية خالصة دفاعاً عن الدين والعقيدة بل يُساهم بفكره وبقدرته العقلية السجالية في معركة سياسية زجّهُ فيها الخليفة المستظهر عندما إستشعر قوة شوكة الشيعة في مناهضة النظام العباسي .

ويعترف الغزالي نفسه في مقدمة الكتاب بأنّ تأليفه للكتاب جاء إستجابةً للأوامر ( الشريفة المقدسة المستظهرية ) حيث يقول : ( فإني لم أزل مدّة المقام بمدينة السلام متشوقاً إلى أن أخدم المواقف المقدّسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها ومدّ على طبقات الخلق ظلالها بتصنيف كتاب في علم الدين إقضي به شكر النعمة وأُقيم به رسم الخدمة وأجني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفى حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية ـيعني الخليفة المستظهر ـ بالإرادة إلى الخادم ـ يعني الغزالي نفسه ـ في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية … وكيف لا أُسارع إليه ؟ وإن لاحظت جانب الأمر ألفيته أمراً مبلغه زعيم الأُمّة وشرف الدين ، ومنشأه ملاذ الأُمّم أمير المؤمنيين وموجب طاعته خالق الخلق رب العالمين ) إذاً قام الغزالي بالتصدي بوصفه ناطقاً رسمياً ( حكومياً ) بإسم السماء بالتصدي لمناهضة فكر ( الباطنية ) ليس كموقف فكري بقدر ما كان إسهاماً سياسياً للدفاع عن حق الخليفة العباسي في الإمامة والذّب عن إستقرار الوضع السياسي والذي كان يهدِّده المد الشيعي .

هذا ما كان من أمر التأسيس النظري الذي قام به الغزالي لمحاكم التفتيش الإسلامية وختمه بسفره ( تهافت الفلاسفة ) والتي تجلّى ـ أي هذا التأسيس النظري لمحاكم التفتيش ـ عملياً في صلب الحلاج ، وحبس المعري ، وسفك دم ابن حيان ، ونفي ابن المنمّر ، وحرق كتب الغزالي نفسه فيما بعد وابن رشد والأصفهاني ، وتكفير الفارابي وابن سينا والكندي ، وذبح السهروردي ، وطبخ أوصال ابن المقفّع في قدر وشويها أمامه ليأكل منها قسراً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد جولاتٍ من التعذيب البشع ،و قتل الطبري ، وكذلك ذبح ابن الجعد بن درهم ، والتمثيل برأس احمد بن نصر والطواف بها في الأزقة ، وقتل لسان الدين بن الخطيب خنقاً وحرق جثته ، وتكفير ابن الفارض ومطاردته في كل مكان .

وحتى قضية قدم القرآن وحدوثه كانت من القضايا التي حسمتها السلطة السياسية في الإسلام في واحدة من تجلياتها الثيوقراطية ، حيث نجد أحمد بن حنبل قد تم تعذيبه عندما أمره المأمون بأن يعترف بخلق القرآن أو تُقطع يديه ، في حدث مطابق لما كان يحدث في المسيحية قديماً فيما يُعرف ب (الحرومات ) أو ( اللعنات ) وهي عبارة عن إقرارات إيمانية تُعرض على المسيحي فإن قبلها كان مؤمناً وإن رفضها عُدّ ( هرطوقياً / مهرطقاً ) لا ينتسب للجماعة التي إختارها الرّب ، وهذا ماحدث لإبن حنبل الذي رفض فرمان الخليفة المأمون الذي يأمره بالإقرار بخلق القرآن ، فعُذِّب حتى أنّه عندما كان يُجلَد كان فقهاء السلطان ـ المعتزلة ـ يقولون للمأمون : يا أمير المؤمنيين هو كافرٌ دمه حلال فإضرب عنقه وذنبه في رقابنا . نفس الأمر نجده قد حدث للبخاري الذي كان يقول بأنّ لفظ القرآن مخلوق ، فتم طرده من نيسابور وتم تكفيره وسرعان ما لحق به أحد أبرز معجبيه الإمام (مسلم ) الذي تم تكفيره بالمثل ووصمه بالجهالة . .

إذن فتاريخ الإسلام عرف محاكم التفتيش أوالحسبة التي ظهرت بسورة سافرة في الزمن العباسي المتأخر وإمتدت حتى العهد المملوكي والعثماني حيث وظيفة المحتسب أو الفقيه أن يستخرج الأحكام ويُحدد ماهية شرع الله ويُقيِّم الإنتاج المعرفي من حيث مدى إنطباقه على شرع الله كما يتصوره هو ، أي المحتسب ،وأهم ما يميز هذه الوظيفة عدم وضوح مهام المحتسب وحدود صلاحياته حيث يرى القائم بالإحتساب الأمر منكراً فيردعه فوراً دون الرجوع لسلطة أخرى ، بل كان المحتسب أحياناً يُمارس سلطة حتى على القاضي أو الشرطي الذي يراه منحرفاً أو ضالاً ، وسرعان ما تضخم دور المحتسب وأصبح جهازاً للمخابرات الفكرية مختص بمتابعة ومراقبة كافة مجالات النشاط الإنساني الفكري الديني أو السياسي أو المفلسفي ويرصد لنا التاريخ أحد أشهر المملوكيين المحتسب الزيني بركات وغيره من رُسل الرعب الفكري .

إمتدت محاكم التفتيش الإسلامية لتصل حتى العصر الحديث حيث نجد إعدام النميري والترابي للمفكر الإسلامي محمود محمد طه ، وتكفير طه حسين وعلى عبد الرازق ، ومطاردة الأخير في ( رزقه ) وطرده من الجامعة وسلب الأزهرية منه ، ونصر حامد ابوزيد الذي صدر حكم بالتفريق بينه وبين زوجته ووقف ترقيته الجامعية ، وتعرض نجيب محفوظ لمحاولة إغتيال ، وأحياناً تتم المحاكمة وتنفيذ العقوبة غيايباً على أيدي إرهابي متطوع بأمرٍ من شيخه دون أن يُمنح المتهم الحق في الدفاع مثل ماحدث لفرج فودة الذي إغتيل مطلع التسعينيات من القران الماضي ومحاولة قتل نجيب محفوظ بطعنه بسكينٍ في عنقه ، ناهيك طبعاً عن إرهاب المحاكم الإسلامية بالصومال وتنظيمات القاعدة التي تقتل الأطفال والمدنيين لأنّهم كفار دون حتى أن تمنحهم حتى حق الدفاع ( الصوري ) الذي كان أيام محاكم التفتيش المسيحية .

إذاً نحن لو رجعنا للتاريخ فسنجد أنّ النموذج الثيوقراطي الإسلامي ـ عكس ما يدّعي الإسلاميون ـ قد حدث بالفعل عبر التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر . وحتى اليوم ما يُمارسه رجال الدين من نفوذ بالمجتمع يجعلهم يستطيعون تأليب الناس على مفكر أو أديب وحملهم على قتله يجعل منهم ( اكليروساً ) ، طبعا يمكن أن يزعم الإسلاميون بأنّ كلّ هذه التجارب لاتعدوا عن كونها مجرد ممارسات خارج النّص الديني والشريعة الإسلامية أو نتاج قراءة خاطئة لهما ، وهكذا هي دائماً النصوص الدينية إمكانيات مفتوحة وغير متناهية لإستولاد مختلف القراءت المتناقضة حتى مع بعضها ،
فمثلما بالإمكان إستحضار قراءات بعينها لآيات مثل ( لا إكراه في الدين ) ( وأمرهم شورى بينهم ) ( لست عليهم بمسيطر ) لنفي عدم وجود رجال دين بالإسلام ، بالإمكان كذلك إستحضار قراءات مغايرة لايات مثل (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير , ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , وأولئك هم المفلحون ) وما يُسمى بآيات الحاكمية لتأكيد وجود رجال الدين ودورهم القيِّم على المجتمع والدعوة والحكم طبعاً بالنسبة للإسلام السياسي .
لا أريد هنا النقاش في جدل فقهي أو ديني حول أيّاً من التأويلات صحيح ، ولكني أريد القول أنّ الإسلام ليس تصور واحد حتى نحكم بإستحالة تقبل بينته للثيوقراطية ، تماماً كما المسيحية ، مما يُلغي الفارق بينهما في هذه النقطة ويجعل من القول : بإستحالة إعادة الإسلام السياسي لتجربة المسيحية السياسية في القرون الوسطى على أساس التباين في بنيتهما ، زعم واهي وخاطئ تماماً .

الفرق الثالث هو زعم الإسلاميون بأنّ : الإسلام إهتم بالتشاريع الدنيوية وليس كالمسيحية التي إنصبّ إهتمامها على الأمور الدينية وأهملت الأمور الدنيوية ، فالإسلام ـ حسب إعتقادهم ـ لا يفتقر كالمسيحية للمكون النظري السياسي والدنيوي .وكما قلت من قبل أنّ جميع التجارب الدينية السياسية الفاشلة مسيحية أو إسلامية يمكن ببساطة تأويل نصوصها على أكثر من وجه ، بل وتقويل تلك النصوص ما لم تقله قسراً وكرهاً كما كان يزعم رجال الكنسية في القرون الوسطى بشمولية المسيحية وكما يُكرِّر اليوم الإسلاميون نفس الشئ حول شمولية الإسلام لكافة مناحي الحياة ، والحقيقة أنّ النصوص الرئيسية للإسلام بدورها ـ كما المسيحية ـ تفتقر أيضاً للتشاريع الدنيوية والحياتية ، وإنصب إهتمامها ـ أي تلك النصوص ـ على الروحانيات والغيبيات والأخلاقيات العامة ، وإلاّ فأين الإقتصاد الإحصائي بالقرآن ؟ و إجتماعيات الثقافة ؟ وتنظيم المعامل ؟ والسياسة النقدية ؟و العلوم اللسنية ؟و قواعد التغذية ؟ وتربية النسل ؟ وعلم النفس التجريبي ؟ و قواعد البيبلوغرافية؟ وقواعد ترميم التحف الفنية وغيرها من الأمور المعاشية التي يزعم الإسلاميون توافرها بالإسلام وعدم توافرها بالمسيحية .

وحتى لو سلّمنا جدلاً بصحة دنيوية الإسلام ولا دنيوية المسيحية ألاّ يُدين هذا التجارب الإسلامية أكثر من المسيحية إستناداً إلى أنّ فشل المسيحية يكون في تلك الحالة مُبرّراً بعدم وجود تشاريع دنيوية بها ، وبالتالي يكون الخطأ لا في المسيحية ولكن في تطبيقها ، بينما في الإسلام ـ وبما أنّه يحتوي على تشاريع وأمور دنيوية ورغم ذلك إتّسمت تجاربه السياسية بالفشل ـ لن نجد له مُبرِّراً لذلك الفشل طالما أنّ به تشاريع دننيوية مما يعني أنّ تلك التشاريع غير صالحة طالما أنّ تجاربها فشلت .

خلاصة القول هو أنّ الدين ـ أيّ دين ـ لا يمكن إدعاء إستحالة تكراره لتجارب المسيحية الظلامية بالقرون الوسطى بزعم أنّه متميزٌ عنها ، فلا عيسى أمر أتباعه بتسليم زمام أمورهم السياسية للكنسية ، ولا محمد أمر أتباعه بالخضوع لسلطة دينية تقوم على أكتاف الإسلاميين ، ورغم ذلك حدث وأن تحوّل الدينان ـ المسيحية والإسلام ـ إلى محاكم تفتيش تنبش في ضمائر الناس ووجدانهم ، لا نفرق بين أحدٍ منهما .

About محمد ميرغني

محمد ميرغني ، كاتب ليبرالي من السودان ،يعمل كمهندس معماري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.