بقلم حازم الأمين/
إنها الغوطة نفسها التي قصفها النظام السوري بالسلاح الكيميائي في 21 آب/أغسطس من العام 2013، ثم أعفى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما النظام السوري من عقاب تجاوزه “الخط الأحمر” فيها.
ذلك التاريخ هو ما يجب استعادته في محاولتنا تفسير ما يجري اليوم في تلك المدينة من فظائع، ذاك أن النظام السوري انتزع في حينها تفويضا دوليا يخوله قتل ما يشاء ومن يشاء من السوريين. كل ارتكاب لا تبلغ أرقام الضحايا فيه ما بلغته في الغوطة يوم الواحد والعشرين من آب/أغسطس 2013، مسموح به، ذاك أن رقم قتلى القصف الكيميائي انعقد كسقف، وصار هو الخط الأحمر.
ومنذ ذلك التاريخ والنظام يمارس رياضته هذه، أي قتل عدد أقل من قتلى الغوطة في الغارة الواحدة. السقف هو 500 قتيل، وكل شيء دونه مباح بحكم عفو أوباما عن الأسد في يوم تجاوز الأخير الـ”خط الأحمر”. مستهولو قصف الغوطة اليوم عليهم أن يتذكروا أن عدد القتلى لم يتجاوز بعد الـ 250 قتيلا، وبحسبة صغيرة، وبقدر من الخيال غير البعيد عن الواقع، علينا أن نقبل بـ 249 قتيلا آخر لنبدأ بحثّ المجتمع الدولي على التدخل.
النظام الذي يمارس تمارينه في قتل السوريين تم إمداده بمزيد من جرعات الحياة
العالم كله ضد السوريين. السوريون أنفسهم ضد أنفسهم. لا شيء يسعف المستجيرين في الغوطة. لا أحد يعطيهم بالا أو انتباها. مراسلة صحيفة نيويورك تايمز في بيروت آن برنار أشارت في تغريدة لها إلى أن قصفا استهدف أحياء في العاصمة السورية أودى بحياة 8 سوريين سبق القصف على الغوطة! المراسلة نفسها، سبق لها أن شاركت مع وفد “صحفي” غربي في زيارة لدمشق بدعوة من الحكومة السورية، واستيقظت في الصباح والتقطت من هاتفها صورة لدمشق تتوسطها صورة بشار الأسد، وعلقت على الصورة في تغريدة على موقع تويتر:
“good morning Mr. president”
. لا بأس، فالمراسلة محت تغريدتها في حينها واعتذرت.
اقرأ للكاتب أيضا:من أسقط الـ”سوخوي”؟
آن برنار ليست مؤيدة للنظام السوري، وهي سبق أن وثقت انتهاكاته، كذلك فعلت نيويورك تايمز على مدى تغطيتها الحرب في سورية، لكننا جميعنا نخضع لما يشبه تنويما لحواس يهدف إلى قبول مواز للقبول الكبير الذي أطلقه أوباما في ذلك اليوم.
حين يتقدم الحساب “الموضوعي” على الحساب الإنساني، تصبح الصحافة أمام معضلة لا تقف عندها الشروط المهنية. فنحن أمام رقمين، أكثر من 250 قتيلا في مقابل 8 قتلى، والمفارقة المؤلمة أن على طرفي المأساة سوريين، ووضعهما في مقابل بعضهما بعضا ينطوي مفاضلة تراجيدية فعلا. لكن المفاضلة تحضر، ولا يمكن تفاديها.
العالم خضع لعملية تخدير جماعية، بحيث صار كل واحد منا عرضة لنعاس يرافق ارتكاب الجريمة. الموت السوري صار رقميا، ومفارقاته وفجائعه دخلت إلى منطقة “العادي” في وجداناتنا المخدرة.
العالم خضع لعملية تخدير جماعية، بحيث صار كل واحد منا عرضة لنعاس يرافق ارتكاب الجريمة
علينا كل يوم أن نستعيد حقائق من نوع أن من يقاتلهم النظام في الغوطة، أو من يقاتلونه فيها ليسوا أيضا ملائكة. إنهم “جيش الإسلام” و”جبهة النصرة”، وجماعات أخرى مشابهة لا تبعد خطوة عن “داعش”. 250 قتيلا قضوا هناك. قتلهم النظام هناك، في تلك المساحة التي تحكمها هذه الجماعات القبيحة. علينا أن نعترف أننا تخففنا من هول المجزرة بحكم رسمنا هذه المعادلة، وبحكم عدم تمييزنا بين وجهي القاتلين.
اقرأ للكاتب أيضا: من أسقط الـ”سوخوي”؟
الجريمة هنا مضاعفة. الأطفال الخمسة الذين شاهدنا صورة جثثهم في صبيحة ذلك اليوم، أشحنا أنظارنا عن صورتهم قبل أن تشطب وجوهنا. لم يكن هذا ما أقدمت عليه مراسلة نيويورك تايمز، هذا اعتراف شخصي كان لا بد من ارتكابه قبل أن يباشر المرء محاسبة نفسه عما جرى لأهل الغوطة هذا الأسبوع.
النظام الذي يمارس تمارينه في قتل السوريين تم إمداده بمزيد من جرعات الحياة. هذا في مقابل عجز عن مقاومة رغبة العالم في بقاء بشار الأسد رئيسا لسورية. الصراخ لن يفيد، طالما أن “الخط الأحمر”، صار “خط القتل” الذي لا يتجاوزه طيارو النظام. ولن يجد واحدنا نفسه إلا أمام نفسه قبل أن يختنق. وربما علينا أن نقف أمام المرآة ونسائل أنفسنا عن مقدار مسؤولياتنا الخاصة والشخصية عما يجري في الغوطة. عن مقال ارتكبه المرء مثلا، ولم يساعد أحدا على النجاة، أو عن صمت مارسه أو سقط فيه، وعن حجم مسؤوليته عن بقاء الرئيس في قصره.
لا شك أن كل واحد منا سيجد ما يحاسب نفسه عليه جراء فشلنا في حماية الغوطة. وبعد ذلك، وطالما أن العالم ليس في وارد الوقوف أمام المرآة، فلا بأس من أن نكشف له وجوهنا وأن نبكي، وأن نطلب مزيدا من حقن البنج.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال