كثيرات هي الدراسات حول أزمات الهوية و المشاريع التي تتساقط رغم تحصنها بقوة الدولة…. عن طموحات التنمية التي لا تتحق…. و احلام الاتحاد … او حتى التضامن و اعادة بناء الذات في وجه الاستعمار الذي لا يغيب… و كثير هو الكلام عن التاريخ و الجذور العربي- الأفريقي … او الأفريقي -العربي… التي تلطخت يوما بفعل تجارة الانسان للإنسان … و تجارة التاريخ و تاريخ الجذور للإنسان الاول …. مخاض الولادة الاولى للإنسان و المجتمع بشكله البدائي و أسس تطوره اللاحق..
افريقيا ما تزال تعيش اللحظات الاولى للحياة… البدايات الاولى للتطور الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي… هل هذه الحالة تمثل عجزاً للإنسان الافريقي … ام انها مرتبطة بقيمة العطاء الابدي … كما هى رحمة الخالق التي لا تنقطع…. ؟؟.. هل افريقيا هي أمة تحمل روحاً واحدة… ام انها دولة بمجتمع تعددي… ام انها قارة تجمع فرقاء مختلفون و متصارعون… ام انها ارض خالية من الروح و الإرادة … ؟؟؟؟.. هل افريقيا هى الأم التي تحضن الجميع و تعطي دون انتظار للشكر و الثناء … ام انها امرأة فتحت ساقيها للمغتصبين دون اي ردع او رادع .. كما يصورها المستعمرون ..؟؟؟..
هذه الأسئلة الاخلاقية تقودنا بشكل مباشر الى علاقة العرب بهذه الكينونية الافريقية… ليس لأنهم حملوا رسالة سماوية لم يقدم بلسماً لجراح الإفريقيين الابدية … بل لأنهم شكلوا منذ بدايات التاريخ الإنساني تؤمة روحية و جسدية مع الإفريقيين … فالعرب كانوا البوابة الاولى لعبور الانسان الخارج من الأدغال الى الحضارة و التوسع في ارجاء الارض… و هم كذلك كانوا البوابة لأولى … او هكذا تخبرنا الحكايا و الأساطير و الوثائق… لعبور الانسان الأفريقي عبداً يخدم كل الآخرين … يحارب عنهم و يبني بيوتهم و مصانعهم … يرعى اطفالهم و مزارعهم … يتحمل الذل وحده و تزهق روحه كي ينعم الآخرون بملذات الحياة و ثواب الآخرة…!!!…
التؤمة الاولى…
ربما لا أضيف شيئا جديداً اذا كنت أعيد بناء الفكرة الانثروبولوجية بان اللغة العربية هي من اللغات الأفروآسيوية … لغات الإفريقيين كثيرة و متعددة و الأختلاف بين العربية و أياً من تلك اللغات لا يعدو اكثر عمقاً من الاختلافات بين تلك اللغات ذاتها…..لكن هناك في المقابل ما يربط جميع تلك اللغات بعضها ببعض و من ضمنها العربية ….و الشخص العربي يعرف نفسه بانه “اسود او اسمر” اي أفريقي ” ( انظر
Ogu Eji-Ofo Annu: The Original Black African Arabs of Arabia, part one, Rastas, November 2006)
و اذا عدنا الى البدايات الاولى قبل ظهور الحضارات و الديانات الكبرى … كان من العبث ان نبحث عن حدود بين ما هو شرق افريقيا الان و الجزيرة العربية و بلاد الشام و جنوب العراق…
ربما من وحي هذا الواقع انطلق القرآن في التذكير بالأسطورة القديمة عن جيش ابرهة الحبشي الذي سعى في لحظة تاريخية ان يغزو مكة و كعبة العرب… قصص القرآن كثيرة لكنها جميعا تتحدث عن احداث وقعت في الاطار الجغرافي العام حيث وجد العرب… و هكذا فان الحديث عن ابرهة الحبشي قد لا يكون كلاماً عن “غزو خارجي”… بل عن نوع اخر من صراع الإخوة ” اخو عاد…اخو ثمود… و اخو هود… و اخو شعيب”… الخ..
هذه الفرضية قد تفسر لنا ايضا لماذا طلب النبي محمد من أصحابه “جعفر ابن ابي طالب و الآخرين ” الذين طاردتهم قريش ان يذهبو الى الحبشة…. ان يكون فيها ملك عادل ذلك امر مهم لكن الضرورية ان هذا الملك و أهله و شعبه يستطيعون ان يفهموا طبيعة الصراع بين القبائل العربية و مركزية القريش… و ليس بعيدا عن كل هذا… أهمية مكة و دور “الكعبة” كمحور اجتماعي سياسي و اقتصادي في مجتمع العرب و صراعاته…
هل كان مجرد حدث عابر ان النبي محمد تزوج من امرأة مصرية… و ان مصر تم ذكرها في القرآن ليس كهدف لنشر الاسلام بل لأمور اكثر عمقا و تأثيرا على حياة الانسان و منها الأمان كما ذكر القرآن ” ادخلو مصر ان شاء الله آمنين .. البقرة 61.”..؟؟.. هذه الفكرة لا تختلف عن بلد الملك العادل الذي طلب النبي محمد من أصحابه “جعفر ابن ابي طالب و الآخرون” ان يلجأو اليه بعد ان حاصرهم أهل قريش….كما ان مصر هي مفتاح الامتداد الجغرافي و الثقافي لبلد ذلك الملك العادل و ما بعدها…مصر ايضا هي مفتاح الرخاء الاقتصادي…. و هذا الرخاء مصدره النيل و هذا النهر العظيم يمر ايضا بأرض بلاد ذلك الملك العادل و ما دونها.. “اهبطوا مصر فان لكم فيها ما سألتم… يوسف 99″…
قصة يوسف النبي تعيد بناء دراما التؤمة… طفل مذموم من اخوته “لاحظ أهمية مفهوم صراع الإخوة كما ذكرنا سابقا” يجد الملجأ و الرخاء و الملك في ارض ربما غادرها أهله في لحظات تاريخية سابقة…. و بما ان يوسف هو نبي الله فان أهمية مصر تكمن ايضا في انه وجد “أمة المؤمنين” برسالته… و في صورة دراماتيكية عالية الحبكة و غنى المخيال فان كل الخيرات و الإمكانيات يتم وضعها في إطار حضن امرأة تحولت من …. أم راعية للولد المنبوذ من اخوته …. الى زوجة تمثل الديمومة و الاستمرار … تلك هي زليخا التي كانت ميكانيزم التطور الاجتماعي اللاحق..
هذا التطور الاجتماعي اللاحق يتعلق بنقطة بالغة الأهمية … يوسف يقول لوالديه و اخوته الذين لحقو به الى مصر “و جاء بكم من البدو… يوسف 100”.. .. “البدو” هنا هو مفهوم عن نمط حياتي و تنظيم اجتماعي خارج إطار المدن التي تسمى “قرى” في الخطاب القرآني … و البداوة إذن تعني ايضا قساوة النظام الاجتماعي من التقاليد التي تعوض عن البناءات المادية و الثقافية في المدن…. و لعل الإشارة هنا ان حرب الإخوة إنما هي انعكاس للطبيعة القاسية من جهة و هشاشة البنى القيمية في النظام البدوي…. و عليه فان فكرة العودة او الانتماء الى المدنية قد توحي بانهاء حالة العداء بين ” الإخوة” التي كانت السبب المباشر لنبذ يوفدون محاولة التخلص منه…
فكرة العودة او الانتماء الى المدنية هذه قد تفتح أمامنا تفسيراً “اخر” لانخراط العرب في تجارة العبيد… هل أراد العرب بذلك تصدير المدنية الى اوروبا التي كانت تنهشها صراعات الإخوة ” الملوك و الاباطرة”..؟؟.. تساؤل قد يفهمها البعض كنوع من التبرير اللا منطقي… و لكن الميثولوجيا… قد تفتح أمامنا أطراً اخرى لفهم “حقائق” تاريخية وقفنا دوما في الجانب الاخر منها..
زليخا ما زالت حضناً “للعطاء” ..؟؟..
من المؤكد ان الاستهانة بدور العرب في الكارثة التاريخية في نشوء و تطور النظام العبودي في العالم لا يمكن الدفاع عنه باي شكل من الأشكال خاصة ان النظام العبودي قد ترك ثغرات ديمغرافية و قضى على قوى بشرية و طاقات تنموية و فكك المنظموة المجتمعية التقليدية في أنحاء مختلفة في افريقيا… كما انه لا يمكن التهرب من حقيقة ان تلك الثغرات الكبيرة قد لعبت دورا كبيرا في خلق ما يمكن تسميته “ببداوة ثقافية” و بالتالي زادت الهوة بين المجموعات البشرية “القبائل و غيرها” و هكذا خلقت ديناميكيات محلية لتأجيج الصراع و حروب “الإخوة” ….
لاشك ايضا ان انهيار المنظومات الاجتماعية التقليدية و الثغرات الكبيرة قد فسح المجال امام الاستعمار الخارجي “الغربي” الذي لم يعمل فقط على استغلال الثروات الطبيعية… بل عمل بشكل استراتيجي على ترسيخ الخلافات و الصراعات المحلية على أساس القضاء على اية إمكانية للمقاومة و خلق بديل محلي او “وطني”…
و لذلك فان اية فرضية…. و لو على أساس ميثولوجي… بان العرب أرادوا المساهمة في تطور العالم عن طريق “تصدير القوة الخلاقة لافريقية ” اليه…. تحتاج الى اعادة دراسة مفهوم الاستعمار الغربي الذي بنى أسس تطوره و توسعه على فائض القوة و رأسمال المال …. الذي وفرته المنتجات المادية ” الزراعية و الصناعية” و الثقافية “ايديولوجيا الاتحاد الانتصار على الاخر” ….. للنظامي العبودي حيث شكلت الطاقات الافريقية العمد الفقري فيه…
يقول علي مزروعي ان العرب لعبوا دورين مهمين في تاريخ افريقيا… اولا… كانوا شركاء في العبودية الافريقية… و ثانيا… أصبحوا حلفاء في التحرر الافريقي في القرن العشرين
(Foreign Affairs, July 1975 ) …
هل تمثل هذه النقلة في تعامل العرب مع الإفريقيين إذن تغييرا في العقلية العربية تجاه العبء التاريخي ….؟؟..ام ان وجود الأجنبي المتمثل في الاستعمار الغربي جاء ليشكل العامل الديناميكي في اعادة قراءة العلاقة الصراعية بين الإخوة كما كانت تحدث عند القبائل المتحاربة في الجزيرة العربية…. حيث كانت تتحد امام الغزو الأجنبي و تتحارب ضد بعضها البعض في غياب الأجنبي …؟؟؟..
لكن اذا كان العامل الأخير هو الحاسم في التحالف ضد الاستعمار فإننا امام حالة تعيد فكرة التؤمة لكنها في ذات الوقت تؤشر الى مرحلة بدائية في العقل الاستراتيجي … اي انها لا تستجيب حتى للمبادىء الأولية لبناء شراكة بنيوية بين العرب و الإفريقيين تجاري التطور العام في العالم…
لا شك ان التصدي للاستعمار قد انتج قوة معنوية كبيرة… الكثير جدا من النظريات السياسية و الفكر التنويري … و العديد جدا من الحركات السياسية و الثقافية … و ايضا الكثير من الصراعات و الانقلابات … او الثورات كما يحب البعض ان يسميها…. و المزيد المزيد من الصراعات و التشتت و لاقتتال… و الأهم من كل هذا و ذلك… الكلام عن عودة الاستعمار … الذي يبدو ان بعض العرب … بمنتجاتهم الفكرية و التنظيمية الحديثة يلعبون دوراً مهما فيه…
كلمة اخيرة…
في مقالات سابقة اشرت الى العديد من التحديات و الاشكالات في العلاقات العربية الافريقية و منها اشكالية الحديث عن مفهوم “ما بعد الاستعمار” لان الاستعمار قد تداخل في نسيج صنع المفاهيم ذاتها (انظر مقالة “الاستعمار اللولبي”..) … و كذلك الوقوف عاجزاً امام الصراع بين مفهومي “تعريب افريقيا” و ” أفرقة العرب” (انظر مقالة “مصر و افريقيا: جدلية الانتماء و التنمية”..)…
هناك كلام كثير عن عنصرية عربية ضد الإفريقيين … و هناك كلام عن رد فعل أفريقي تجاه العرب في صيغة الكره و الاحتقار … نحن نكون موضوعيين لابد أيضاً ان نعيد استدراكنا لمفهوم الاستعمار الذي اتفق العرب و الأفريقيون يوما ان يتحدو ضده… لنتذكر ان مئات الآلاف من الإفريقيين كانوا كانوا جنودا اشداء في جيوش الاسلام التي تفتح المصائر و المدن لتصنع أمجادا للعرب باسم الاسلام… لنتذكر ان الكثير من الإفريقيين دفعوا الحرية رغم انهم كانوا مسلمين…. لنتذكر ان آلاف النساء الأفريقيات أصبحن سبايا و جواري يخدمن شهوات الخلفاء و رؤساء الجنود و الحاكمين بأمر الله … ليس لشيء اخر… سوى لأنهن كن جميلات …
هل للعقلية العربية ان تدرك و تتدارك قيمة هذه الجروح في وعي الانسان الأفريقي … و هل يدرك الإفريقيون الدرس التاريخي و هم يتطوعون مرة اخرى لخدمة مشاريع استعمارية جديدة تحت عناوين داعش و بوكو حرام و مما قد يظهر من عناوين اخرى..؟؟..
هل يدرك الجميع …. سياسيون و مثقفون…فقراء و أغنياء … ضرورة البحث عن طريق للالتقاء قبل ان يحل استعمار طويل اخر و نمط اخر للعبودية قد يشمل الجميع هذه المرة… اعتقد ان لا خلاف على حقيقة غنى المنطقة بالإمكانيات و الطاقة الهائلة القادرة على انتاج مشروع واقعي يستوعب الجميع و قابل للحياة…
زليخا و يوسف و فرعون كانوا يمثلون ثلاثيات عديدة… السلطة و المجتمع و بينهما المجتمع… الارض و الطاقة البناءة و بينهما الفكر المستنير…. العطاء و الحكمة و بينهما القائد …. الام و الزوجة و بينهما الرجل … الصبر و العمل و بينهما التحمل… و هكذا ايضا كانت الاهرامات ثلاثية الأبعاد … تمثل الرمز و البقاء و بينهما الهندسة … فلماذا لا تكون هناك افريقيا و العرب و بينهما ذلك المشروع الروحي و الاستراتيجي ..؟؟… حبي للجميع..