التراصوت: سامر رضوان – شاعر وسيناريست من سوريا
وجد العلويون أنفسهم في مأزق تاريخي بعد 15 آذار/مارس 2011، حين أطلقوا موقفًا سريعًا وواضحًا تجاه الحراك الحاصل في درعا، وأعلنوا اصطفافهم العنيف مع السلطة قبل أن يتلمس الرأي العام حقيقة الحدث وتفاصيله، إذ كيف يمكن أن يُصدَرَ حُكْمُ القيمة، قبل معرفة ما يحدث في مدينة محاصرة، يصل أنينها بطيئًا إلى الإعلام، وكيف يمكن أن تصل حدة الانفعالات حد المطالبة بقصفها، لنسف أي محاولة تمرد يمكن أن تتمدد؟
المسجد هو القاسم المشترك بين الثورات على نظام الأسد، منذ إعلان الشيخ مروان حديد الجهاد عبر مئذنة جامع السلطان بحماة عام 1964
قد يبدو الموقف غريبًا وخارجًا عن سياق فعل المواطنة كما يحب البعض أن يراه، لكن مراجعة بسيطة للتاريخ القريب، توضح أن الموقف منتظم وفق تدرجات الخوف التاريخي، الذي يريد البعض إخماده بالقوة، وإبعادنا عن مناقشته كنوع من الإرهاب الفكري، الذي غدا سمة المرحلة بكل ما فيها.
إذ صار التلميح عن تطمينات أو أقلية خائفة مثار تندر البعض وسخريتهم، إلى درجة أن المثقف خاف على نفسه من المد التهكمي، وقرر الصمت في الأعم الأغلب، باستثناء مثقفين أرادوا بروزًا ولو على حساب الكون بما فيه من أخلاق، فتحالفوا مع السوق، وغدا إبعاد هذين المصطلحين عن خطابك السياسي والحياتي، تحصينًا لاسمك من الوقوع في فخ المداولة الرخيصة، فقد رَفعتِ المرحلةُ الحصانةَ عن الشخصيات العربية كَبُرَتْ أم صغرت، وصار نجيب محفوظ وإلياس مرقص متساويين مع أم البيارق على صفحات التواصل الاجتماعي، ما المانع؟! ما دام كل واحد قادر على حشد جيش من الزعران الذين يقودون الجميع إلى الهروب، وعدم دخول معركة أقل سلاح فيها: عضوٌ تناسليٌّ فاعل.
بالعودة إلى تشكل موقف الطائفة العلوية الذي سبقته ثورات بلدان عربية، أسست لبداية الترقب والخوف، معززًا بخطاب سلطة متفقهة بعلم تحريك المخاوف الطائفية عبر تاريخ طويل في لبنان، شعر العلويون أن خطر العودة إلى لعب شخصية المرابع/الصانع/الخادم باتت قريبة، خاصة أن هناك فهمًا جمعيًا داخل الطائفة يذهب إلى أن بداية الخلاص من حقبة الانسحاق، كانت مع وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم، وبالثورة عليه وتهديم أركان سلطته، ستذهب طائفته إلى الجحيم كعملية ثأرية قديمة حديثة، تذهب في شقها القديم إلى صراع علي بن أبي طالب بجبهاته الكثيرة، وفي شقها الحديث إلى ثورات سابقة على نظام الأسد، تشابه كثيرًا في مفرداتها ثورة 15 آذار/مارس، فأعلنوا بعد التداول أن ما يحدث إعادة تدوير للتاريخ، بشخصيات مختلفة وفكر واحد.
وما عزز قراءتهم هذه، أن المسجد هو القاسم المشترك بين الثورات على نظام الأسد جميعها، منذ إعلان الشيخ مروان حديد الجهاد عبر مئذنة جامع السلطان بحماة عام 1964 بعد تسلم حزب البعث السلطة في سوريا، مرورًا بالشيخ عدنان عقلة الذي استخدم المئذنة منصة لثورة الطليعة المقاتلة في تنظيم الإخوان المسلمين في المدينة نفسها، وانتهاء بالجامع العمري في محافظة درعا، الذي كان مركز بداية الثورة السورية.
إذن، الجامع مرة أخرى، ولكن بخطاب مختلف تمامًا، فقد أُثقل بمفردات لم تنفتح عليها الثورات السابقة كالحرية والقانون والاختلاف واحترام الآخر والتساوي ودولة المواطنة، فبدا شارع الأقليات -وليس العلويون وحدهم- مرتابًا من أن تكون مخادعة يجيدها الفصيل السني المتطرف، فهو صاحب حقد ثأري لا يموت، ومطمع سلطوي لا يموت أيضًا، ولعله أجرى تحالفًا مع المثقفين لكسب التأييد والتعاطف وتحديث خطابه العنيف، بعد أن فشلت أشكال ثوراته السابقة.
ما زاد الطين بلة، أن الشخصيات العلوية التي وقفت صراحة مع الثورة، تم اغتيال سمعتها وتصفيتها بتلفيقات رخيصة على جبهتين
ماذا تحتاج السلطة لتحييد العلويين بشكل كامل عن دخول لعبة العصيان إذن؟ فرضيات سهلة التحقيق وبالغة الخطورة في التأثير:
1- أن يكون الجامع العمري نجم المرحلة الأولى، بتحوله إلى مشفى ميداني، يعيد للأذهان أن المسجد ليس مكانًا إيمانيًا بل مدرسة حربية، وعلى اعتبار أن الحديث عن (الجامع الحربي) فهذا يعني أن الأقليات جميعها ستأخذ الموقف نفسه (المشفى الميداني: مصطلح كرسته السلطة الحاكمة ولا تزال قوى المعارضة تستخدمه بحرفيته).
2- مظاهرة يتم التأكيد فيها على أن الانتقام جزء من المرحلة القادمة (مظاهرة التابوت وبيروت الشهيرة).
3- قتل علوي واحد من متظاهرين سنة، وتسليط الضوء عليه كي يغدو حديث الساعة (نضال جنود).
هذا ما كانت تحتاجه السلطة في دمشق دون زيادة، إلا أن دخول رجالات سنية متطرفة كقيادة معلنة للشارع، أضاف إلى مطالب السلطة تبرعات لم تكن في حسبانها، قوَّت موقفها وجعلتها تربح معركة الاصطفاف بالضربة القاضية (عدنان العرعور ورفاقه)، هذا إذا استثنينا الإفراج عن عدد كبير من المتطرفين الإسلاميين، بإيمان مطلق من السلطة أنهم سيدخلون المعركة ويلوثونها.
وما زاد الطين بلة، أن الشخصيات العلوية التي وقفت صراحة مع الثورة، تم اغتيال سمعتها وتصفيتها بتلفيقات رخيصة على جبهتين، طائفتها التي اعتبرتها خائنة أولًا، ومعارضين يعرفون هذه الأسماء جيدًا، إلا أنهم وقفوا متفرجين على اغتيالها، إن لم نقل ساهموا في تعزيز ذلك ضمن الكواليس، فكيف سيمتلك الآخرون شجاعة تحولهم إلى قربان مجاني، وقد شاهدوا كيف ذبح من سبقهم على الطريقة الإسلامية والثقافية.
هذه البنود الساذجة فعلت فعلها في الشارع نعم، لأنها تستند على تاريخ قديم وليس طارئًا مفصولًا عن سيرورته، فكيف يراد لابن الطائفة العلوية أن يصدق (الآن تحديدًا) أن السنيّ الخارج من المسجد بلحية متروكة وشارب مجتث، طالب للحرية والعدالة الاجتماعية ولا يريد الثأر لما فعله حافظ الأسد عبر ثلاثين سنة، وكيف تجرمه وتخونه إن بدا مرتابًا؟ ثم كيف ستقنعه أن المسجد هو المكان الوحيد الذي يتيح التقاء عدد كبير من البشر دون مساءلة، وليس إعادة إنتاج لمسجد السلطان في حماة؟! ثم ما المعنى (النازي) للمقولة التي غلفت العقل الثائر في أن من يرى نفسه أقلية عليه الذهاب إلى الجحيم، وفي الوقت نفسه يتم الحديث عن أحقية الأكثرية بالسلطة، لماذا حق لك استخدام مصطلح الأكثرية وعيب على غيرك استخدام نقيضه؟!
يبدو أن الثورة لم تلتفت إلى هذه النقاط على ما تقوله مآلاتها، إذ لا يعقل أن تحاكمني لأنني لا أرى في ثورتك مصلحة لي، فإما أن تقنعني باتفاقات وتسويات واضحة لأتخلص من رهابي تجاهك، بوصفنا خصومًا تاريخيين في الجانب الطائفي، وإما أن تقود تغييرًا بالسلاح، والمعركة مفتوحة على كل الاحتمالات.
كيف كانت الطائفة العلوية مضطهدة إلى درجة المظلومية التاريخية، ووصل ضابطان كبيران (صلاح جديد وحافظ الأسد) إلى أعلى المناصب العسكرية في الدولة؟!
عدائي مع النظام إن كان موجودًا لا يجعلك حليفًا لي، هذا ما تمت ملاحظته بدقة، ليس عند الأقليات الطائفية فحسب، بل عند نخب اليسار السياسي أيضًا، التي اعتقلت لسنوات طويلة في عهد حافظ الأسد أو وريثه، لكنها لم تنخرط في صفوف الثورة لتأكدها أن الحيل الإخوانية تتشكل من جديد بحلة حداثوية، والغريب أنهم لو خُيروا بين بشار الأسد والإسلاميين سيختارون الأول، ولا تفسير لوضع معتقلي حزب العمل الشيوعي في مهاجع الإخوان أثناء فترة حكم حافظ الأسد، إلا فهم السلطة أنها أقرب لليسار من الإخوان حتى أثناء فترة التنكيل المرّ، فما هذه السمعة التي بناها الإسلاميون على مر العمل السياسي العنفي الذي مارسوه؟؟
إذن لا يعقل أن يتم دفن العداء التاريخي في لحظة تاريخية عبر موقف مرتجل، كيف أنسى أنك تراني كافرًا ومرتدًا ومجوسيًا، وترى نسائي عاهرات لأنهن لا يرتدين حجابًا… إلخ، وكيف ستنسى أنني أراك أصوليًا إرهابيًا ومتطرفًا منغلقًا ومتأخرًا كارهًا للتعدد والحضارة، لهذا خلاصك لا يعني خلاصي، وألمك منفصل عن ألمي، إلا إذا استعرت مفاهيم خارجة عن سياق حياتنا معًا واستوردت مصطلحات مثل المواطنة والتساوي والتعاطف الوطني، في إجراء صوري لا يقبله العقل النقدي أبدًا، أو حين تجري مقايسة غريبة بين ما يجري في سوريا وما جرى في فرنسا ذات ثورة ليست مشابهة بالتأكيد.
ما سلف ربما يريح الذي اتخذ موقفًا عدائيًا من حراك الشارع، لأنه يقوم بمناقشة المخاوف وتثبيتها منطقيًا، إلا أنه في الوقت نفسه يفتح الأسئلة على مصراعيها:
1- هل التخلص من إقطاعيي الخمسينيات والستينيات، واستبدالهم بإقطاعيي السبعينيات والثمانينيات، تفتيت لشخصية المرابع وإنهاء لوجودها مع ذاكرتها،أم أنه تكريم للعبودية وتغيير لوجه السيد؟!
2- هل الحديث عن انسحاق الطائفة العلوية قبل استلام البعث السلطة، هو تأكيد على أن حاضرها أخاذ في رفاهيته، لدرجة تقديم الأولاد والأموال في سبيل المحافظة عليه، وعدم العودة إلى الماضي الأليم؟!
3- هل كل العائلات العلوية التي شاركت بالحرب، استفادت من “ثورة آذار” أو التصحيح المزعوم، أم أن الامتيازات اقتصرت على عائلات السلطة؟!
4- بالعودة إلى التاريخ المزور، كيف كانت الطائفة مضطهدة إلى درجة المظلومية التاريخية، ووصل ضابطان كبيران (صلاح جديد وحافظ الأسد) إلى أعلى المناصب العسكرية في الدولة؟!
أخيرًا أطرح تأملًا يبدو مقبولًا ضمن سياق العرض: ماذا لو قرر العلويون مع الأقليات الدينية وبقايا الأكثرية التي اصطفت إلى جانب السلطة، أن يسلموا البلد بكل ما فيه إلى الأصوليات التي يخافون منها، ومن مشروعها الإسلامي الانتقامي المرعب حسب هواجسهم، ويتفرغوا لتكريس قيم المواطنة والديمقراطية، كانت الخسائر في كل شيء أقل من النصف، وربما عادت البلد إليهم، بعد فشل مشروع خصومهم.