رياض الحبيب
لقد اشتملت الحلقة الثانية من هذا البحث على الحجج الدامغة التي عرضها كتاب “الشخصية المحمدية أو حلّ اللغز المقدّس” لمؤلِّفه أديب العراق الكبير معروف الرصافي في موضوع مراعاة مؤلِّف القرآن الفواصلَ ما بين الآيات القرآنية، مؤكِّداً على أنّ مؤلِّف القرآن كان يراعي الفواصل كلّ المراعاة ويعتني بها كلّ الإعتناء، لأنها هي الطابع الذي يمتاز بها أسلوبه. ولا يُنكَر أنّ عنايته بالفواصل قد جاءت بكثير من المحاسن، ولكنها مع ذلك لم تخل أحياناً ممّا يُعاب. فضرب الرصافي أمثلة متنوّعة على وسائل مراعاة الفواصل منها:
1 التقديم والتأخير
2 الحذف
3 زيادة ما هو غير لازم
4 صرف ما لا ينصرف
وفي هذه الحلقة سأعرض وسائل أخرى- ممّا هو مدوّن في الصفحة المرقمة 563 والصفحتين التاليتين من كتاب الشخصية المحمدية- مؤيّدة بأمثلة:
5 التذكير والتأنيث
معلوم في اللغة أنّ النخل اسم جنس يذكّر ويؤنث؛
ولقد آثر محمد تذكير النخل في سورة القمر: 20 (أعجاز نخل منقعر)
بينما آثر التأنيث في سورة الحاقّة: 7 (أعجاز نخل خاوية)
فسبب الإيثار هو مراعاة الفاصلة لا غير!
ومن هذا القبيل قوله في سورة القمر: 53 (وكل صغير وكبير مستطر) فقد جاء بالقول مذكراً مراعاة للفاصلة، ولم يقل: صغيرة وكبيرة مستطرة- مثلما قال في سورة الكهف: 49 (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها)
6 ترك المطابقة بين الجملتين في الإسميّة والفعليّة
ففي سورة البقرة: 8 (ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) إذ ردّ على الجملة الفعلية بجملة إسمية ولم يطابق بين {آمنّا} وبين ما ردّ به عليهم مراعاة للفاصلة!
ومن هذا القبيل قوله في سورة العنكبوت: 3 (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) فأورد أحد القسمَين غير مطابق للآخر مراعاة للفاصلة!-
[استطراد: أظنّ أنّ قصد الرصافي بالتطابق هنا هو إمّا من الحكمة أن يرد القول: فلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الصادقين ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ- مراعاة للفاصلة التي في الآية السابقة (يُفْتَنُونَ) واللاحقة (يَحْكُمُونَ) أو أن يرد القول: فلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقوا والذين كذبوا- وهو ما لا يتفق مع إحدى الفاصلتين المذكورتين]
7 إيثار أغرب اللفظتين
كما في قوله في سورة النجم: 53 (تلك إذن قسمة ضيزى) ولم يقل: قسمة جائرة مراعاة للفاصلة!
وقوله في سورة الهمزة: 4 (كلا لينبذن في الحطمة) ولم يقل: في جهنم أو في النار.
وقد تفنن محمد في أسماء جهنم فقال في المدّثّر: 26 (سأصليه سقر)
وفي المعارج: 15-16 (كلا إنها لظى* نزاعة للشوى)
وفي القارعة: 9 (فأُمُّهُ هَاوِيَة)
وكلّ ذلك مراعاة للفواصل!
[تعليقي: تكمن المسألة في اختيار مرادفات {النار} إذاً بالفاصلة ليس إلّا وليس كما ظنّ علماء الإسلام بأنّ للنار طبقات! فأيّاً كانت طبقة النار فإنها النار وإنّ العقل السّويّ يجهل طبيعة النار الإلهية. فأتمنى تالياً على القرّاء الكرام مطالعة مقالتي عن أصناف النار وطبقات جهنم عبر الرابط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=172099
فإن أعدّ اللهُ- شخصيّاً- النارَ لأصحاب الذنوب- الصغائر منها والكبائر- فلماذا يقوم الإسلاميّون بالنيابة عن الله باستخدامها للتعذيب والحرق، كما فعل عليّ بن أبي طالب بالمرتدّين عن الإسلام، حتى تعرّض الخليفة لانتقاد من أحد رفاقه: لماذا تعذبهم بعذاب الله؟]
8 الإستغناء بالإفراد وبالتثنية
أوّلاً- الإستغناء بالإفراد عن التثنية
كقوله في سورة طه: 117 (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) ولم يقل: فتشقيا، والخطاب للإثنين مراعاة للفاصلة!
ثانياً- الإستغناء بالإفراد عن الجمع
كقوله في سورة الفرقان: 74 (واجعلنا للمتقين إماماً) ولم يقل: أئمّة يهدون- مراعاة للفاصلة!
وأراد بعضهم أن يرفأ الثوب بخيط من لونه. فقال: إنّ إماماً هنا جمع آم، كصيام جمع صائم، وليس هذا بشيء لأنّ جموع التكسير ليست قياسيّة ولم يُسمع إمام جمعاً لآم!
وكذلك قوله في سورة القمر: 54 (إنّ المتقين في جنّات ونهر) ولم يقل: وأنهار مراعاة للفاصلة! وقد تمحّل بعضهم في هذا، فقال: إنّ النهر بمعنى السعة والضياء مأخوذ من النهار، وليس قوله بمقبول لأن القرآن من أوّله إلى آخره لم يسبق الجنّات إلّا وأتبعها بالأنهار.
ثالثاً- الإستغناء بالتثنية عن الإفراد
كقوله في سورة الرحمن: 46 (ولمن خاف مقام ربّه جنّتان) قال الفرّاء: أراد (جنّة) كقوله في سورة النازعات: 41 (فإنّ الجنّة هي المأوى) فثنّى لأجل الفاصلة!
9 إجراء غير العاقل مجرى العاقل
كقوله في سورة يوسف: 4 (رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)
وكقوله في سورة الأنبياء: 33 (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) وفي هذه الآية، عدا إجراء غير العاقل مجرى العاقل في التعبير عن الإثنين بالجمع لأن الضمير في {يسبحون} يعود إلى الشمس والقمر، فالسياق يقتضي أن يقول: يسبحان- ولكنه جمعه وأجراه مجرى العقلاء مراعاة للفاصلة!
وكذلك قوله في سورة الشعراء: 4 (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) قال {خاضعين} ولم يقل: خاضعة كما جاء في إحدى القراءات مراعاة للفاصلة!
[سأكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة لأستكمل مراعاة مؤلّف القرآن الفواصل بين الآيات في حلقة قادمة وتبقى للحديث بقيّة]