عندما يتعقد المشهد لدرجة الغموض، وتتشابك التحليلات السياسية حوله متجاوزة حدود المتاهة، وعندما يتعطل المنطق على بوابة التخمين وتضيع المفاهيم تحت سنابك الشعارات، وعندما يصبح البعد الأخلاقي ترفاً بين محترفي السياسة وهواة اجترار الكلام، تغدو الكتابة في صيغة التجريد عن الاسباب والنتائج والدخول في معمعة التحليلات والبعد الاستراتيجي وراهنية التكتيك، مجرد كلام جاف يطفو خفيفا فارغاً على سطح لغة لم تتعفر بغبار الموت ولم تتحسس الوجع من صور تقرّع العيون والذاكرة.
يسقط الكلام وتسقط اللغة إن لم تحس بسخونة الدماء وهي تسقط على السطر نقطة نقطة من جسد سيدة سورية في حمص رحلت حين انهال عليها سقف الوطن!
بين الصورة والتعبير عنها مسافة لا يمكن إلغاؤها إلا بإعطاء المشهد بعداً رابعا، يجعل المتلقي محترقا بنار لا يعرف منبتها، مسكونا بحزن شفيف أو فرح لم يتوقعه، إنها خاصية الكلمات المحمولة على شغف الحقيقة وتوتر اللحظة عندما تتبخر أصوات المحللين ويصبح الكلام رحيلا وحقيبة يجرها أهل داريا إلى حافلة محملة بالخذلان والغبار وذكرى السنين والتعب.
يصبح الكلام صياحاً في غير موعده عندما تغوص في مصطلحات التحليل الفرويدي والبعد النفسي الذي جعل من «جنود الوطن» لصوصاً لمقتنيات وأملاك «إخوتهم» وابناء جلدتهم ممن هُجروا من قراهم وبلداتهم ليباع ذكرياتهم وشقاؤهم وأيامهم على أرصفة الوطن المشترك، ولتصير سرقة الوطن طقسا من طقوس «التعفيش» وتعبيرا حقيقيا وليس مجازيا عن خراب الروح!
يصبح الكلام خواء معبأ بعمامات الحقد الطائفي عندما يستنجد بالتاريخ ليحلل ماهية «صلاة الغائب» على روح الوطن فوق ما تبقى من دموع العنب في داريا المسفوحة على ورود غياث مطر. الكلام في سوريا يرحل ويهجر اللغة ويصبح غازا يقتل ويموت بالكيماوي وتارة أخرى بالغازات السامة. صار قنابل فوسفور ونابالم تحرق وتحترق.. صار ريحاً صرصرا تبدد الحلم بالحرية والحياة وتغطي براياتها السود كامل المشهد، صار الكلام رحيلا وهجرة ولجوء. صار غباراً وهياكل بشرية تصرخ بحثا عن الحياة وسط الموت والدخان. قد يكون الكلام قاتلا أو مقتولاً! قد يخرس الكلام مذهولاً بعيني عمران دقنيش الصغير أو يبكي بعيني أمه حين فقدت أخاه..
الكلام لم يعد أحرفا ابتكرها عقل الإنسان كي تفضي بفيض الروح بل بات براميل متفجرة تحكي لغة السقوط وانعدام لغة المفردات. الكلام هو هدنة لا تعرف النوم ولا تهدأ، وهو في الوقت ذاته المعركة التي لا تعرف النصر ولا تعترف بالهزيمة. هو ارتعاش اللغة وذوبانها مع أطراف طفل احترقت بقنابل النابالم. قد يكون الحديث عن اللغة والكلام ترفا ممجوجا لا معنى له، حين بات الكلام لغة غير مفهومة لا تعكس سريالية المشهد عندما نشاهد عرضا ترويجيا للسياحة في سورية على أنقاض الوطن الذي يرزح تحت الموت والخراب والدمار، ومع ذلك يرى المروجون أنها «بتظل أحلى»، وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل أقله: ما نفع الحديث عن اللغة والكلام ما دام السطر يكتب بالموت وتندس الحياة فيه كحرف زائد أو ناقص بين كلمتين؟ ما نفع الكلام إذا لم يكن هو الناس ومن تبقى منهم في الذاكرة؟ إذا لم يقرّع ضمائرنا في لحظة الصمت، فيكون ضجيجا مختلطاً بالصور والكوابيس، مختلطاً بانتشار الضوء في الهواء، يرتب إيقاع دقات القلب، فيصير نبياً يسير على بركة الماء، يصير صراخا لا يبتلعه الصدى، يصبح للحرف وقع يعيد للضحية اسمها وذكرياتها، يعيد للشوارع أسماءها، وللبلاد أبناءها، وللطفولة صغارها وبراءتها… أي كلام جاد وأي مفاهيم رصينة يمكن أن تصف تلك المفارقة في بلاد جمعها الموت والظلم والظلام على طرفي الفرات، عندما يعمها الفساد وتنهشها السرقة بالمليارات ثم تحكم بالسجن
لمدة عام على طفل بتهمة سرقة أربع علب من المناديل الورقية؟ أي لغة وأي كلام بل وأي عقل مهما استند إلى مراجع الفكر وأمهات الكتب يمكن أن يصف أو يحلل بشكل جاد من دون أن يهشم اللغة ويخرج من مفردات المنطق ذلك الربط بين القاتل الضحية، وصلابة من تزنر بالموت وطراوة من يبكي خجلاً؟ اي كلام متقن ومتحذلق يستطيع أن يسبر أغوار الخوف والذعر لذلك الصبي الذي جاء ليفجر نفسه في كركوك وهو يصرخ خجلا وخوفاً من انكشاف عورته بعد محاولة رجال الشرطة خلع بنطاله عند اكتشاف حزام ناسف تزنر به؟ أي قواميس قادرة على وصف تلك الكيمياء التي جمعت في جسد واحد طفلا يبكي كالصغار وقاتلا تزنر بالموت كالكبار؟ لا يمكن للغة محكومة بالعادي ومؤطرة بسيل من المصطلحات اليومية الممجومة أن تعبر عن ما هو غير عادي ولا يخضع لمنطق العقل.
فلنهشم اللغة بالدموع ونكسر القواعد بحرقة القلب كي تلامس اليومي، لتصير الكلمة دمعة وآهة وصرخة، ليحكَّ الجرحُ الصفحات، وتتمزق الورقات ألماً، ويصير الحبر دماً، لتصبح الكلمات كلسع النار في الجسد تصنع نبض الصورة وتحيل إلى رائحة المشهد.
كاتبة فلسطينية