ليس صدفة ان فشل الأحزاب الشيوعية، هو فشل للمراجعات الحزبية التي لم تكن أصلا، وإذا جرت كانت فوقية بصياغات هلامية، لم تتناول أي موضوع جاد في تطور الفكر والتغيرات في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الدولي. أي ما كان هو أشبه بنوم طويل كنوم أهل الكهف .. ومديح الظل والتمسك بفكر مضى وقت تسويقه دون فهم التحولات المتراكمة والحاسمة التي جعلتهم غرباء عن واقعهم السياسي، الاجتماعي والفكري.
كان التعلق الأعمى وعديم المنطق بماركسية لينين وستالين، التي لا شيء يربطها بفكر كارل ماركس ورؤيته الفلسفية هو المميز للحركة الشيوعية، وكل من حاول طرح رؤية تطويرية اعتبر تحريفيا وعزل من الحزب… أما البارز والمؤلم فكان ان أوساطا شيوعية قيادية كثيرة تعاملت مع فكر ماركس بكونه كتابا مقدسا .. والمهزلة ان هذا الأمر يتواصل اليوم أيضا .. ويتواصل التمسك بنهج وصياغات وأساليب تنظيم واعلام، لم تتغير منذ قرنا كاملا على الأقل .. والمضحك انه يجري ترويج نفس الخطاب السياسي والفكري، للجمهور دون فهم ان جمهور اليوم أضحى جمهورا مثقفا، علميا، يعيش نبض حضارة قلبت كل واقعه الاجتماعي والعلمي والصناعي، وهو ليس نفس جمهور القرن التاسع عشر او العشرين. وأن عالم اليوم أضحى أشبه بقرية صغيرة يعيش نبضها عبر ثورة الديغتال (الألكترونية)، وان الثورة المعلوماتية لم تبق شيئا غامضا من عالمنا القديم .. والأهم ان الانسان حقق قفزة في وعيه وامتلاكه للمعلومات الدقيقة حول عالمه.
لي تجربة طويلة في النشاط الشيوعي .. تثقفت بأهم مدرسة حزبية شيوعية في موسكو آنذاك (معهد العلوم الاجتماعية). قدمت خمسة عقود من النشاط بلا توقف. لم أكن مجرد عضو، بل ساهمت بمراكز قيادية، في الشبيبة الشيوعية والحزب الشيوعي، والصحافة الحزبية. كنت من المساهمين النشيطين في تأسيس الجبهة الديموقراطية في الناصرة، تحت اشراف وتنظيم وقيادة المرحوم الرفيق غسان حبيب، التي أنجزت أكبر انتصار بتاريخ الجماهير العربية في إسرائيل، ثم نقلت التجربة الى تأسيس جبهة قطرية لانتخابات الكنيست.
عشت تفكك الجبهة في الناصرة وانفضاض قياداتها والتخلص من شخصيات ساهمت بتأسيسها لتتحول الى مجرد تنظيم حزبي ضيق، صمد ولكن تفككه وهزيمته كان مجرد وقت فقط، وهو ما حصل بهزيمة الجبهة مقابل قائمة انتخابية لفرد واحد (علي سلام) في انتخابات بلدية الناصرة الأخيرة.
ثم كنت شاهدا للانقلاب المدمر للحزب ضد المفكر والشاعر والإعلامي الكبير الرفيق سالم جبران .. والتخلص من الرفيق غسان حبيب، مخطط ومؤسس الجبهة في الناصرة ومنظم مخيمات العمل التطوعي التي تحولت الى اعراس سياسية ساهم بها عشرات الاف الشباب من المناطق الفلسطينية المحتلة أيضا الى جانب متطوعين أجانب .. وآلمني جدا أسلوب التخلص المذل من الرفيق اميل حبيبي وهو أكبر من ان أسجل دوره السياسي والثقافي ومكانته في أوساط الجماهير العربية ( هذا عدا كتابة قصائد هجائية ضده من رفاق ساهم برفع اسهمهم السياسية)…
هذه التصرفات تذكرني بأنظمة القمع العربية .. وتبع ذلك استقالات من أوساط جماهيرية وحزبية واسعة جدا، ابرزها انسحاب مئات الأكاديميين والتجار والحرفيين وأعضاء حزب من جبهة الناصرة وتشكيلهم لقائمة مستقلة (القائمة التقدمية) لانتخابات البلدية ثم انتخابات الكنيست .. وبرز تضعضع وضع الجبهة والحزب الشيوعي بهبوط التأييد من ثلثي الناخبين بأول معركة انتخابية، الى نصف الناخبين تقريبا بل وأقل من النصف، وامتناع نسبة كبيرة من التصويت .. وأيضا تراجع كبير وخسارة مقعد على الأقل، في تأييد قائمة الجبهة للكنيست.
منذ جيل مبكر دفعني والدي لصفوف الشبيبة الشيوعية، لم يخطئ، ولا أنكر ان شخصيتي وفكري وقدراتي العقلية ووعي وفهمي لواقع الحياة تطورت في هذا الإطار. اعتقد جازما ان الشباب هم أكثر الأوساط اندفاعا للانضمام للحركات الشيوعية لسبب بسيط، ولكنه عظيم، انهم يحلمون بالتغيير، يحلمون بمجتمع أكثر عدالة ومساواة وحرية، لكن مع تقدم العمر واتساع المعرفة وتعمق الوعي تبدأ المراجعات الفكرية الذاتية .. ويبدأ التساؤل المقلق: اين الخطأ؟ لماذا لا شيء يتحرك؟ أين النقاوة الثورية من القيادات الجديدة؟ لماذا يتفكك التنظيم وتفصل قيادات مركزية؟ لماذا توقف التثقيف؟ لماذا هذا التأليه لقيادات جديدة لم تتميز عن القيادات البطلة السابقة؟
طبعا لا اكتب الآن مداخلة فكرية، انما مقدمة استعيد بها حدثا مضحكا كنت شاهدا له ومساهما في الحوار .. ولحسن حظي إني سجلت أكثرية الحوار على مسجل كان معي، واليوم حين اكرر سماع الحديث أغرق بضحك وكأني اشاهد مسرحية كوميدية.
تبين حتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ان فكرة الاشتراكية كانت بعيدة تماما عن الواقع. كما ان الكثير من المقولات التي آمنا بها شبابا، لم يتبق منها الا بعض النشارة.
عايشت قيادات تاريخية ما زلت احترم دورها التثقيفي والتضحيات الكبيرة التي قدمتها واعترف ان اخلاصها لقضايا شعبها لا توجد عليه أي شائبة. لكني في العقود الأخيرة أقف امام قوى قيادية جديدة يمكن وصفها بالصبيانية، إنتهازيتها أصبحت هي المبدأ الأعلى، تخلت عن الروح الرفاقية، ولم تتردد حين كان بعضها بمركز قوة (مثلا في السلطات المحلية) ان تتصرف بنفس أسلوب الفساد الذي يخجل تاريخ حزبهم النضالي .. ولكنه لا يخجل القيادات الفاسدة غير الشيوعية في السلطات المحلية، وقادة بارزون جعلوا من مراكزهم أداة تطهير ضد كل من يجرؤ على اعتراض قراراتهم ونقدها، قادت الى تسريع تدمير الحزب الشيوعي .. بالتخلص من أبرز مثقفيه ونشطائه وقياداته وتقريب الفاسدين من حولهم. فقط ألأعمى تماما لا يرى ما آلت اليه حال الحزب الشيوعي في إسرائيل كنموذج، ومختلف أحزاب الحركة الشيوعية عامة في العقود الثلاثة الأخيرة.
لي مراجعات حول تجربتي في الحركة الشيوعية، نشرت بعضها وسأنشرها مركزة في وقته .. افتخر بمرحلة حياتي الشيوعية لأني كرست كل جهودي وقواي للنضال من اجل شعبي. في الوقت الذي نهج البعض على انجاز مكاسب شخصية ونهجت القيادات الجديدة لضمان سيطرتها على التنظيم والتخلص من كل منافس او رافض لنهج السيطرة المطلقة.
لكن هناك احداث ما زالت تثير ضحكي من مستوى الغباء الذي بات مميزا لبعض القيادات الجديدة .. باستعمالهم لمصطلحات لا يفقهون انها لم تعد تعني الا صياغة لغوية رنانة وفارغة وفاشلة. وأجزم انهم لو سئلوا عن تفسير المصطلحات التي يثرثرون بها، لما نبسوا ببنت شفة .. او لفسروا الماء بالماء!!
في ندوة حول الحياة الحزبية والسياسية في إسرائيل، تحدث عددا من الباحثين ووجهوا نقدا لكل النهج الحزبي السائد في الوسط العربي، الذي قاد الى انفضاض الجماهير عن النشاط السياسي، بكلمات أوضح، فشلت الأحزاب بتجنيد جماهير واسعة للمشاركة بالمناسبات الوطنية، وكان هذا تعبيرا عن أزمة القيادات السياسية العربية وضعف أحزابها وتضعضع اعلامها. كانت ازمة ثقة قاتلة من الجمهور وأزمة فكر للأحزاب .. وفقدان الأسماء البارزة التي جرى التخلص المهين منها بأساليب معادية لدستور الحزب نفسه، وبصمت ما تبقى من قيادات قديمة عاجزة سنا وفكرا وتنظيما.
تحدث زعيم شيوعي، لا اريد عرض الاسم لأنه لا أهمية للأسماء هنا. فكلهم في الهوى سوا. حين جاء دوره للحديث، وكان آخر المتحدثين، قال بصوت مجلجل مشددا على نهاية الكلمات، وكأنه يقصد ان حزبه لا تشمله الأزمة التي طرحها الباحثين الأكاديميين:
– نحن حزب شيوعي، حزب نضال ثوري. ماركسي لينيني، نؤمن بالصراع الطبقي وانتصار الطبقة العاملة العالمية على النظام الرأسمالي. نحن نؤمن ان التاريخ في المسار الصحيح. رغم ما حدث في الاتحاد السوفييتي، نعتبرها كبوة حصان، من اجل قفزة كبرى الى الأمام .. كما قال الرفيق ماوتسي تونغ.
وواصل كلماته النارية، متجاهلا الموضوع الأصلي الذي جرى الحديث حوله، عن الحياة السياسية والحزبية في إسرائيل وظاهرة أزمة القيادات السياسية في الوسط العربي، وعاد يكرر:
– نحن حزب الطبقة العالمة الثورية، حزب الفقراء والمعدمين، حزب البروليتاريا الثورية، نناضل من اجل انتصار الطبقة العاملة وبناء المجتمع العادل. مجتمع الاشتراكية الثورية الماركسية اللينينية.
شعرت برغبة بالضحك، ولكني تمالكت نفسي، وسمعت همسات تنتقد وتسخر مما يسمعون، كان حضورا نوعيا من مثقفين واكاديميين في القاعة لم تعد تنطلي عليهم هذه الصياغات الغبية المملة، لم تعد هذه الصياغات العتيقة المتخلفة تثير أي إحساس إيجابي، لكن الزعيم الموقر واصل التغريد:
– ان فلسفتنا هي فلسفة علمية وسائر الفلسفات برجوازية وضيعة تهدف الى تضليل الطبقة العاملة وحرفها عن النضال الثوري وتشويه فلسفتنا العظيمة.
قاطعه أحد الحضور بشيء من العصبية البارزة:
– أيها الرفيق الثوري الماركسي اللينيني الستاليني الماوتسي تونغي، هل تعتقد ان ماركس كان خاتم الفلاسفة كما كان النبي محمد خاتم الأنبياء؟ وهل لك ان تشرح لنا بعض الأفكار الوضيعة في الفلسفات البرجوازية التي تقصدها؟ رد الزعيم:
– الماركسية هي الفلسفة العلمية الوحيدة التي فسرت جوهر النظام الرأسمالي وطورت نظرية التاريخ بشرح علمي يثبت ان الطبقة العاملة ستنتصر على البرجوازية الوضيعة وتحقق مجتمع العدالة الاشتراكي والشيوعي…
– انت تكرر ما سمعناه .. هل لديك شيء جديد؟
– يبدو ان المقاطع عميل للأوساط الرأسمالية الاستغلالية.
تفاجأت من رده الوقح. لم أستطع صبرا قلت:
– يا رفيقي العزيز .. حتميتك التاريخية تنبأت بانتصار الطبقة العاملة .. وفي الواقع سقط نظام الطبقة العاملة، او الأصح نظام لينين وستالين الذين تعتبرهم مواصلي طريق ماركس؟ أجاب مقاطعا بدون تردد:
– الفلسفة الماركسية العلمية تثبت ان ما جرى كان تراجعا من اجل انطلاقة الى الأمام، انطلاقة ثورية تطيح بالنظام الرأسمالي العالمي. قاطعته شاعرا بأني اضيع وقتي الثمين بسماع تخريفات نظرية:
– تتحدث مثل رجل دين متمسك بنصوص خرافية لا تتغير ولا تتبدل .. ما تقوله فات موعد تسويقه، أصبح بضاعة فاسدة، لا أحد ينكر عبقرية ماركس، لكن ماركس نفسه تبرأ من الماركسيين أمثالك عنما أخبروه انه قام حزب ماركسي في فرنسا، فأجاب انا بالتأكيد ماركس لكني لست طائفة ماركسية.
– انت انحرفت ونحن لا ننحرف..
عاد يثرثر ويكرر نفس مقولاته. قاطعته:
– اعتقد إني ارتكبت حماقة بالبقاء والاستماع لماركسيتك الغريبة. لديك أربعة جمل تكررها بإصرار مثل ببغاء .. ربما لا تفقه معناها .. ولا أرى ان الحوار معك سيقود الى شيء مفيد .. الحديث عن ازمة القيادات السياسية العربية، وانفضاض الجماهير عن المشاركات النضالية .. وانت تتحدث عن حزبك دون التطرق للموضوع الذي تحدث عنه سائر المتحدثين، اعتذر وانسحب.
كثر اللغو في القاعة والتعليقات والأسئلة المربكة للزعيم، سمعت وانا اخطو نحو الخارج عريف الندوة يقول، كما يبدو لإنقاذ الزعيم من السخرية التي بدأت تتضح بمختلف التعابير التي بدأت تطغى على جو القاعة:
– الوقت انتهى أعزائي الحضور .. ناسف انه لم يعد مجال للأسئلة، اشكر “الزعيم” (طبعا باسمه الشخصي) ونلتقي في برامج أخرى ..
nabiloudeh@gmail.com