الشرق الاوسط
كتب ستالين، زعيم روسيا بين عامي 1921 و1954، الذي حكم بالنار والحديد، وقتل (حسب تقديرات متنوعة) نيفا و20 مليونا من مواطناتها ومواطنيها، كتابا لم يجد عنوانا أكثر استهزاء بالحقيقة من العنوان الذي اختاره له، وهو «الإنسان أثمن رأسمال».
لم يكن الإنسان في فهم ستالين مساويا للمواطن العادي الحي، الذي يعمل ويفكر ويعيش ويموت، بل كان كائنا مجردا بمعنى الكلمة لا علاقة له بالإنسان الواقعي بمفهومه الأول، لذلك كان من السهل عليه اعتبار الإنسان المجرد الذي ليس له وجود محسوس «أثمن رأسمال»، بينما حرم الإنسان الحي، ابن آدم وحواء، من حقوقه، بما فيها حقه في الحياة والوجود، واعتُبر بالتالي مخلوقا نافلا لا قيمة له، ليس قتله عدوانا على الإنسان الذي تحدث عنه الكتاب، وتم تمجيده والرفع من شأنه بقدر ما تم سحق الإنسان الواقعي والقضاء عليه وازدراؤه.
هذه المفارقة المشينة، إلى جانب موقف النظم الاشتراكية السابقة من الإنسان، التي بررت شرعيتها بخدمته والسهر عليه وتأمين مستلزمات الوجود الحر والكريم له، بيد أنها لم تفعل شيئا في الواقع غير سحقه والتعالي عليه وتحويله إلى عبد خانع لا حق له حتى في لسانه وعقله، فضلا عن حرمانه من أبسط مقومات الوجود، ذكرني بهما كتاب صدر أخيرا في ألمانيا حول سوريا، جعل أصحابه اليساريون له عنوانا لافتا هو «سوريا كيف تدمر الدولة العلمانية ويؤسلم المجتمع».
لم ير اليساريون الألمان الشعب الذبيح، ولم يروا الإنسان الذي تمزقه القنابل والصواريخ، ولم يفهموا مطالبته بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة، أو يسمعوا صرخات استغاثاته وأنينه، ولم تصل إلى آذانهم آهاته، وإلى عيونهم صور أطفاله وهم يضعون أيديهم على أعينهم هلعا ورعبا من فظاعة واقع يفرضه عليهم نظام ابتلع الدولة قبل 40 سنة، وانتقل منذ عامين إلى سحق ما بقي من مجتمع، لكن من أصدروا الكتاب لم يروا هذا كله، وسمحوا لأنفسهم بوضع عنوان له يتحدث عن تدمير الدولة العلمانية وأسلمة المجتمع، كأن الدولة الأسدية كانت علمانية في أي يوم، أو كأن أسلمة مجتمع مسلم هي اليوم أعظم الأخطار التي تهدده والمؤامرات التي تستهدفه.
لن أستعيد حديثا يتكرر منذ قرابة 50 عاما، حول استحالة وجود دولة دون مجتمع مواطنين أحرار. ولن ألح على حقيقة أبرزها عنف النظام هي أنه لا توجد في سوريا دولة. لو كانت هناك دولة لكان بشار الأسد في السجن، أو لالتف حبل المشنقة حول عنقه. إلى هذا، تلغي السلطوية الدولة والمجتمع بإخضاعهما لتنظيمات جزئية هي عصابات مافيوية تقودها أخوية مدججة بالسلاح لا تعرف من السياسة غير العنف، مع أن السياسة هي في صميمها عكس العنف وضده. أخيرا، لن أتحدث عن المجتمع، الذي سبق لسياسات النظام أن أسلمته كي يسقط في فخاخها وتتمكن من قمعه وسحقه، وتحول بينه وبين أن يسيس ويبدأ بالمطالبة بحقوقه وبالاستقلال عن المافيا الحاكمة وعصاباتها، أو بمقاومتها. تدمير الدولة وأسلمة المجتمع حقيقتان سابقتان للثورة الشعبية الراهنة، وليستا من نتائجها بأي حال من الأحوال. الغريب أن مفكري علم الاجتماع اليساريين هم الذين أكدوا على هاتين الواقعتين، واشتغلوا على دراستهما في مواقع كثيرة، وهم الذين أخبرونا أنهم استخلصوا النتائج اللازمة منهما، وملخصها أن الدولة العلمانية لا تتفق مع العصبوية والطائفية لكونها دولة حريات فردية وعامة حصرا. وها نحن عند أول اختبار عملي نلاحظ أن هذه المفارقة بين الأقوال والمواقف، واحتقار الإنسان وتمجيد قتلته لمجرد أنهم يمسكون بالسلطة ويدعون العلمانية، كأن هذه أكثر أهمية من الإنسان، أو يمكن أن يبرر قتل وتشريد الملايين من البشر وتدمير قراهم وبلداتهم ومدنهم، أو كأن المجتمع يستحق القتل، إن هو خالف العلمانية أو تأسلم، أو حتى تشيطن!
لم يسأل اليساريون أنفسهم عن أسباب ثورة المجتمع، وعن تدمير الدولة ومن الذي دمرها، لأنهم تبنوا طروحات النظام السوري، وجعلوه بريئا من كل ما يجري في سوريا وضحية لجهات لا يعرف كنهها أحد غيرهم، تقف وراء الفعل المبني للمجهول في كلمتي «يدمرون» و«يؤسلمون»، يرجح أنها من الإمبرياليين المجرمين، الذين يدمرون الدولة ويؤسلمون المجتمع، فكأنهم مع «القاعدة» وليسوا ضدها، وضد الدولة الأسدية، وليسوا معها.
يخافون على الدولة العلمانية وعلى علمانية المجتمع. ما نفع العلمانية إن كانت ضد الإنسان، الذي يقال إنه أثمن رأسمال في الكلام، ويُقتل كالذبابة في الواقع. وهل هناك جريمة تفوق في فظاعتها جريمة قتله والقضاء عليه فرادى وجماعات، بيد دولة علمانية مزعومة يقال إنها قائمة في سوريا، مع أن دولة الأسد تنتهك حقوق الإنسان، ولا تعترف بوجوده، ولم تلاحق خلال السنوات الـ40 الماضية غير الديمقراطيين، بينما وضعت يدها منذ أسسها حافظ الأسد في أيدي أشد عناصر الإسلام السياسي ومؤسسته الأوقافية تطرفا وتعصبا، ونظمت مختلف متطرفي الأصولية ودربتهم وسلحتهم لتخويف بقية المجتمع بهم ومنهم، واستخدامهم ضد جيران سوريا؛ من العراق إلى لبنان، ومن الخليج والأردن وفلسطين وصولا إلى أوروبا.
لم تدمر الدولة العلمانية في سوريا، لأنه لم يكن لها أصلا أي وجود فيها. ولم يؤسلم المجتمع السوري، لو كان تأسلم لما جعل الحرية هدف ثورته، ولما قاوم محاولات حرفها عن غايتها، وأفشلها كما تثبت دلائل متنوعة، وستؤكد مقبلات الأيام ذلك!