في فلك مايدور اليوم من تحولات (تراجعات ) بالقانون المدني في العراق نحو شريعة “الاعلون ” …
كتبت قبل حوالي عام من اليوم مقالة “وهم صاغرون”، عبرت بها عما عاناه اصحاب الارض في ارض اجدادهم السريان ، مسيحيوا العراق (الشريحة التي انتمي اليها) منذ الغزو الاسلامي وصولا الى الاستعمار العثماني.
وذكرت ان ماحدث من تغيير لاوضاعهم بعد الاستقلال ودخول العراق هيئة الامم ، ماهو الا قشرة خارجية مصطنعة تخفي بطياتها العميقة بنية مجتمعية اقصاءية …فلم تكن تلك القشرة الا قوانين مسقطة خارجية من المجتمع الدولي لم يتبناها المجتمع العراقي مطلقا عن اقتناع… وها نحن اليوم نشهد زوال تلك القشرة ليظهر ما تحته من صدأ، فلو كان ذلك التغيير حقيقي لما كان بالامكان اليوم من اعادة للماضي … فهل من مستغرب اليوم اذا أعيد العمل بالجزية مرة اخرى ؟
سأعيد نشر مقالتي لنرى هذه المرة ، هل هناك من معارض اليوم لما قلته بالامس؟
وهم صاغرون
…………………..دينا قرمة
لطالما استوقفتني منذ طفولتي هذه العبارة” عن يدٍ وهم صاغرون ” وهي الحكم بحالة من الاذلال النفسي التي يجب ان يكون عليها النصراني وهو يدفع جزيته “قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ”.
لطالما عملت هاتين الكلمتين اشكاليه بيني وبين خالقي .. لماذا الاذلال ؟ اليس نحن من خليقتك ؟ لماذا تريد ان نُذَّلْ ونحن ندفع الجزية ؟ لماذا تريد ان تبني علاقتى مع المسلم كعلاقة سيد وعبد ؟ اذا كان الهدف ان ندفع جزية كحالة مكافئة للزكاه ( وان كان هذا غير مقنع ) فلماذا باسلوب الاذلال ؟ الا يكفي ان تقول وبمحبة عليكم دفع جزية مثلما يدفع المسلم الزكاة، لانني اله عادل ؟ كيف تعتقد ياخالقي اني سأحبك وانت تؤسس لاذلالي؟ .. سأدفع جزيتي ..نعم سأدفعها خوفا من شراسه اتباعك ولكنك لن تنال حبي ابدا ،..
اتعلمون مدى تاثير هاتين الكلمتين الالهية ؟ انها أسست الاضطهاد المسيحي بالدول الاسلاميه على مدى التاريخ؟ فهي تلخص كل ماجاء بعدها من افعال..وردود افعال لكلا الطرفين …
فماالعهدة العمريه وماتحويه من شروط اذلال للمسيحيين سواء بالملبس والتعامل الخ، اِلا ترجمه لشرط :”وعن يد وهم صاغرون”
وماعاناه اجدادنا سابقا من اذلال ،ماهو اِلا ترجمة فعلية لتلك الكلمتين .اذ على سبيل المثال كان المسيحيون يتجولون في المدينة واضعين على اكتافهم ممسحة ،كانوا يمدونها لشركائهم في الوطن المسلمين الذين اعتادوا على مسح أيديهم على ثيابهم .
مع تأسيس الدولة المعاصرة بعد الاحتلال البريطاني اختلف الامر، اذ اجبرت تلك الدول ان تؤسس دساتيرها على اساس علماني مبني على المواطنه( طبعا مع تحفظات كثيرة ).
فبداءت الصوره تتغير ( وهي زمن اباؤنا وجيلنا ) لكن بقي تأثير هاتين الكلمتين الى جانب كلمتين اخرييتين “وانتم الاعلون” مؤسسة ببنية المجتمع نفسه وان كان القانون للدولة يجعلها مجمدة. ومن هنا ياتي سبب تمسك المسيحيون بالسلطة وسيادة القانون على الدوام ، وولائهم الدائم لمن يمثل تلك السلطة كائن من كان (سواء الملك او عبد الكريم او صدام .. )لانهم يدركون تماما ان نجاتهم من الاذلال وحكم الصاغرون يكمن بوجود سلطة عليا،وغيابها تعني مأساتهم .. والامثلة كثيره في ازمنه غياب السلطة، اذ لا بد أن نتذكر ان المسيحيين شهدوا أسوأ أنواع الإذلال غداة محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة للشواف التي جرت احداثهاعام ١٩٦٠والموصل مركزها، او لنتذكر مذبحة الفرهود لليهود ببغداد ١٩٤١ بعد فرار رشيد عالي الكيلاني ، واخرها ماحدث بالموصل بعد انسحاب الجيش والدوله، والدور الذي لعبه بعض اهالي المدينه وهجوم الجار على جاره المسيحي .
ناتي الان اجتماعيا الى النخب المثقفة المسلمة والتى عايشت المسيحي وكانو فعلا اخوة من الطرفين . فبحكم تربية وثقافة الطرفين نشاءت علاقة تعايش الى حد يمكن وصفها ندا لند ، لكن مهلا انها علاقة مودة لكن مشروطة بمسيحي مسالم مدرك للاختلافات، بين قوسين “صاغر”.. وماكو مشكله هنا لان نمطية المسيحي الذي دجن على مر التاريخ هي شخصيه مسالمة ويسعدنا ان نطلق عليه “خطيه فقير”، فاذا اردنا ان نتهكم على معتقده فهو صاغر ، اذا اردنا ان نشتمه بدعائنا فهو متفهم وصاغر ، اذا اردنا ان نجبر طفله على سماع القران كضريبة يدفعها بانتظار الكارتون ونجعله ينحرج امام اطفاله بالايات المثيرة للجدل ..ولكن مهلا اي جدل ؟…لاجدل ،استمع وانت صاغر وان كان مايسمعه يكفره ويتهم عقيدته بالهرطقه فلا باس لانهم يمتلكون دين الحق وانت منحرف ، اسمع وانت صاغر . ان نمنع المسيحي من رتبة عسكرية عاليه مهما كانت مؤهلاته فلاباس فهو صاغر اما اذا اردنا ان نتكرم عليه بمعايده باهتة بالتلفاز فهو ممتن وصاغر. واذا اردنا تجاوزه كمكون اجتماعي في صياغة مسلسلاتنا وافلامنا فهو متفهم وصاغر واذا احتجناه للقيام بدور جاسوس خائن او بائع للخمور فهو ممنون وصاغر. اما اذا ابتليت احدى العوائل المسيحيه بعلاقه حب لاحد ابنائها او بناتها مع فتاه اوفتى مسلم فعليهم تقبل الخسارة لاولادهم واحفادهم وهم صاغرون بمباركه وازواجية قانونية ومجتمعية( فالعكس يعني هدر دماؤهم ) . اما المأساه الاكبر، ان يٌجبَر ابناءه على دراسة تاريخ مشوه كتبه لصوص سارقون لجهد غيرهم ، يُطمٓر به عن قصد تاريخ المسيحيه بالعراق والشرق ويٌغٓض النظر عن اسهامات السريان وفضلهم ببلورة حضاره الشرق ،ويسرق جهدهم وثمار اجدادهم لينسب الى المسلمين والعرب، وما على المسيحي الا ان يدرس اولاده المشوه من التاريخ وهو صاغر.
هذه الحاله الطبيعية في ظاهرها وغير طبيعية بداخلها جعلت المسيحي شخصية مكبوته وتتذبذب مابين شخصيه سلمية صاغرة داخل الوطن وتحولها الى شخصية هجوميه خارج الوطن ، ..لكن طبعا تبقى علاقاتهم الخاصة بأحباءهم واصدقاءهم دائما معضلة فهم بين نارين فعلا .. ولذلك ايضا نرى نمط اخر للمسيحي بالخارج وهو يمثل النمط الغالب لهم ،اذ اختاروا هؤلاء ان يستمروا بالخارج على نفس المنهج الذي اتبعوه بالتعامل بالداخل ، هذا النمط من المسيحيين غلف التناقضات التي عاشها بالداخل من خلال انكبابه على عمله ومهنيته ومقنع نفسه بانه مازال شغله وحياته الاجتماعية عال العال ومايحدث لمسيحي الداخل لن يصله فلايهمه مايحدث وبهذا حل الاشكالية مع احباءه من خلال انانيته وربما في بعض الاحيان تلعب المصلحة الشخصيه كعامل اضافي .
السؤال لماذا نرى جهود ايزيدية لاجل قضيتهم ولا نرى حاله مشابهة للمسيحيين.. فمن وجهه نظري،
الايزيديين بالتاكيد ولايقبل الشك مصيبتهم اكبر من مصيبة مسيحيي العراق وعلى مر التاريخ، فهم لم يعانوا من اذلال ” وهم صاغرون ” وانما حكم عليهم حكم الكافر ولهذا السبب لم نرى اثناء معيشتنا اي اندماج مابين الايزيدي وباقي المجتمع ،اذ انحصروا بمناطقهم المعزوله خوفا من المجتمع وهناك القلة منهم من عاشوا بيننا لكن اخفوا انتماءاتهم خوفا ومحد حس بوجودهم . اذ كانو يتجنبون ان يعلنوا عن ديانتهم بيننا ،فيدعون اسلامهم احيانا او يتهربون من الاجابة الصريحة احيانا اخرى .
وبالتالي يمكن تشبيه ترابط الايزيديون فيما بينهم بمسيحي القرى ( بسبب عزلتهم )اذ لم تجبرهم الظروف المعيشية للتأقلم والتعايش مع الاخرين وبقى تماسكهم فيما بينهم اقوى، وللامانة هنالك ايضا جماعات مسيحية تعمل بلا كلل في المحافل الدوليه لكنهم قلة لايمثلون وزن المسيحية بالعراق واغلبهم من القرى المحيطة بالموصل سواء اثوريين او كلدانين او سريان، فهؤلاء المسيحيون مسيحيوا القرى هم انقى واكثر امانة منا على قضيتنا نحن مسيحيوا اهل المدن التي لوثتنا وشوهتنا كلمتين ” وهم صاغرون” والتي دفعت من قبلنا كضريبة للاندماج والتعايش .
ختاما …انتم تقولون كنا عايشين سوية بسلام…. وانا اقول لكم هذا السلام كان بثمن دفعه اجدادنا ودفعناه نحن ايضا. الثمن هو اذلال اجدادنا وانصياعهم لشريعه “احنا الاعلون و انتم صاغرون” مما جعل اجدادنا ينكبون على العلوم والثقافه والفنون ويبرعون بها وكسبوا حاجه المسلم لهم من خلال اجتهادهم ومثابترهم وخلقوا عالمهم الثقافي الخاص بهم عسى ان يعوضوا بذلك ال
Self Esteem
الذي انتهكت بداخلهم بالاذلال الشرعي.
اما لاحقا بجيل اباؤنا وجيلنا فأقول نعم يمكننا التعايش ، لكن تحت سيادة القانون المدني فقط ، فقد حمانا نظام الدولة الحديثة الذي اسسه ابو ناجي ودستوره العلماني الذي فرضه ، مما جعل هناك امكانية اكثر لاجيالنا للاندماج ومن ثم لحقه انضمام العراق الى عصبة الامم والتي اصبحت فيما بعد الامم المتحدة ،مما جمد العمل باحكام الشريعة لكونها تتعارض مع وثيقة حقوق الانسان في الامم المتحدة.
وختاما اقول لك ياخالقي : حتى الوثائق البشرية كانت ارحم واكثر انصافا وعدلا من شريعتك المذلة والمجحفة ” وهم صاغرون ” يامن خلقتني على صورتك ومثالك.
واقول لشركائي بالوطن ” وطن بدون كرامه غربه”.
ولهذ السبب يا أخت دينا هاجر معظم المسيحيين ارض اجدادهم الذين عانوا الظلم والقهر والاستعباد بالرغم من وضعهم الاقتصادي الجيد انطلاقا من قول الشاعر.
لا تسقني كاس الحياة بذلة. بل اسقني بعز كاس الحنظل