يونس شريف
يرمي هذا المقال إلي قراءة الصراع حول المادة 219، بشكل يتجاوز مجرد الصراع الفقهي- القانوني، أو حتي السياسي البحت، لاستكشاف أبعاده الإيديولوجية التأسيسية، وتجاوز جوانب من الزيف الذي يحيط بالمناقشة، وصولا إلي تحليل بشأن طبيعة الصراع، واقتراح موقف أساسي للمعسكر الديمقراطي في الجدل حول الدستور في سياقات الثورة المصرية.
(1) بين المادة الثانية و219
الجدل حول المادة 219 يُخفي أكثر مما يُظهر. المادة تحدد الشريعة (باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع في المادة الثانية)، بأنها “تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة”. هذا التحديد يعني في واقع الأمر تعريف الشريعة بأنها ذلك التراث السابق المتراكم علي مر القرون من الفتاوي والمدارس الفقهية (السُنِّية وحدها)، أي تعني الالتفاف علي سابق رفض إحلال كلمة “أحكام” محل كلمة “مبادئ” في المادة الثانية. وهو ما يعني عمليا إحالة غائمة إلي تراث كامل، معظمه انتهي فعليا، يمكن أن تجد فيه كل شيء وصولا إلي أحكام معاملة العبيد والإماء. هذه الإحالة لا ترمي إلي إعادة العبودية مثلا، بل وضع مبدأ دستوري يحيل المُشَرِّع والمجتمع بأكمله وجوبا إلي مجلدات ذلك الماضي بكل ما ورد فيها من اجتهادات.
المادة 219 لا ترمي إذن إلي مزيد من الدقة في تحديد المقصود بالشريعة، بل إلي التخلص من كل دقة بإلقاء المجتمع والسلطة في خضم هذه المجلدات القديمة ليحاول أن يشق طريقه عبرها باعتبارها هي المجال المتاح له.. لتتقاتل جميع القوي بالأوراق الصفراء.
لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن هنا، ولم تنشأ من إقرار المادة 219 التي لم تطبق عمليا.. بل تكمن في المادة الثانية نفسها. كانت المحكمة الدستورية قد فسّرت المادة الثانية بأن مبادئ الشريعة هي المقاصد العامة للشريعة التي هي مقاصد عامة لا خلاف عليها في أي مجتمع تقريبا، مثل العدل والحرية والمساواة وما إلي ذلك. كما قررت أن مبادئ الشريعة هي مجموعة قليلة من الأحكام قطعية الثبوت والدلالة.
برغم ذلك أدت المادة الثانية في التطبيق إلي أحكام منافية للحرية الدينية والأخلاقية والضميرية وحرية النشر والتعبير في قضايا كثيرة، منها الأحكام الخاصة بالبهائيين أو بشأن نصر حامد أبو زيد أو قضايا تحويل العقيدة (ما لم يكن إلي الإسلام)، وغير ذلك. وحالت الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، التي فقدت علاقتها بالواقع الاجتماعي ومجمل البنية التشريعية (مثل قطع يد السارق، أحكام الزنا، مثلا) إلي شل يد التشريع عن إجراء أية تعديلات في مواد قانون العقوبات المتعلقة بها، مثل حالات القتل من أجل الشرف، لأن أي محاولة للتعديل ستصطدم فورا بالتفسير الضيق لمبادئ الشريعة.
(2) الأصولية والهوياتية والدستورية
المشكلة إذن من حيث جوهرها أبعد من أن تُحصَر في المادة 219. هناك مشكلة أساسية تحتاج إلي فحص وإدراك لأبعادها ومعناها مع مبدأ الشريعة نفسه، أي مبدأ الإحالة إلي التراث الفقهي بأدلته ومصادره وقواعده التي أشارت إليها صراحة المادة 219، والتي كانت تتسلل بروحها في عدد معتبر من أحكام المحاكم حتي قبل أن تظهر في الأفق في دستور الإخوان- السلفيين في 2012.
هذا التأكيد علي عمق المشكلة لا يعني بطبيعة الحال القول بأنه لا فارق بين وضع المادة 219 وإلغائها، بل يعني أن المشكلة من حيث التصور والمفهوم لا تكمن هنا، بل تكمن في تصور معين، عن المجتمع والدولة والوجود، موجود بشكل ضمني خلف كل الكلام المثار بشأن الشريعة، وغير متاح للمناقشة بسبب خوف المعسكرات الفكرية من تجاوز خطوط حمراء معينة. هذا التصور الضمني الذي يتسلل عبر المادة الثانية أحيانا، أو يظهر بشكل صريح في صياغة المادة 219، نجد تجليه الحقيقي في رأيي في المادة التي فشل السلفيون في فرضها علي رأس دستور 2012: السيادة للـه وحده، ومجمل التصورات الفقهية- السياسية التي حركت مجمل الظاهرة المعروفة بـ”الصحوة الإسلامية”.
وفقا لذلك، المشكلة في عمقها هي مبدأ “الصحوة” الأصولي نفسه: ليس للمجتمع الحق في أن يضع لنفسه تشريعاته كيفما يري، من خلال توازناته السياسية والمصالح وجماعات الضغط المختلفة ونجاحها في الدفاع عن مصالحها بوصفها مصالح عامة، لأن “السيادة للـه وحده”، وهي السيادة التي تتحقق عبر سلطة الوسطاء المطلعين علي ذلك التراث، والذين يمنحون أنفسهم حق تأويله وتطويره.
لكن المقال لن يتناول هذه القضية من زاوية أثرها علي الحريات، بل من حيث أزمة هذا المبدأ الأصولي نفسه. الفكرة هنا هي أن هذا المبدأ هو في صميمه غير دستوري أصلا. فكرة الدستور، بصفة عامة، أي دستور، تعني أن المجتمع يضع لنفسه نظام حكمه، بما في ذلك قواعد التشريع، بما له من حرية ابتدائية افتراضية حصل عليها. وإقرار أي دستور عن طريق استفتاء أو عن طريق جمعية منتخبة أو كليهما يعني أن هذا المجتمع يعتبر نفسه مكوّنا من أفراد متساوين، لكل منهم الحق، بوصفه فردا حرا، في وضع القواعد التي تقوم عليها السلطة العامة، بما في ذلك قواعد التشريع. لذلك يعتبر باب الحريات الذي يضمن حريات وحقوق الأفراد في مواجهة كافة سلطات الدولة لُب أي دستور، بينما يمكن أن يختلف تحديد نظام الحكم نفسه بين مَلَكي دستوري أو جمهوري أو برلماني أو خليط من عدة نظم بضوابط معينة من دستور لآخر، حسب التراث الدستوري التاريخي والتوازنات الواقعية.
معني هذا أن فكرة الاستفتاء علي دستور قائم علي ملامح أصولية (وبالتالي يقيد الحريات الفردية وحق المجتمع في التشريع بأي قيد)، منافية لفكرة الدستور نفسها. كما أن الاستفتاء علي دستور كهذا مناقض أيضا للفكرة الأصولية، لأن استفتاء الأفراد الأحرار علي إقرار (أو عدم إقرار) التشريع الإلهي، أو السيادة الإلهية، أو أحكام الفقه، يعتبر من وجهة نظر فكر “الصحوة” شِرْكا وتعديا علي الحقوق الإلهية. إقرار أية أصولية بشكل متسق يعني استبعاد أية إحالة إلي الفرد الحر بأية صورة كانت. فمبدأ التشريع الإلهي لا يستطيع أن يتجسد بطريقة متسقة مع نفسه إلا من خلال مبدأ ولاية الفقيه، أو السلطان الأمين علي الفقه، باعتبارها ولاية سابقة علي كل دستور. لذلك ربما كان الأنسب من وجهة النظر هذه أن يصدر الدستور الأصولي، إذا صدر دستور أصلا، كمنحة من حاكم يحكم بالقوة، بوصفه يؤدي بذلك واجبا دينيا يثاب عليه، كفرد، في الآخرة، ويثاب الآخرون عليه بقدر طاعتهم لهذا الحاكم التقي الذي “يسوس” الناس بالشريعة، أيا كانت إراداتهم الفردية المختلفة.
إصدار دستور أصولي، أو به ملامح أصولية حاكمة، لا يتفق إذن مع أي مبدأ أيا كان، لا مبدأ الأصولية ولا مبدأ الدستورية. لكن مشروع الدستور الإسلامي يحاول أن يحقق هذا الهجين بالفعل، لأنه ببساطة يعبر عن عجز الإسلاميين عن إقامة دولتهم الأصولية علي الوجه “السليم”، أي بـ”الفتح”: تحطيم جهاز الدولة وإعادة بناء الازدواج بين الدولة والشريعة علي النحو “الملائم” (النموذج الإيراني).
ما هو إذن مبدأ إصدار دستور به ملامح أصولية في ظروف غير “ملائمة”. في هذا الحل “الوسط”، تجري ترجمة العقيدة إلي نوع من قومية، أو إلي نوع من تراث ثقافي أصلي ومؤسِّس للجماعة السياسية. لا تجري المطالبة بالشريعة كحاكم أعلي من حيث أنها إلهية فحسب، ولا حتي أساسا، بل من حيث أنها “تراث الأمة” أو “ثقافتها”. فالمجتمع يجري افتراض هوية إسلامية له، وأن هذه الهوية موجودة في الشريعة (ومصادرها المعتبرة التي لا يعرفها الناس، إلخ). وبناء عليه يجري فرض الشريعة بوصفها هوية المجتمع في مواجهة الفرد بصفة عامة (أي من حيث المبدأ)، وفي مواجهة أية جماعات أو أفراد لا يتفقون مع هذه الرؤية. هذه الترجمة قام بها أساسا مجموعة التراثيين الجدد، مع مجموعة من “الإسلاميين المعتدلين”، لكن هذا موضوع آخر.
ولأن الشريعة مطروحة في هذا التصور الهجين كنوع من ثقافة اجتماعية تعبر عما يسمي “هوية المجتمع”، قيل إن فرضها باستفتاء أو بغيره هو من صميم الديمقراطية بالمعني الواسع للكلمة، أي التعبير عن إرادة المجتمع في الدفاع عن هويته.
وفي سياق هذه الفكرة (أي ترجمة العقيدة إلي ثقافة، هوية)، قيل إن فرض القواعد الإلزامية (غير المحددة) للشريعة، هو من صميم الديمقراطية، ولا يتنافي مع قواعدها. وقيل إن أي دستور يفرض قواعد إلزامية ما علي الجميع، وأنه بذلك يقيد حرية الفرد، حتي لو كانت هذه القواعد غاية في الديمقراطية وتقديس الحرية. فهي بوصفها قواعد عامة تحد من حرية الفرد بوصفه فردا. فعليه، مثلا، أن يحترم حريات الآخرين المختلفين معه برغم أنه قد لا يرغب في ذلك بإرادته الحرة، لو تُركت إرادته هذه لنفسها. كما قيل إن كل مجتمع، بصفة عامة، يضع قواعد قانونية، بل وأعرافا غير مكتوبة، لها قدرة مُلزمة تحد من حرية الأفراد عمليا، وإن كل مجتمع له تاريخ وتراث وتقاليد لها قوة إلزام متفاوتة، وتسفر فعليا عن دساتير وقوانين متفاوتة.
لكن هذه المحاولة “لتجسير الفجوة” بين الدستوري والأصولي ليست سوي مغالطة. يكمن الفارق الجوهري في أن مبدأ الدستور يقوم علي الفرد المستقل الافتراضي، الحر من حيث المبدأ، الذي يكون عليه بالتالي، التفاهم علي ما هو محل إلزام مشترك مع الأفراد الآخرين المساوين له. ولأن مبدأ حرية الفرد هو أساس المبدأ الدستوري، يجب أن يكون هذا الإلزام في الحدود الدنيا التي تتيح للفرد ولنظرائه من المواطنين تعديل هذا الإلزام المتبادل، بما يفضي عمليا إلي توسيع نطاقات الحرية، أو تقليل القيود المتبادلة. بعبارة أخري، يفترض المبدأ الدستوري (شاملا مسألة صدوره عن الشعب بوصفه مجموع السكان بوصفهم جماعة سياسية)، أن هذه الجماعة تتشكل كجماعة من أفراد حريصين علي حريتهم، يقللون التزاماتهم المتبادلة إلي الحد الأدني الذي يحفظ المصالح المشتركة للجماعة بوصفها جماعة بشرية حريصة علي تصور نفسها
كمجموعة من المواطنين الأحرار المختلفين في رؤاهم وطموحاتهم وطبائعهم، وحقهم في ممارسة هذا الاختلاف علي قدم المساواة.
ويمتد ذلك إلي مسألة التراث الثقافي والتاريخ والتقاليد. فالمبدأ الدستوري بإطلاق حق التشريع للشعب بغير قيود مسبقة، يفترض أن أفرادا من الشعب قد يرغبون في تغيير بعض البنود القانونية أو الدستورية في المستقبل، وأنه ليس من حق واضعي الدستور بالتالي أن يقيدوا إرادتهم مسبقا. وبالتالي يتيح، بل يضمن، لكل المنشقين علي الأغلبية، حاليا ومستقبلا، التمتع بكامل الحرية في بذل الجهود المشروعة لتحقيق هذا التغيير في المفاهيم أو القيم، وفي القوانين الحاكمة، سواء بالسلوك العملي فيما لا يتناوله القانون، أو بتغيير القواعد القانونية.
أما ترجمة الأصولية إلي ثقافة، فإنها تقوم علي عكس هذا المبدأ تماما، أي تقوم، كما ذكرتُ، علي حق الماضي في التحكم في الحاضر، وحق الحاضر في التحكم في المستقبل. ويسمي هذا المبدأ الاستبدادي، في صياغة يمكن أن توصف بالنفاق والكذب، “حرية المجتمع”. المقصود بهذه “الحرية” في الحقيقة هو حق السلطات المعبرة عن “المجتمع” في تقييد حرية الفرد. ليس فقط بمنعه من ممارسة عقيدة أو التعبير عن فكرة تتعارض مع “الثقافة”،أي “الهوية”، بل أيضا بالسماح بتدخل واسع للدولة في “تربية” الأفراد وتقويمهم وتهذيبهم ليصبحوا مطابقين للتصور الهوياتي المرغوب فيه.
لكن هذا المبدأ، أي رفض مبدأ حرية الفرد وواجب إخضاعه، لا يقتصر علي المنادين بالشريعة، بوصفها في أقوالهم “الكتالوج” الذي أمر اللـه الإنسان باتباعه، بل يشمل كل دستور يحدد هوية معينة إلزامية للمجتمع، لأن تحديد الهوية دستوريا يترتب عليه إلزام كافة سلطات الدولة بالحفاظ علي هذه الهوية أو تدعيمها. ويعتبر هذا التحديد أساس كل ديكتاتورية “دستورية” (أو ملتحفة بأوراق تكرس قوانين ومؤسسات قمعية وفقا للدستور).
لماذا كانت مقولة الهوية ديكتاتورية؟ واقع الأمر أن أحدا لا يضع هوية ما في الدستور (ويشفع ذلك بإجراءات في مجال التعليم والثقافة والإعلام و”تهذيب” المواطن وما إلي ذلك) لأن هذه الهوية من طبائع الأمور. بالعكس تماما. لأننا إذا سلمنا جدلا بما يقوله الهوياتيون، من أن الهوية قائمة بالفعل، ومغروسة بالتالي في أعماق الأفراد أو معظمهم، سنجد أنها بوضعها هذا ليست بحاجة إلي أي دعم دستوري ولا إلي قهر قانوني. لأن هذه الهوية التي يُفترض أنها أصيلة وبديهية، تكون وفقا للافتراض الهوياتي متغلغلة في الحس المشترك، وظاهرة في سلوك الإفراد، بوعي منهم أو بشكل غير مقصود، فلا يحييها ولا يميتها ولا يدعمها دستور ولا قانون. تماما مثلما لا ينص أي قانون أو دستور علي أن الإنسان يأكل ويشرب وينام، لأن ذلك من صميم طبيعة البشر ككائنات.
واقع الحال إذن أن كل نص علي هوية المقصود به فرض هوية، لا التعبير عنها. وهو إذن مدخل لتقييد عام لحرية الأفراد بقدر ما يجري تفسير أقوالهم أو سلوكهم بأنها تشكل اعتداءات علي هذه الهوية الجماعية المفترضة. فوق ذلك، الهوية هي مبدأ للتحكم في المجتمع القائم ككل، لا مجرد “الخارجين عليه”. لأن الهوية تفترض في نفسها أنها عابرة للأجيال والزمن. هي “أصلية”، بلا أصل محدَّد أو مرجعية يمكن أن تناقَش. وهي بوصفها سرمدية وأصلية تعلو علي إرادة أي جيل بعينه، لأنها فوق الأجيال والأزمنة. وبهذا المنطق لا تكتفي مبادئ الهوية بتبرير منع أية رؤي تحملها أقليات ما، دينية أو فكرية أو مذهبية أو سياسية، بل أيضا قمع رؤي مخالِفة، حتي لو تبنتها أغلبية، باعتبارها تمثل وفقا لمبدأ قداسة الهوية الخروج علي هذا الأصل المبهم السرمدي، فيجري محو إرادتها باعتبارها “غير دستورية” في هذا المبدأ غير الدستوري في أساسه.
تبدو فكرة السيادة الإلهية والتشريع الإلهي التجسيد الأنقي والأكثر شراسة لفكرة الهوية اللا-دستورية. لكنها لهذا السبب بالذات يبلغ فيها هذا التناقض أشده. فبينما تفترض هذه الهوية أنها أعلي حتي من أي تراث أو تاريخ، لأنها نابعة من الفطرة البشرية مباشرة، فإنها تقدم أقسي القيود التي تعتبرها ضرورية لكي “تتجلي الفطرة”. بعبارة أخري، يفترض تقنين أو دسترة الفطرة أن الفطرة غير فطرية، وأنه، علي العكس، “الانحراف” عن الفطرة هو الفطري الحقيقي، الذي يجب قمعه لكي يتجلي ما هو “فطري” حقا. وبرغم أن فكرة الفطرة تعتبر من حيث المبدأ فردية (لأن الفرد هو الذي يملك ضميرا ويحاسَب علي أفعاله)، فإنها تعتبر حرية الفرد الخطر الأكبر علي الفطرة، وأن المؤسسات القمعية (بما فيها التربوية والدعائية وغيرها) هي في واقع الأمر الأمينة علي الفطرة والمسئولة عن فرضها علي الأفراد.
(3) ما العمل إذن؟
الدستورية والهوياتية إذن لا يتوافقان، ولا يمكن الجمع بينهما في نص دستوري إلا بوصفه تعبيرا عن عجز الهوياتية عن “فتح البلاد” بالقوة وإخضاعها، وعجز المبدأ الدستوري القائم علي الفرد عن السيادة. لكن النتيجة لا يمكن أن تكون فعليا حلا وسطا، لأنه لا حل وسط بين فكرة سيادة طائفة، أو جماعة مُنقذة، مبنية علي مبدأ هوية، ومبدأ سيادة الشعب بوصفه مجموع السكان في هيئة سياسية مكونة من أفراد أحرار. لذلك، مثلا، جاء دستور 2012 واضحا في تقييد الحريات بمواد الهوية، ولم يكن واردا أن يكون الأمر بالعكس.
لا يبدو لي صحيحا تصوُّر أنه يمكن التخلص بشكل كامل من هذا الازدواج، برغم تغير توازنات القوي. فأولا، لم تختف القوي الاستبدادية بانتفاضة 30 يونيه، وثانيا، الهوياتية الاستبدادية ليست مقصورة علي الإسلاميين.
أبسط الدلائل علي هذا مسار التطور الدستوري المصري. فبينما كان تعريف الدولة المصرية إجرائيا بحتا بغير أية إشارة للهوية في المادة الأولي من دستور 1923 (حكومتها مَلَكيّة وراثية وشكلها نيابي)، تاركا باقي المواد لحقوق الأفراد وتنظيم الفصل بين السلطات، نجد أن دستور 1956 يدور بأكمله حول كيان المجتمع، الذي قد يمنح الفرد حقوقا، لكن في سياق الهيمنة باسم المجتمع وانتماءاته الافتراضية. يعين الدستور هوية عربية للبلاد، ويمنح السيادة “للأمة”، لا للشعب، أي للسكان بوصفهم كيانا ثقافيا له هوية معينة، ويقوم علي التضامن الاجتماعي والأسرة، ويقيد مختلف الحقوق لصالح “المجتمع” أو “الخير العام للشعب”. ومع تقدم الجماعة، أي التصور اللادستوري للدستور، يتزايد ثقل الدولة التي تنظم وترتب، فضلا عن التوزيع المختل والصوري للسلطات كما هو معروف. وفي نفس الوقت يظهر الإسلام كدين رسمي للدولة. وفي دستور 1971 تظهر الشريعة كمصدر رئيسي، لتصبح “المصدر الرئيسي” في التعديل عام 1980.
غني عن البيان أن دستور 1956 وما تلاه قد صدر في سياق لا صلة له بالديمقراطية والحريات، وكانت هذه الدساتير بتأكيداتها الهوياتية تعبيرا عن واقع أنها كانت منحة من النظام الحاكم، وأداة لتسيير مؤسساته وضبطها، ولا تنبني علي أي حق أصلي للفرد، ولا بالطبع علي مبدأ استقلال السلطات الثلاث، بل علي فكرة سيادة النظام بوصفه حامي السكان وهويتهم، مانح الدستور ووالده.
والمسألة ليست تاريخية فحسب، بل هي ماثلة في صميم الوضع الراهن. الوضع الحالي يشي بأن الثورة لم تنجح بعد في الحلول محل قوي الاستبداد في السلطة علي اختلافها، بل في زعزعتها فحسب، بسبب تناقضات هذه القوي وعجزها عن الحكم. لذلك، سيظل التيار الهوياتي القومي يدافع عن مبدأ هوية تركيبي متعدد الأوجه حسب الظروف (وطني- عروبي- إسلامي)، يبرر به التشريع لتدخل أجهزة السلطة لتحجيم الحريات في المجال العام بحجة حفظ “مصالح الدولة”، وستظل القوي الأصولية الطائفية تدافع عن مبدأ هوية إسلامي تبرر به طرح التشريعات القمعية للنساء والأقليات والتحكم في مجمل المجال العام وإخضاع مجمل السكان.
في ضوء هذا الواقع، لن تستطيع القوي الديمقراطية سوي أن تقبل مضطرة الازدواجية الهوياتية الدستورية في الدستور محل النقاش، تماما مثلما اضطر الأصوليون للتسليم ببعض الحريات، وقبول مبدأ الدستور والاستفتاء والصندوق. الحل الممكن من وجهة نظري (من منطلق دستوري) في الدستور محل المناقشة، هو، مع القبول اضطرارا للازدواجية الهوياتية الدستورية، إخضاع مبادئ الهوية لحرية الفرد والمساواة، بحيث تقيَّد أية مواد هوياتية أيا كانت (وطنية، عروبية، دينية)، بالمبدأ الدستوري، لتصبح نوعا من عنوان أو توجه عام يشير إلي اعتبارات ثقافية محل احترام دستوري، لا بوصفها مبدأً قمعيا حاكما.
هذا يعني عمليا أنه ينبغي أن يعود تعريف الدولة إلي النمط الإجرائي كما جاء في دستور 1923، باعتبار مصر جمهورية ديمقراطية قائمة علي الحرية والمساواة غير المشروطة بين جميع المواطنين، وأن الشعب بإرادته الحرة هو مصدر السلطات. أما بالنسبة للهوية، فينبغي التأكيد علي الهوية التعددية تاريخيا للأمة المصرية، وعلي انتماء مصر لعصرها وللمجتمع الدولي وقيمه، بحيث يأتي إبراز الانتماء العربي والإسلامي، بكل عبارات التبجيل الممكنة، في هذا السياق التعددي وحده، مع كامل الاعتبار والتقدير باعتبار ذلك مكوّنا ثقافيا أصيلا للشعب المصري. بعبارة أخري، احترام التيارات الهوياتية وحقها في العمل يجب ألا ينطوي علي القبول بحقها في السيادة علي الشعب، سواء بنفسها، أو عن طريق الأزهر، أو غيره من المؤسسات، أو عن طريق فرض مبادئها في الدستور. وبالتالي يصبح لموضوع الشريعة وجهة معينة، تجعل التعامل معها في سياق المبادئ الدستورية، لا الهوياتية. ويشجع علي إمكانية هذا الحل…..
ويشجع علي إمكانية هذا الحل الفشل المدوّي للتيار الأصولي، بما حال دون نجاح أي تحالف بين قوي الهوياتية المختلفة. في ضوء هذا الواقع، ليس الخطران متساويين. بقدر ما يقتنع التيار القومي بأن إعادة بناء الدولة يجب أن تكون في شراكة مع قوي سياسية تتبني الدستورية، سيكون عليه أن يقبل بقدر كبير من إخضاع الهوية للحرية. إبقاء مبدأ الهوية سيعطي نوعا من الدعم المعنوي لتيارات الهوية، ويغطي ضعف المجال السياسي، لكنه لن يكون في صورته هذه تكأة للتسلط الهوياتي القومي، أو التسلط الاستبدادي الديني الأكثر خطورة وانحطاطا.
منقول عن اخبار اليوم المصرية