وماذا سيحدث , لو لم نُغيّر قناعاتنا ؟
رعد الحافظ
raad57dawood12@yahoo.com
تزدحمُ الأفكار في رأسي أحياناً , كما يزدحمُ السير وقت خروج الموظفين من دوامهم , فلا أهنأ بنوم حتى اُفرّغ بعضها على الورق .
مشاكلنا نحنُ العرب والشعوب المشتركة في العيش معنا عويصة غالباً عميقة في جذورها تمتد حيثُ الأزل .
بعضها يتعلق حتى بطريقة عيشنا وتفكيرنا وتكاثرنا وحبنّا وكرهنا وتبخر نصف مواردنا الإقتصادية ( الناتجة من باطن الأرض بلا تعب منّا ) على مظاهر التديّن بينما النصف الآخر يتوزّع بين الفساد وتفاصيل الإستهلاك اليومي , وجزء أقلّ من اليسير فقط هو للبناء والنهوض والتطوير هذا لو وجد تطوير بمعنى الكلمة !
******
لا أنتوي ( مُبارك ) مُناقشة تفاصيل هذه المقدمة في مقالة واحدة .
لكن سأختار فقرة من بينها / الخطأ في المفاهيم والإصرار عليه !
مايعني عكس الموضوع المهم / لماذا يُغيّر المثقفون قناعاتهم ؟
هذا الذي تردّد كثيراً هذا الإسبوع , وناقشه العديد من الأساتذة الأفاضل .
أنا أجلب إنتباهكم ( للبديل ) وأتسائل / ماذا سيحدث لو لم نُغيّر قناعاتنا مُطلقاً ؟
هل سيكون وفاءً للمبادىء , ونأياً بالنفس عن الإنتهازية والبرغماتيّة ؟
أم محضَ جمودٍ فكري يقود الى الركود أو حتى / النزول الى الحضيض ؟
*******
سأبتعد عن مثال الشيوعيّة والماركسيّة قدرَ الإمكان , وإحتمال تحوّل المرء منهم الى الليبراليّة كنظام وفكر مفتوح لكل الإحتمالات بمعنى الحريّة الفكرية
كي لا اُروّج لسلعتي !
فقد أشبع الموضوع الرفاق والأساتذة المختصين بهِ , بحثاً وآراءً وحواراً !
مع ذلك مازال ثمّة نفرٍ ضال ( كلّ واحد منهم يُسمي نفسه حزباً ,يقف أمام المرآة ويخاطب نفسهِ هناك إجتماع فلنحضر ) يتغنى حول الإضطهاد والمؤامرة والتصهين وترك المباديء , فمَنْ يضطهد مَنْ ؟ وعن أيّ مبادىء يتحدثون ؟
على كلٍ ,الشيوعي العنيد فؤاد النمري المعروف بصراحتهِ وجرأتهِ جاءّ بالقولِ الفصل عن مبادىء الأدعياء, فقال نصاً ما يلي :
{ أعيد وأكرّر أنّ الماركسي الشيوعي بلا مبادئ , لذلك هو غير قابل للإنجماد }
تعليق / 23 الجمود العقائدي , في مقالهِ / لماذا يُغيّر المثقفون قناعاتهم ؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=296142
بالنسبة لي خلاص خلصنا , إنتهت الحفلة وسمعتُ أفضل لحن ختامي / رُفعت الأقلام وجفّت الصًحف !
ويقولون المبادىء لا تتجزأ ! فأين مبادىء هؤلاء الذين لايجيدون سوى الشتائم ؟ فإن لم يجدوا خصوماً شتموا رفاق الأمس !
هؤلاء ينسون أنّ الأكاذيب لا تتناقض مع الحقائق فقط , بل تتصارع مع ذاتها حسب / دانيال وبستر .
سأرّكز اليوم على مثال آخر واضح للعيان عاشته شعوبنا في القرن الأخير وجلب لنا البؤس والخراب والويل والثبور .
ومازلنا ندفع ثمن الإصرار على الجمود الفكري فيه .
إنّهُ موضوع الوحدة العربية والقوميّة العربية والاُمّة العربية الواحدة !
مُقابل فكرة الأقطار والأقاليم وحقوق الأقليّات , في تكوين دولها المستقلة حسب رؤيتها .
ولن أتطرّق للمثال العراقي الحالي ودعاوي الأقاليم , لكي لا يُساء فهمي ويحدث الخلط في المقاصد , فأبدو داعياً الى التجزئة وتقسيم البلد في هذا الوقت الحرج وينبري أصحاب الألسنة القاطعة والمهرجون , ليشبعوا رقصاً في الجنازة .
وحقيقةً أنا ضدّ تقسيم العراق قلباً وقالباً, ربّما من لهفتي عليه كوني بعيد عنهُ !
لكنّي مع نظام الكومونات (البلديات ) , كما في السويد بكلّ تجلياتهِ الرائعة . اُكرّر هذا ليس أيضاً , موضوعي اليوم .
*************
كيف نشأت الدعاوي القوميّة العربية ؟
ألا تتعارض القوميّة مع الدين الواحد , أم أنّ جميع العرب يجب أن يكونوا مسلمين ؟
بإختصار ودون الغوص في الكتب , لكن من الواقع والتأريخ القريب المتفق عليه يُجمع أغلب المتابعين , على أنّ الدعوة القوميّة تنامت حوالي الحرب العالمية الأولى .أيّ منذُ بداية القرن العشرين الى حوالي سبعة أو ثمانية عقود منهُ
معناها من الكواكبي والأفغاني ومحمدعبده , ثمّ ساطع الحصري ومروراً ببعض مسيحي الشام كقسطنطين زريق وميشيل عفلق , ثمّ جمال عبد الناصر ( الجمهورية العربية المتحدة ) , وحزب البعث الفاشي بمختلف شخوصه ( رفعوا شعار من المحيط الى الخليج امّة عربية واحدة )
وأخيراً / الأخضر القذافي الذي إنتهى حُلمهِ كملك ملوك العرب وأفريقيا الى إخراجهِ من زنكة ليبية بلونين .( ماذا حدثَ لإبنهِ سيف الإسلام ؟ )
حتى صُديماً عندما إحتل الكويت قال يومها / عودة الفرع الى الأصل في أولى الخطوات العمليّة , للوحدة العربيّة الكُبرى . نعم هكذا يُفكّر الطغاة !
***********
عندما يشتد النقاش ويحضر التخوين وتحضر المؤامرة , ماذا يقول الأدعياء ؟
يقولون , الأنكليز والفرنسيين ( الإستعمار القديم ) هم الذين دعموا الفكرة القوميّة لدى شعوب المنطقة بداية ق 20
لغرض في نفس ( إبراهامي ) لكي يعزلوهم عن الرجل المريض العثماني , ليسهل إحتلالهم .
دليل هؤلاء , هو تدبير الإنكليز ودعمهم للشريف حسين وأولادهِ , في الثورة العربية الكُبرى , التي يعتبروها أولى مظاهر القومية العربية .
حسناً , لكنّهم ( في موجة تناقض معروفة عنهم ) , يعودوا للقول , أنّ الإنكليز والفرنسيين أجهزوا على الأحلام القوميّة العربية بعد بضعة سنوات
في إتفاقيّة سايكس بيكو ,عندما تقاسموا إرث الرجل المريض .
يعني ( أنا مع حقوق المرأة ثم القضاء على المرأة ) , لماذا أحتاج هذه الجملة لعادل إمام في كلّ مقال ؟ كم هي قويّة وصامدة نظرية المؤامرة !
هناك تناقض آخر شنيع وقضيّة حقوق الأكراد بدولتهم وعدم سماح الإستعمار بها , فهل كان الإستعمار مع مزيد من التقسيم أمّ ضدّه ؟
ثم السؤال الأهم / تقسيم ماذا ؟ هل كان ثمّة وطن واحد موّحد لهُ رئيس وبرلمان واحد جاء الإستعمار فقسّمه ؟
أم أنّ الإحتلال العثماني ليس إحتلالاً ؟ ويقلك تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ .
وفي الثلاثينات والأربعينات من ال ق 20 كانت طريقة هتلر ونازيتهِ القوميّة ألهبت الحماس عند أصدقائهِ العرب ( أمين الحُسيني مثلاً )
فحلموا ببناء ألمانيا العربية , قبل أنْ يُحسنوا التصرف في المحافظة على دولة فلسطين .
حتى الجامعة العربيّة هي من تجليّات أعمال الإستعمار , أليس كذلك ؟
لكن من جهة اُخرى , لازم نرسي على برّ , ليتجانس القول مع المنطق .
إذا كانت الأفكار القوميّة خير , فمن جاء بها يُريد الخير لنا , أليس كذلك ؟
وإنْ كانت نتائجها ( الوحدة مثلاً ) شرّ , فلابّد لنا التخلص من قبضتها وتغيير أفكارنا وقناعاتنا حولها , أليس هذا هو المنطق السليم ؟
***********
الخلاصة
مادامت الحياة مستمرة سنحتاج الى التغيير والتطوير وتبديل القناعات , دون إشتراط خسارة المبادىء الإنسانيّة . طبيعة البشر والحياة يتطلب هذا التغيير !
سأتكيء طويلاً على جملة النمري حتى يتمكن الأدعياء من نقضها .
فهي حسمت الأمر ضدّ هجومهم على الأستاذ الكبير عزيز الحاج ,لذلك سأكرّرها
{ أعيد وأكرّر أنّ الماركسي الشيوعي بلا مبادئ , لذلك هو غير قابل للإنجماد }
إنظروا ماذا إستقر في وجدان العرب اليوم ؟ أشياء عديدة من بينها ما يلي :
الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح .( ألا تُفضلون تبديل تلك القناعة؟ )
أمريكا هي عدوة الشعوب على طول الخط . ( نفس السؤال السابق )
الوحدة كيفما كانت / خير وتعاون وقوّة . والفرقة والإنفصال / شرّ مُطلق وضعف يقود للصراع والقتال بينهم .
هم معذورين في هذا الفهم , نظراً لماضيهم وصراعهم القبلي منذُ الجاهليّة الى يومنا .
لكن من جهة ثانية , إنظروا للمثال اليمني ( الحيّ ) وهم أصل العرب , ومشكلتهم اليوم الأهم , هي طلب الإنفصال لكراهيّة الجنوبيين لها .
( حتى في ورطة وحدة اليمن , صدام لهُ يد )
اليمنيون الجنوبيين أنا شاهدتهم عن كثب ,هم أقلّ تشدّداً بمظاهر التديّن من الشماليين , نسائهم تكتفي بالحجاب غالباً دون النقاب ومدنهم قريبة من البحر ويمكنهم الاتصال بالعالم .
بينما الشماليين يحبّون القات والعزلة عن العالم !
حال اليمنيين مع الوحدة كمن وضع قدمهِ الأولى ثم فَطنَ الى اللغم المزروع ,فلا هو يستطيع المضي الى الأمام ولا يستطيع سحب قدمهِ والتراجع خشية الإنفجار .
ونصيحتي لهم لو شاؤوا / إصغوا الى صوت الشعب الجنوبي في إستفتاء حرّ تراقبهُ الأمم المتحدة .
لأنّ أصوات أدعياء القوميّة والوحدة والجهجهون تشّق الآذان فلا نسمع صوت العقل !
التجزئة لا تعني في العصر الحديث سوى نيل الأقليات حقوقها المشروعة ,بعدها يمكن حدوث الإتحادات الإقتصادية والتجاريّة والسياسيّة , كالإتحاد الأوربي .
إنظروا الى مثال يوغسلافيا التي تفاقمت فيها المشاكل والحروب حتى تقسّمت الى ست دول . ثم الآن تدخل الواحدة تلو الأخرى ضمن الإتحاد الأوربي .
حتى إسكتلندة ممكن أن تستقل عن بريطانيا , لا أحد يخشى ذلك اليوم والأمور متروكة للإستفتاء الشعبي . لأنّهُ عملياً , سيزداد التعاون .
مخاطر الحروب في أوربا إنحسرت اليوم كثيراً , بسبب وعي الشعوب لدمارها وليس بسبب الشعارات القوميّة البائسة التي ألهبت تلك الحروب .
بينما بعض العرب ما زالوا مُصّرين على تلك الأفكار , أفلا ينبغي تغييرها ؟
أخيراً / ظاهرة التكذيب والتشكيك !
لماذا أوّل ما يخطر ببال المعارض لفكرة الكاتب هو أنّهُ كاذب يُراوغ يزوّر الحقائق ليخدع القراء والتأريخ ؟
هنا أقصد مثال الأستاذ عزيز الحاج وسلسلة مقالاتهِ الأخيرة عن كتاب حنّا بطاطو وما ثار حولها من حوار إنقلب عند ضعاف النفوس الى هرج ومرج وردح يثير الغثيان عند العقلاء .
لماذا تفترض مجتمعاتنا الكذب أولاً ؟ يعني أنتَ كاذب حتى يثبت العكس . ولماذا لايكون المتحدث صادق حتى يثبت العكس ؟
لا أنسى جواب معلمّة اللغة السويدية ,في السنة الأولى , عندما قلت لها / وماذا لو كان كاذباً ؟
نظرت اليّ بتعجب لترى أنّها فهمت قصدي وسألتني / ولماذا سيكذب ؟
فبصورة عامة هم لايكذبون لأنّهم أحرار لايخشون شيئاً طالما هم ملتزمين بالقانون العام .
سألتني صديقتي العراقيّة وهي من عائلة شيوعيّة وقُتل أخاها في النضال , حتى اُمّها العجوز ما زالت شيوعيّة تتابع أخبار الحزب الذي صارَ أحزاباً بالعشرات .
قالت : لماذا حشرتَ نفسكَ في قضيّة جدليّة كقصّة عزيز الحاج ؟
قلتُ لها : كلّما يحتاجه الشرّ لينتصر , أن يقف الأخيار لايعملون شيئاً ! حسب الفيلسوف الإيرلندي إدموند بيرك
تحياتي لكم
رعد الحافظ
23 فبراير 2012
ما أعجبني في هذا المقال هو الصدق والبساطة والوصول الى ما تريد قوله بأقصر الطرق وأبسطها
وهذه ميزات الكاتب التنويري الصادق
شكراُ لقلمكم النيير