عمار السواد
لا يمثل احمد القبانجي تهديدا للداخل الايراني، رجل دين نقدي، يكتب باللغة العربية ويترجم للعالم العربي كتابات ايرانية متنورة.
رغم ذلك، اعتقل القبانجي من قبل السلطات هناك. مفارقة، اذا ما عرفنا ان مصطفى ملكيان مثلا، وهو احد اهم نقاد الفكر الديني الذين ترجم لهم القبانجي، ما زال يعيش في بلده، ولم يعتقل. وهذا لا يبرء ايران من ملاحقة النقديين او اصحاب الآراء الحرة، غير ان الملاحقة تتركز بدرجة رئيسية ضد مهددي فكرة الجمهورية الاسلامية الوارثة للثورة، كما هو حال عبد الكريم سروش الذي بات رمزا للإصلاح الفكري المعارض. الاعتقال قصة ابعد من تطبيق قوانين العقيدة.
تأثير القبانجي بدرجة رئيسية في اوساط عراقية، قد لا تكون واسعة، غير انها موجودة، خصوصا مع حالات السأم من المتاجرين بالدين. ترجمة المنتج “الايراني الشيعي المتنور” وسيلة رئيسية في تحقيق هذا الحضور، اعمال تعيد قراءة التراث الشيعي نقديا، وتفكك الاسلام السياسي الايراني، باتت بمتناول يد الكثير من قراء الشيعة العرب الباحثين عن رؤى نقدية جديدة تحدد لهم مسارات اخرى.
بينما، تسعى الجمهورية الاسلامية ليكون الوجه الوحيد المعروف شيعيا ذا سمة ايديولوجية خالصة، يقدم ولاية الفقيه كأساس للحكم، والاسلام السياسي اسلوبا فريدا للسلطة. هذا يضمن ان لا يجد الشيعة غير الايرانيين عند “اخيهم الاكبر” نمطا واخلاقا وقيما مختلفة تضرب تلك التي يراد تمريرها.
خلال السبعينات لعب علي شريعتي دورا ملهما لجيل ناقم على حكم الشاه، رجل تخرج عن السوربون بلحية حليقة واسرة مدنية واراء رفضت التقاليد البالية وتضحية خلقها مقتله في مهجره، اصبح معلم ثورة يقودها فقيه. غير ان الجمهورية الاسلامية رفضت المعلم رغم دفاعه عن الاسلام باعتباره هوية لشعب ايران ضد “الاغتراب” الثقافي فضلا عن التبعية السياسية. حاول رجال الدين السياسيون الحيلولة دون انتشار افكاره، وروجوا لمرتضى مطهري المفكر الديني الخالص، مقابل شريعتي متعدد المشارب.
صاحب وصف “التشيع العلوي والتشيع الصفوي”، طالما تغنى بالحرية التي رأى ان الهوية الاسلامية طريقا اليها.. وهنا يكمن الفرق بين شريعتي ومشرعني الدولة الدينية، الاول استهدف الحرية ورأى ان الهوية الثقافية الدينية طريقا لها، والباقون استهدفوا الحرية التي تقتصر طريقها على الفكر الديني، الاول يغير طريقه لو اكتشف ان هذه ليست هي الطريق، بينما لم يعنى الاخرون بالحرية الا ضمن حدود تأسيس عقيدة الاسلام السياسي لها.
عاد بعض المحافظين في التسعينات للتعامل بإيجابية مع شريعتي، انتهت الحاجة لسجن تلك الافكار، الزمن سلبها تأثيرها القديم. لكن دون جدوى، الافكار السبعينية ولدت اخرى، وشريعتي لم يعد كما هو عند ابنائه، جيل جديد من المفكرين ظهر، تحللت الأيديولوجيا في هذه المدرسة لتولد المعرفة. نتيجة طبيعية، افكار تحمل قيمتها المباشرة في لحظتها، وينتج عنها شرط جديد وظرف مختلف ونمو اخر للوعي مختلف ومتطور. من جديد، ابناء التطرف تحولوا لملاحقة أبناء شريعتي وهم اولاد الثورة ايضا. “التطرف” لا يريد وجها للثورة سواه.
عراقيا يقتصر السجال الدائر في السياسة والدين والمجتمع والثقافة داخل حدود المباح، لا يقترب الى محاكاة الثابت مباشرة، بل يقف عند اطلال ادانة “الممارسة”. وهي ادانة يغلب عليها روح النفاق والمجاملة والخوف، او التسطيح، وهي لا تؤسس فكرة، بل تلف وتدور دون ادنى قدرة على الاقناع.
غير ان فضاء اخر يتشكل بعيدا عن هذه المجاملات البلهاء، التي تقودها في الغالب مصالح او مخاوف. فضاء تشكله نخبة درست عقيدة الدين وفكره وفقهه، عاشت تجربتها القريبة من المعارضة السابقة قبل ان تكتسي بهيبة السلطة، لم تكن طرفا في النخبة التقليدية التي توارثت عن اليسار سطحية في فهم الفكر الديني، ولم تجد نفسها ملزمة بشروط الشعرية العراقية التقليدية.
احمد القبانجي جزء من مساحة النقد الجديد التي لم نعتدها. كعراقيين لسنا معتادين على نقاشات تدور ابعد مما عودنا عليه اليسار واليمين والشعراء، نقاشات الحداثة وما بعدها في واقعها الادبي، واراء الماركسيين الحاملين لقوالب ثابتة، لتقدم لنا جدلا فكريا محدد الشروط مسبقا، وشعارات رفعها القوميون مزجت الدين بالعرق للبحث عن مجد تليد.
تدرك التيارات الدينية السياسية خطورة الدخول في معركة مباشرة داخل مساحة النقد الجديد، ليس ضعفا، بل وعيا بان مثل هذه المعارك تخرج الجدل من دائرته النخبوية الضيقة، وهو ما لا ينفعها الان. لكن القبانجي بعمامته السوداء، واسم اسرته الدينية، وجرأته غير المسبوقة، يصنع حضورا غير مرغوب به. الى جانب كونه اصبح قناة تواصل مع وجه ايراني آخر لا تريد ولاية الفقيه له ان يُرى.
ينشغل بعض المثقفين العراقيين في توصيف القبانجي بالمفكر او رفض وصفه بذلك، كما درجوا عليه في البقاء عالقين بقوالب الجدل الثابتة ذاتها، التسميات طرائدهم. ليس مهما، في الجوار وليمة يتجمع حولها اناس لم نعهد وجودهم.
المصدر ايلاف