يقول توماس جيفرسون ” الصدق هو الفصل الأول من كتاب الحكمة”. بمعنى أن الكذب هو الفصل الأول من كتاب الحماقة.
في مقال سايق تحدثنا عن قم قم وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري وذكرنا إن فيه الكثير من العجائب والغرائب، وفعلا لم يمض سوى إسبوع وإذا بمارد القمقم يوخز الجعفري في مكان حساس للإدلاء بتصريحات لا يمكن أن نصفها إلا بإنها واحدة من أعراض الزهايمر. الحقيقة أن الجعفري يتحمل مسؤولية الجزء الأكبر من سفسطاته، أما الأخرى فيتحملها الزعماء والمسؤولون العرب الذين يفتحون أبوابهم له ولغيره من أتباع ولاية الفقيه في العراق، وهم على علم تام بأنه أحد أقزام الولي الفقيه وليس له علاقة بمصالح العراق وشعبه. ربما يقف وراء قبول اللقاء بالجعفري حُسن النية، او عدم الرغبة بتعكير العلاقات أكثر مما هي فيه من عسر وعكر، او ربما كأجراء بروتوكولي حيث يتواجه الأعداء أمام وسائل الإعلام وهما يتصافحان بود وإحترام، وما أن يغادر الإعلام حتى تعلن الحرب الكلامية بينهما، واخيرا ربما لكشف المزيد من فضائحه كما جرى في أروقة الجامعة العربية مؤخرا.
في الزيارة التي قام بها إبراهيم الجعفري بتأريخ 10/3/2016 لشيخ الأزهر أحمد الطيب، ناقش الطرفان بعض القضايا التي تخص العالم الإسلامي، وحاول الشيخ أن لا يثير حفيظة زائره في طرح موضوع المحاصصة الطائفية وما يتعرض له أهل السنة في العراق من قتل وتهميش من قبل شيعة السلطة وميليشياتها وفقا لمجاملات الزيارة المعروفة. لذا كان الحديث عاما، وعندما حاول الجعفري أن يرمي قشر موز تحت أقدام الطيب ليزحلقه، تداركه الأخير الخدعة بذكاء وفطنه، مؤكدا على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، ونبذ الطائفية وإنهاء دور الميليشيات عموما، ووقف الممارسات الإرهابية بغض النظر عن تسمياتها وأصنافها. ولم يدر بخلد الطيب بأن الجعفري سيقلب له ظهر المجن، ويطلق تصريحات لم ترد على لسان الطيب،. ربما ظن الأخير بأنه يتحدث مع أنسان كبير العمر، وزعيم حزب إسلامي ويتبوأ منصبا سياديا مهما! كما يبدو أن الطيب لم يراجع بعض تصرفات وتصريحات الجعفري ليفهم نفسية هذا الوزير الطائفية المريضة، لكن مع هذا فقد كان قبول شيخ الأزهر بلقاء مفجر الحرب الأهلية في العراق هفوة لا تغتفر، ولم تماثلها هفوة سوى لقاء العاهل السعودي بسليم الجبوري رئيس ما يسمى البرلمان العراقي ومرافقه الإرهابي عبود وحيد العيساوي.
لخص مارد القمقم محضر لقاء الجعفري بالطيب، وصور له ان الطيب أشاد بالميليشيات العراقية والحشد الشعبي، وأثنى على ممارساتهم الإرهابية ضد أهل السنة في ديالى وصلاح الدين ومناطق حزام بغداد وغيرها. فسارع الجعفري لزف البشارى الكبرى لحكومته البليدة عن أنجاز الشبحي الوحيد، سيما ان الوزير كما أثبت الأحداث لم يقدم حلال فترة إستيزاره أي إنجاز سور قيادة الوزارة الى الدرك الأسفل من الخزي والعار، فقد أصبحت وزارة الخارجية في عهده الزهايمري دائرة ملحقة بوزارة خارجية نظام الملالي، تملي عليه المواقف فيذعن بكل ذل لها.
ما أن سمع شيخ الأزهر تصريح الجعفري حتى لعن ذلك اللقاء، وأسرع في نفي تصريحات الأخير، واعتبرها موقفا غير مقبولا ويتعارض مع الأعراف الدبلوماسية، والأدهى منه ان الطيب ـ على العكس مما صرح به الجعفري ـ حيث جاء في بيان الأزهر أن ” شيخ الأزهر أكد خلال اللقاء على ضرورة وقف الممارسات الإجرامية لكافة التنظيمات الإرهابية المسلحة كداعش وأخواتها، وكافة الميليشيات والأحزاب الطائفية ضد أهل السنة والجماعة”.
بل إنه “جدد دعوته للمراجع الشيعية المعتدلة إلى إصدار فتوى صريحة تحرم عمليات القتل الممنهجة التي ترتكبها هذه المليشيات الطائفية ضد أهل السنة والجماعة”. المثير في تصريح الجعفري إنه لم يتناول النقاط الرئيسة في حديث الأزهركما وردت في البيان”. وهذا الموقف لا يتعارض فقط مع الأعراف الدولية فحسب، بل يتعارض من قيم النزاهة والشرف والرجولة أيضا. عندما يُحرف إنسان ما كلام غيره، فأن أقل ما يوصَف به مثل هذا الشخص، إنه منافق وكاذب، وعندما يقلب الكلام تماما فإنه أما غير سوي أو لا أخلاق له اي (بايع ومخلص) كما وصف الجعفري نفسه تماما.
لو وضعنا تصريح الطرفين جنبا، وفكرنا بعمق، هل يمكن أن يتصور إنسان عاقل أن يكيل شيخ الأزهر المدائح للميليشيات الإرهابية ويشيد بالحشد الشعبي وممارساته الإجرامية في المناطق المررة من داعش؟ كما قيل حدث العاقل بما لا يعقل فأن صدق فلا عقل له. والأهم من هذا ان لقاء الجعفري بالطسب جاء بعد صدور قرارا الجامعة العربية بتصنيف حزب الله وبقية الميليشيات في خانة الإرهاب.
صدرت تصريحات كثيرت من أزلام حكومة العبادي حول الرغبة بتنقية العلاقات مع الدول العربية الشقيقة من الشوائب، بعد أن شهدت تدخلات عراقية سافرة في شؤون الدول العربية والمجاورة منها، وهجومات إعلامية لا تعبر عن اية لياقة أومعرفة بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية او حتى القيم الأخلاقية. على الرغم مع كل محاولات الأقطار العربية التقرب من العراق فإن قوة الجذب الفارسي أشد بكثير من قوة الجذب العربي، بل يمكن الجزم بإنه لا توجد قوة جذب عربي أصلا، وهذا ما يمكن إستشفافة في اللقاء الأخير للجامعة العربية الذي صنف حزب الله بصفة الإرهاب بإجماع الآراء وإعتراض دويلة العبادي وحسن نصر الله فقط. ويبدو ان جني القمم لم يحلٌ عن الجعفري فأوحى له بأن الميدان ميدانه، ويجب أن يثبت للجميع بأنه ضد الإجماع العربي، وأن حكومته خاضعة لإرادة نظام الملالي تماما، وإنه يجب ان يثبت لجميع الدول العربية بأنه وزير خارجية إيران في حكومة العبادي، وان كل المساعدات العربية للعراق والتنازل عن الديون السابقة لا تساوِ فردة نعال الولي الفقيه. العراق كما عبر نظام الملالي نفسه صار عاصمة الفرس. وهذا ما يجب على الدول العربية أن يعوه جيدا بدون الحاجة الى المزايدات الإعلامية التي لا تقدم ولا تؤخر بالنسبة لوضع العراق الحالي وعروبته الممسوخة.
الغريب ان تصرفات حكومة العبادي تُظهر العراق للعالم الخارجي بأنه العراق فعلا ليس دولة، أو على أقل تقدير دولة الفوضى والعبث، او دولة بلا سيادة ولا إدارة، أو دولة بلا قانون ولا عقل أيضا، الجعفري مثلا تحدث في الجامعة العربية عن موقف حزب الدعوة والكتلة الشيعية ربما، وهو موقف مرهون بإملاءات ولايه الفقيه، وليس موقفا عن ما يسمى بحكومة العراق! لأن رئيس مجلس النواب العراقي خلال زيارته الأخيرة للسعودية أشاد بموقف الجامعة العربية بإعتبار حزب الله حزب إرهابيا، وأكد إنه مع هذا الموقف. بالتأكيد لا توجد دولة تحترم نفسها تتخذ مواقف متعارضة! والأدهى منه ان ما يسمى برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لم يصدرا أي موقف بشأن قرار الجامعة العربية!
صحيح أن الجعفري تمرد على الإجماع العربي، لكنه لا يعتبر موقفا متمردا، بقدر ما هو موقف طبيعي وفقا لنفوذ أسياده في طهران. إن خدمة نظام ولاية الفقية هي مسؤولية حزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الله وعصائب أهل الحق والحشد الشعبي وغيرها، وهذه الخدمة هي خط احمر لا يمكن أن تتجاوزه الأحزاب الشيعية الحاكمة ولا أيضا الأحزاب المحسوبة على أهل السنة (جحوش أهل السنة) لأنهم يخشون من عصا الولي الفقية الغليضة التي لا تتحملها المها أدبارهم المتهالكة.
لكن بالتأكيد كل موقف يعادي العرب والعروبة يصفق له نظام الملالي، ويبتهلون من الله أن يديم الطاعة العمياء والإنقياد الذليل لزعماء العراق وفقا لإرادتهم. وأي مسؤول عراقي يقوم بأية زيارة للخارج عليه أن يعلم السفير الإيراني (حسن دنائي) في العراق عما جرى خلال زيارته ويقدم تقريرا مفصلا بذلك. لذا أسرع الجعفري لتوجيه دعوة للسفير الإيراني في 16/3/2016 ليقدم له تقريرا عن مغامرته الطائشة في الجامعة العربية.
في عبارة السفير الإيراني ما يجلي الغموض عن حقيقة الحكومة العراقية ووزيرها الخراساني، فقد جاء في بيان لوزارة الخارجية العراقية ” نقل السفير الايراني للجعفري شكر الحكومة الايرانية على موقف الداعم والثابت في الدفاع عن المواقف الايرانية واستراتيجيتها في المنطقة”. هل فهم العرب معنى هذا الشكر؟ هل غسلوا أيديهم من العراق، أم يتنظروا المزيد من الأوساخ والتلوث ليحسموا أمرهم بعدها؟ ألم يدركوا بعد بأن حسن الطباع ليست من صفات الضباع؟ يا ويلهم إذن من قوادم الزمن، ولات ساعة ندم.
علي الكاش