وداعا جورج غريب ، صديقا ، مناضلا وأديبا
*جورج غريب كان إلى جانب نضاله، كاتبا قصصيا مرموقا أصدر مجموعة قصصية حملت عنوان”حكايات من بلدي”*
نبيل عودة
فقدت الناصرة يوم السبت الماضي (04-04-2015) احد المناضلين البارزين في تاريخ الناصرة، الذي أعطى زهرة شبابه في العمل اليومي من اجل الدفاع عن شعبه وتوجيه الشباب العرب نحو الاصطفاف السياسي الوطني في صفوف الشبيبة الشيوعية التي كانت حركة شبابية مؤثرة في المجتمع النصراوي، لها مكانتها كتنظيم سياسي أخذ على عاتقه مهمات التوعية والتثقيف ونشر فكر العدالة الاجتماعية ومقاومة طغيان الحكم العسكري في وقته، والدفاع عن حقوق العمال الشباب خاصة والعمال العرب عامة في مدينة الناصرة، وما زلت اذكر انه نشط لإقامة تنظيم عمالي مهني للدفاع عن حقوق العمال في مشاغل الناصرة.
كان جورج غريب أيضا عازفا على آلة نحاسية في فرقة الجوقة للشبيبة الشيوعية التي عرفت باسم “فرقة الطليعة” ذات التاريخ الفني المجيد، التي للأسف نفتقد اليوم لمثل هذا النشاط الفني السياسي الراقي، لدرجة ان نعي الفقيد من رفاق الأمس يبرز كم هم جاهلون بنشاط جورج غريب ، أيضا يجهلون ان جورج غريب كان من أوائل كتاب القصة القصيرة في الثقافة العربية داخل إسرائيل.
مراجعة لمجموعة جورج غريب القصصية “حكايات من بلدي”
بحماس خاص استقبلت مجموعة قصص الكاتب جورج غريب من الناصرة والتي أعطاها اسم “حكايات من بلدي” وقد عشت حيرته في تسمية الكتاب واعتقد انه أعطاه الاسم المناسب. حكاياته (قصصه) تنقل نبضه الشخصي ومعايشته لقضايا شعبه وارتباطه السياسي والاجتماعي مع أهل بلده وقضاياهم عبر ثلاثين عاما وهي المساحة التاريخية التي تفصل بين القصة الأولى والأخيرة، نلاحظ من تواريخ كتابة قصصه فترة صمت طويلة امتدت من سنة 1967 حتى سنة 1989.
نستطيع ان نحدد اننا أمام مرحلتين في إبداع الكاتب، الأولى تمتد من عام 1963 وحتى عام 1967، والثانية من عام 1989 وحتى توقفه عن الكتابة .. وهي الفترة التي اشتعلت فيها انتفاضة الشعب الفلسطيني (شعبنا) المشهورة باسم “انتفاضة الحجارة”، المعروف انه كان لها فعل كفعل الصدمات الكهربائية لإعادة تنشيط عضلة القلب- الإبداع الأدبي في حالتنا.
تعرفت على جورج غريب، النشيط السياسي في صفوف الشبيبة الشيوعية وانا في مطلع شبابي،وقد شدتني قصصه بحسها الإنساني والاجتماعي المرهف، باختياره الواضح معسكر المسحوقين، ثم جمعتنا فيما بعد الزمالة الأدبية والتوافق الفكري حول الكثير من المسائل السياسية والحياتية، وها انا اليوم أقف حائرا ، هل من الصائب أن أقيم عملا أدبيا لزميل عايشت إبداعه بكل ما في الإبداع من ارتعاش وأحاسيس جياشة متدفقة؟!هل استطيع ان أضع نفسي خارج عالم جورج الأدبي والفكري؟ هل استطيع ان اكتب عن قصصه بتجرد من العلاقة الشخصية والصداقة الطويلة بيننا ؟
عايشت الكثير من قصص جورج غريب وشعرت مع إعادة قراءتي لها انها تكاد تكون جزءا مني، خاصة قصص المرحلة الأولى..فانا عشت أيضا انفعالاته التي قادته لإبداعها.
تناقشنا مرات عديدة حول اختياره للجملة المعينة ورسمه للشخصية المعينة واختياره للنهايات، فهل استطيع أن أتجرد من كل ما يربطني بشكل شخصي بإبداعه لأكتب نقدا،وانأ لست بناقد، أو حتى لأكتب استعراضا ثقافيا دون أن أتأثر من معايشتي الأدبية لولادة قصصه؟ أو فقدان مصداقيتي الثقافية بسبب صداقتي الطويلة معه، خاصة واني كنت المشجع الوحيد له ليطبع مجموعته القصصية ؟ شعورا كان وما زال ان قصص جورج قريبة مني بكل ما يحيطها من أفكار وسرد وأحاسيس.
رغم ذلك لا بد من كلمة حق، جورج كان يعرف كيف يتغلغل لأعماق النفس البشرية بحسه الإنساني، محاولا ان يكشف أعظم ما في الإنسان من أفكار ومشاعر ومواقف، احيانا كثيرة تبدو قصصه تاريخا بلغة الأدب، أبطاله وبطلاته التقيناهم ونلقاهم في أحياء الناصرة وأسواقها وشوارعها، أوضح نموذجا على ذلك شخصية سعدية، برأيي ان جورج أبدع وخلد إحدى الشخصيات المسحوقة بقصة مليئة بالحس الإنساني والفهم العميق للواقع الاجتماعي المشوه الذي أفرز مثل هذه الشخصية وغيرها، في قصة أخرى بعنوان “خيانة زوجية” يقدم نموذجا عشناه لتصرفات السلطة ولتصميم شعبنا على تلقين زلمها درسا.
اعتقد ان القسم الأول (المرحلة الأولى) من قصص جورج غريب أجمل ببنائها الدرامي وعفويتها من القسم الثاني، قد يكون صمت جورج الطويل ، الممتد من عام 1967( عام نكسة العرب ، ترى ما دورها بانتكاس الكاتب عن الإبداع؟)وحتى بشائر الانتفاضة في عام 1989 سببا في ذلك.
التوقف الطويل يضعف قدرات الكاتب وفنيته، يحد كثيرا من عفويته الأدبية، وهي أزمة واجهها عدة كتاب كنت للأسف أحدهم ولكنه موضوع آخر.
قصص جورج عن الانتفاضة رغم جهده لتحديد هويته الفكرية، وجهده لمحاولة رؤية ضميرية، وتفاؤله الواضح من انتصار قضية الشعب الفلسطيني، كانت اضعف فنيا من قصص المرحلة الأولى، بقيت تدور في إطار الكتابة الحماسية عن الانتفاضة، وهو مميز للأكثرية الساحقة من قصص الانتفاضة لمعظم الكتاب. أقول ذلك رغم انه ينجح في مقاطع كثيرة بتقديم لوحات جميلة فنيا، محاولا كعادته الكشف عن عمق إنسانية المنتفضين.
لم ينشر جورج في مجموعته كل أعماله القصصية، بل ذهب إلى الاختيار، وأنا أريد ان افهم من ذلك انها إشارة بأنه يفكر بإصدار مجموعة أخرى(لكنه لم يفعل) . حقا انه مكسب هام لأدبنا المحلي ان يطلق جورج سراح قصصه، فهو كاتب يمثل مرحلة هامة من مراحل تأسيس قصتنا المحلية القصيرة. كان من أوائل الكتاب الذين تعاملوا مع القصة القصيرة بصفتها لونا قائما بذاته، عمل على تطوير فنية القصة القصيرة، من الأسلوب الشبيه بالريبورتاج الذي ميز الكثير من السابقين ، إلى بدايات هامة في تطور القصة القصيرة الفنية، وهي من العلامات المميزة لهذه المجموعة القصصية ، والمؤسف انه تأخر كثيرا في إصدارها.
آلمني جدا نسيان الناقد د. حبيب بولس في كتابه “انطولوجيا القصة المحلية القصيرة” لأسم جورج غريب وقد وعدني بإصلاح ذلك في الطبعة الثانية التي لم تصدر وفارقنا الناقد بولس قبل سنوات وهو في قمة عطائه. نفس الأمر ينسحب على كتاب “تراجم وآثار” تأليف د. محمود عباسي وشموئيل موريه، كذلك كتاب “أعلام من أرض السلام” لعرفان أبو احمد، بينما شملت الكتب الثلاثة من هم ما دون إبداع جورج غريب في الكم والكيف.
بالتلخيص: نحن أمام مجموعة قصص غير عادية في ثقافتنا المحلية، تحمل نكهة فنية خاصة، تحمل معاني خاصة كثيرة أدبيا، سياسيا وتاريخيا هي جزء من التاريخ الأدبي والفني لقصتنا المحلية القصيرة، جورج بإطلاق سراح حكاياته، بعد اسر طويل يقدم خدمة لقصتنا المحلية ولأدبنا المحلي ولحركتنا الثقافية، أمل ان يكون إصدار هذه المجموع محركا ودافعا للكاتب جورج غريب على تجديد نشاطه الإبداعي ، لعلها فاتحة بعودة عدد لا بأس به من فرسان القصة القصيرة، الصامتين منذ فترة طويلة للنشاط مجددا.
nabiloudeh@gmail.com