كثيرة هي الوثائق التاريخية التي تعكس الوجه الناصح لديننا الحنيف, وهذه واحدة من الوثائق المستخرجة من مكتبة دير القديسة كاثرينا في سيناء, وهي ثاني مكتبة عالمية بعد الفاتيكان, تؤكد دعوة الإسلام لإشاعة السلم والمحبة بين البشر, وتعد هذه الوثيقة من الوثائق العربية, التي اعترف بها ديوان الإنشاء بمصر في عهد الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين.
تكشف الوثيقة عن سياسة التسامح, التي سارت عليها الحكومات العربية حيال المسيحيين, والتي أوضحت بجلاء: أن رهبان سيناء كانوا يعيشون في ديرهم النائي, هادئين آمنين مطمئنين, كما حرص المسلمون على تأمين طريق الرحلات المقدسة للمسيحيين إلى القدس عبر سيناء, وكشفت الوثيقة عن سياسة التسامح في أمور الدين وفي الحريات الشخصية.
لقد بنيت الكنائس والأديرة في العهد الإسلامي, وكان أولها كنيسة الفسطاط التي بنيت في عهد مسلمة بن مخلد (47-68 هـ), وحتى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي كان عدد كنائس مصر وأديرتها قد وصل إلى (2048) كنيسة، و(834) ديراً, وأن التسامح الديني الذي قام في العصر الإسلامي. لم تكن تعرفه أوربا في العصور الوسطى, بل أنها لم تعرفه إلاّ بعد الثورة الفرنسية, ولقد كُتب لدير القديسة كاثرينا البقاء والاستمرار من خلال عهد الأمان الأول من رسول الله صلى الله عليه وسلم (العهدة النبوية بالدير) وعهود الخلفاء المسلمين, التي بلغت 200 وثيقة واستمرت العلاقات القوية بين الدير والقسطنطينية في العهد الإسلامي, كما استمر الدعم الروحي والمادي للدير.
الوثيقة التي سنعرضها هنا عبارة عن رسالة من رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) بتاريخ (620) للميلاد, موجهة إلى الكنيسة حمّلها رسوله علي ابن أبي طالب, يتعهد فيها بحماية المسلمين للمسيحيين, ويلتزم برعايتهم وضمان حرياتهم العبادية, وقد أثبتها عام (1517) السلطان العثماني سليم الأول, واحتفظ بالمخطوطة في خزانة الباب العالي في القسطنطينية.
تظهر الوثيقة طبعة يد الرسول الأعظم على الرسالة, وهذا نصها:
))هذا كتاب محمد بن عبد الله، عهدا للنصارى،أننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي, ووالله لأمنع كل ما لا يرضيهم, فلا إكراه عليهم, ولا يُزال قضاتهم من مناصبهم, ولا رهبانهم من أديرتهم. لا يحق لأحد هدم دور عبادتهم، ولا الإضرار بها, ولا أخذ شيء منه إلى بيوت المسلمين. فإذا صنع أحد غير ذلك فهويفسد عهد الله ويعصي رسوله. وللحق أنهم في حلفي, ولهم عهد عندي أن لا يجدوا ما يكرهون. لا يجبرهم أحد على الهجرة, ولا يضطرهم أحد للقتال بل يقاتل المسلمون عنهم.
إذا تزوج المسلم النصرانية فلا يتم له ذاك منغير قبول منها. ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لاأحد يمنعهم من إصلاحها,ولا الإساءة لقدسية مواثيقهم. لا يحق لأي من الأمة (المسلمين) معصية هذا العهد إلى يوم القيامة)).
يقع (دير القديسة كاثرينا) في شبه جزيرة سيناء, ويرجع هذا الدير الأرثوذكسي القديم إلى القرن السادس الميلادي, وعلى وجه التحديد إلى عصر غوستينيان (542 إلى 551). يتألف الدير من أربعة طوابق تخترقها ممرات ودهاليز, ويحيط به سور عظيم يشبه أسوار القرون الوسطى.
من المفارقات العجيبة أن أصحاب الفكر التكفيري يطعنون بصحة هذه الوثيقة, ويشككون فيها, من دون أن يفكروا بإخضاعها للفحص المختبري للتأكد من عمرها بنظير (الكاربون 14), فعلى الرغم من اعترافهم ببعض ما ورد فيها, إلا أنهم يقولون: أن الرسول الكريم لم يطبع يده على رسالة قط, ولا توجد له رسالة بها رسومات إلا ختم النبوة فقط, ولم يبعث بعلي بن أبي طالب إلى مصر, ولم يرد لفظ (الأتباع) على لسانه في أحاديثه الشريفة.
ونقول لهم: ينبغي أولاً التثبت من عمر الرسالة بالفحص الإشعاعي, وينبغي ثانياً الرجوع إلى اعترافات الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والفاطمية والادريسية والأيوبية والمملوكية بهذه الرسالة, فمن غير المعقول أن يكون أصحاب الفكر التكفير المعاصر أذكى وأرجح عقلاً وحكمة من أئمة المسلمين وعلمائهم في جميع مراحل العصور الماضية, وهل يسري تشكيك التكفيريين على كل العهود والمواثيق الأخرى التي بلغت (200) وثيقة مصدقة, وهل هذه الوثيقة بالذات تتنافى مع مبادئ التعايش السلمي التي آمن بها ديننا الحنيف ؟؟.
لكن واقع الحال يشير إلى تفشي تجارة الموت في أرجاء سيناء, ما أدى إلى تعرض الدير نفسه إلى سلسلة من الغارات (الجهادية) المسلحة, التي تنفذها من وقت لآخر بعض الخلايا التكفيرية المتطرفة بقصد تشويه صورة الإسلام والمسلمين.
ختاما أرجو الاطلاع على الترجمة الحرفية للوثيقة:
((This is a message from Muhammad ibn Abdullah, as a covenant to those who adopt Christianity, near and far, we are with them. Verily I, the servants, the helpers, and my followers defend them, because Christians are my citizens; and by God! I hold out against anything that displeases them. No compulsion is to be on them. Neither are their judges to be removed from their jobs nor their monks from their monasteries. No one is to destroy a house of their religion, to damage it, or to carry anything from it to the Muslims’ houses. Should anyone take any of these, he would spoil God’s covenant and disobey His Prophet. Verily, they are my allies and have my secure charter against all that they hate. No one is to force them to travel or to oblige them to fight. The Muslims are to fight for them. If a female Christian is married to a Muslim, it is not to take place without her approval. She is not to be prevented from visiting her church to pray. Their churches are to be respected. They are neither to be prevented from repairing them nor the sacredness of their covenants. No one of the nation (Muslims) is to disobey the covenant till the Last Day (end of the world).))