أحمد عبد الحسين
واحسرتاه.. لم يبق من الصابئة المندائيين في العراق سوى 10 آلاف شخص، هذه أمة عراقية في طريقها إلى الانقراض، أمس احتفلوا بعيدهم، عيد الخليقة (البرونايا)، اجتمعوا، بل اجتمع من تبقى منهم على ضفة النهر وأحيوا طقسا ربما يكون هو الأقدم في تأريخ الأديان الحيّة، جددوا علاقتهم بالماء والطهر وبأسلافهم، وأثبتوا أنهم أحياء وأن دينهم المسالم لم يزل يكافح في أرض تمتلئ يوما بعد يوم بأديان قتل ومتديني سوء.
العراق يفرّط بأغلى مقتنياته، الصابئة لم يبق منهم سوى 10 آلاف، ومثلهم مسيحيو العراق الذين تفرقوا في جهات الأرض، وقبلهم اليهود الذي تعاون ساستنا الجهلة مع لصوص الفرهود مع منظمات اليهود العنصرية على اقتلاعهم من أرضهم والذهاب بهم إلى إسرائيل.
لم يكن أحد يتخيل أن العراق سيبقى عراقا دون يهود (في الثلاثينيات كان ثلث سكنة بغداد من اليهود)، لكنهم هاجروا، لم يبق منهم أحد، وظلّ العراق لكن بهوية مثلومة وبخسارة كبيرة لتنوع وغنى كان يحسدنا عليهما العالم.
والآن هل يمكن أن تتخيلوا العراق دون مسيحيين وصابئة؟ يبدو أن كثيرا منا يستطيعون ذلك بل يتمنونه، عتاة الطائفتين وجبابرتهما لا يطيقون أن يشاركهم من يختلف عن عاداتهم وطقوسهم ودينهم ولغتهم وقسوة قلوبهم.
قريبا سنضطر إلى تذكر الصابئة كما نتذكر اليهود اليوم، سيصبحون موضوعا لدراسة تأريخية أو انثروبولوجية بعد أن كانوا جيرانا في زقاق أو زملاء في عمل أو أصدقاء في مقهى، وبعدها سنتذكر مسيحيي العراق ونحسد الدول التي لم يهجرها مسيحيوها، قريبا لن يبقى من أهل العراق الأصليين سوى الصور والمراثي.
هؤلاء عراقيون، وبحساب الوجدان والتأريخ (لا بحساب المواطنة طبعا) فهم ربما يكونون أكثر عراقية منا، نحن العرب المسلمين، بشيعتنا وسنتنا، مؤمنين وملحدين وبين بين، هم عراقيون دون أن يضطروا إلى فعل شيء يثبت عراقيتهم، لأنهم منذ أبد الآباد هنا، طقوسهم وتقاليدهم فيها رائحة طين العراق ورقرقة مياه نهريه.
أمس زرت في المستشفى سيدة عراقية أصيبت في الهجوم على وزارة العدل، اسمها إلهام، قطع الانفجار رجليها الاثنتين، تقول السيدة ان ضابطا عراقيا رآنا خائفين فصاح بنا :”تعالوا تعالوا”، ولشدة خوفنا جئناه طلبا للاطمئنان ولما صرنا حلقة كبيرة حوله فتح سترته وصرخ الله أكبر وفجر نفسه، ولم أشعر إلا وأنا في المستشفى، تضيف إلهام ان أكثر ما آلمني هو لهجته العراقية! لم أكن من قبلُ أصدق أن عراقيا يمكن أن يفعل هذا.
هذا أيضا عراقي، يحمل جنسية عراقية لكنه لم يجلس لا هو ولا أجداده على أنهار العراق يتأمل، لم يشبك يداه بغصن أخضر، لم يشعر أن بصمات لأبيه في الألواح التي جففتها شموس العراق.
هذا عراقي من ملة لا علاقة لها بدين معروف، إنه من دين سيعيش كثيرا ويعمر طويلا، من مذهب القتل ودين الفتك وطائفة العطش، أفراده يغطون عين الشمس، يكرهون ماء العراق وهواءه، ويحنون أبدا إلى كهف في صحراء خارج حدود العراق.
واحسرتاه.. العراقي ينقرض ويخلي مكانه لمسوخ الطوائف!
منقول من صحيفة العالم