قبل الشروع في كتابة هذا المقال، كنت في حيرة من أمري بين أن يكون عنوانه، هيكل .. الرجل اللبلاب، أم، هيكل .. طربوش الغراب، و المعني في النهاية واحد، فـ ” طربوش الغراب ” هو اسم من أسماء اللبلاب، ذلك النبات المتسلق الذي ينمو بشكل عصبي، و مذعور، لكن، حول جذع يلتف عليه، و إلا يزحف، فهو مزيف، و بلا مفاصل حقيقية تمكنه من الارتفاع بذاته،
و لأن ” هيكل ” يتمسك بحراسة الطربوش في عقله، لكنه طربوش من نوع آخر و صيغة أخري، طربوش يوضع في القدمين، حتي بعد أن أصبح طربوش الرأس من الماضي، كذلك طربوش القدمين توقف في العالم كل عن تجاوز حدوده، و أدرك أن دوره حراسة الحدود فقط، و إن سحقاً ..
و لأن للطربوش في ذاكرة المصريين رمزية بسيطة تعكس ما أريد أن أقوله تماماً، انتصر في النهاية، هيكل .. طربوش الغراب !
و ” هيكل “، منذ عقود طويلة، هو واحد من أكثر محللي البلاط رواجاً، لا لامتياز فكري يتفرد به، و إنما لأن النفاق هو الصيغة الجدلية لمسلكه في كل طور من أطوار حياته، نلمس ذلك ببساطة الماء في كل ما كتب ، وفي كل استعاراته العارية لأصابع الآخرين،
و في كل ما كتب، و في كل ما استعار ” هيكل ” من أصابع الآخرين يشترك في دورة الكتابة، الدوران حول تمثال من غبار، و تبجيل الوضع الراهن – ما دام يحظي هو فيه بمقعد وثير في حظيرة الضوء -، فهو لم يتمرد أبداً علي صيغ الواقع المعتمدة إلا حين جعله ” السادات ” ينسحب إلي حجمه الطبيعي الذي لابد له منه !
و لقد حاول الحصول علي بقعة ضوء في دائرة ” د. مرسي ” و كان علي استعداد طليق لأن يرسل لحيته و يسخر قلمه في خدمة بلاطه، لولا أنه لم يعثر في صدر الإخوان علي ذرة من التقدير، هذا هو ( الأستاذ )، و كل درب بعد هذا الدرب لعبور ذات ” هيكل “، لا يصل !
فهو واحد من الذين يستخلصون تجلياتهم المستهلكة، و المنحولة بتصرفات مرتفعة، حول القيم الانسانية العليا من خلال وضعهم الطبقي، لذلك، هو لم يكتب يوماً من أجل الإنسان،
و لذلك، كانت الإشادة بالانسان و بعمله عنده، وهي نادرة، ليست إشادة بالإنسان الباحث عن قانون آخر للحياة بل إشادة بالإنسان الخانع سهل القياد الذي لابد له من إله بشري يتواري في ظله الكبير !
لذلك، ليس غريباً أن تتعاقب تجلياته العادية بعضها إثر بعض دون أن تنطوي علي إشادة بأبسط مظاهر الحرية أو حتي طرح قوانينها الأساسية للنقاش..
و ليس غريباً ألا يستطيع من خلال أي من كتاباته أن ينتقل من أفق الفرد الي أفق الجميع، حيث يتمثل مركز الثقل عنده في الحاكم الفرد دائماً و في نظرته للأمور، لا ينتبه للتحولات الكونية، و لا للماء الكثير الذي جري في النهر، و للسخرية، هذه العبارة، الماء الكثير الذي جري في النهر، من أكثر العبارات شيوعاً في حبره !
و هكذا شخص، عادة، لا يقيم وزناً لنظرة الناس اليه من زاوية الإنسان فيه، إنما يهتم فقط بأن ينظر اليه الناس من خلال وضعه الطبقيِّ و درجة قيامه بمهمته، و هي خرزته التي اختارها من العقد بإرادته، و هي مهمة تكاد أن تكون تعبيراً محمياً علي ذوي الأرواح الهشة فقط ..
كما لا يقيم وزناً، هكذا شخص، للمسافة بينه و بين الأخلاقي، مثله في ذلك مثل كثيرين ممن اشتهروا بالأكل علي كل الموائد، و هؤلاء كالطيور المهاجرة، لا تواظب علي حراسة الارتباط برائحة الأمكنة، و متي ساء الطقس أمعنت في الرحيل، و ثمة شاعر، يظنه الناس كبيراً، يشترك مع ” هيكل ” في دورة هذا الخُلُق تماماً !
و لعل من أبرز نجاحات ثورة يناير، الثورة المصرية الوحيدة، أنها أسقطت الستائر التي تحجبنا عن حقيقة الكثيرين، فاكتشفنا أن كثيرين ممن كنا نظنهم فوق مستوي الشبهات ليسوا سوي فراغ، أجساد مسكونة بأرواح هشة و رديئة، لا أَحد، و ” هيكل ” ليس من هؤلاء، فحقيقته كانت تشتعل كفضيحة قبل ذلك بكثير !
الوعي لا يبلور الحياة إنما الحياة هي التي تبلور الوعي، و المسافة بين العبارتين، هي نفس المسافة بين عالم ” نجيب محفوظ ” و عالم ” توفيق الحكيم ” !
لقد انخرط ” محفوظ ” في حالة المصريين، فنزف قلمه من دم الشوارع و المقاهي و القاع، فكان واقعياً، بينما عاش ” الحكيم ” يحرس العزلة في برج من عاج، ينفر من مخالطة الناس، من أجل هذا، كان ضرورياً أن يكون أدبه أدباً ذهنياً قبل كل شئ، بعيد عن الواقع..
كذلك ” هيكل “،- و أعتذر عن وضعه في مقارنة مع ” الحكيم ” -، لا يجيد الكتابة إلا عن الناس الذين آثر برغبته أن يكون خادماً في بلاطهم، لأنه، ببساطة، لا يعرف شيئاً عن سكان القاع، و لا تعرف الندوب من أجل عذابات البسطاء الطريق إلي قلبه، لذلك ، طبيعي ألا نجد في كتاباته سوي عملية تذويب و ترفيه و أساطير تخفف من وطأة الواقع وتخدير القطيع !
تزييف الوعي المنظم تناذر شهير لكل الديكتاتوريات عبر التاريخ، و هو موجود في مصر منذ انقلاب ” عبد الناصر ” بكثافة، لكنه لم يحدث أبداً بتصرفات عارية و عصبية و منفرة كما يحدث في مصر الآن،
و لأننا الآن بصدد أكبر حملات تزييف الوعي فداحة في تاريخ مصر، و أمام إصرار البعض علي تلقيب ” هيكل “، صاحب النصيب الأوفر حظاً في هذه الحملة بالاستاذ، نحتاج إلي الاسترخاء فوق معجزة للعثور علي تعريف لمفهوم الأستاذ !
الأستاذ، أو المعلم، هو الذي يري بأول آرائه ما سوف تئول إليه أواخر الأمور، و هو تعريف يتطابق تماماً مع تعريف ” الداهية ” !
و الفكر هو تركيز للواقع وتقطيره إلي خلاصة مكثقة تشبه النبوءات التي لا تنطلق من خلال صيغ سابقة أو أفكار قبلية، فبماذا تنبأ ” هيكل ” ثم تحقق ليستحق هذا اللقب، و ما هي أوسمته غير أنه كان خادماً مقرباً من سدة حكم ” عبد الناصر “، و متاجراً مدلساً بعدائه للـ ” سادات “، و مرضياً عنه وعن ولديه الذين باشرا تربية المليارات تحت ظل نظام ” مبارك ” ؟!
لقد تنبأ كتاب و مفكرون مغمورون، إلا هو، بالكثير من الحوادث الجلل و تحققت تنبؤاتهم، و بحذافيرها، كأن يسكن البيت الأبيض في ” واشنطن ” رئيس أسود، و لا أعتقد أن ” هيكل ” يستطيع أن يتصور أن السياسة الأمريكية كمتتالية ” فيبوناتشي “،
كما التقط الكثيرون من الأفق الصريح، ما عداه، إرهاصات ثورة يناير أيضاً، فماذا كانت تجلياته هو حول مفهوم الثورة ؟
في مقال له بعنوان : ” محمد رضا بهلوى : عرش الطاووس .. وكل الدروس المنسية “، و سوف أضغط علي بعض هذا المقال فقط لأعري بعضاً من ( الأستاذ )، و بإمكان كل من يريد الاطلاع علي المقال، إنه يقول عن الثورة :
(|” الثورات لا تصدر لكن قيمها قابلة للانتشار، وفرق كبير بين تصدير الثورة وبين انتشار قيمها، و من الصعب أن يتصور أحد أن الثورة الإسلامية التى عرضت نفسها فى إطار مذهب واحد و بلد واحد كان فى استطاعتها أن تصدر أو تنشر كثيراً أو بعيداً إلا إذا استعملت فى ذلك سلطة الدولة وليس جاذبية الثورة “|)
هذا هو رأي ” الأستاذ “، كأنه ينفي مبدأ الوجود الإنساني بواسطة الإنسان نفسه، و ينفي حقه في خلق حقيقة أخري خارج نطاق النظام، و هو كلام تعصف به من الأمام و من الخلف و من الجانب الآخر و من كل الجهات مكيدة ” محمد البو عزيزي ” التي طار دخانها في كل هواء الوطن من الماء إلي الماء، و مزقت أنظمة راسخة، و رجَّت الذعر في قلوب كل حكام القبيلة الخصيان !
نعم، لقد صدرت ” تونس ” الثورة تصديراً مكتمل الدوائر لا قيم الثورة فقط، و كون الثورات العربية فشلت في إرساء قيم أكثر نبلاً، هذا لا يعني فساد الفكرة من جذورها بقدر ما يعني أن أعداء نجاحها كانوا قد نسقوا مكيدتهم جيداً، و هنا، لا يمكن أن نتجاهل دور مال النفط الذي يدرك مانحوه عن طيب خاطر، تماماً، أن صمود تراث القبيلة الفاشل مرهون بصمود الديكتاتورية في الجوار، ” آل سعود ” يشكل أكثر عمقاً ..
وقد يبدو الربط بين ” هيكل ” و مفردة ” ثورة “، وإن من مكان بعيد، أمراً غريباً لا يستقيم، و لكن ايقاع شخصيته يبدو لي متزناً معها بالمعني الساخر للصورة، حيث نلمس في أعقاب ثورة يناير في أحاديثه عن الثوار نغمة جديرة بـ ” البرادعي “، لقد قال الأب الروحي لرواد ” قهوة بعرة ” بالحرف الواحد :
– هاتولي شباب الثورة !!
قال أيضاً في نفس المقال :
(|” إن النصر فى المعارك لا يتحقق بالمدفعية تدك القديم وتحيله أطلالاً وركاماً ولكنه يتحقق بالمشاة يحتلون المواقع ويطهرونها ويفسحون المجال بعدها لنظام جديد “|)
حتي مع الأخذ في الاعتبار تاريخ كتابة هذا المقال، هذه العبارة وحدها تكفي بالقدر الذي يجعل أي إنسان مهما كانت ثقافته يؤمن تماماً أن هذا الرجل يسكن طللاً قديماً، و أنه يتكلم من ردهات الماضي، و أن الجمود طرأ عليه حتي أن التحولات الكونية الفاحشة لا تنبه في عقله نظرية أن المعركة قد تم حسمها قبل انقلاب ” عبد الناصر ” بسنين، بالعلم و بقيم الحرية لا بالمدفعية و المشاة، أكثر من هذا، كان انقلاب ” عبد الناصر ” نفسه جولة ناجحة من معركة ” الغرب ” في الشرق الأوسط دون إراقة نقطة دم غربي واحدة !
كذلك الثورة لا يصنعها المشاة و لا الجيوش، إنما العزل المزدحمون بالإيمان بقيم الحق في الحرية وحدها !
و من نفس المقال :
(|” فى هذا الجـو الملبد وجد العـراق نفسه مدفوعاً إلى حمل السلاح لحماية تركيبته الوطنية (شـيعة سنة وأكراد) وإلا جاء يوم أصبح فيه تماسكه – وبالتالى موقعه الحساس شرقى النظام العربى – مهدداً (المذهب فى إطار تركيبة قومية أو وطنية يستطيع أن يكون طاقة دافعة كما أثبت الشيعة العرب فى جنوب لبنان وأما المذهب وحده ووحيداً فلا أظنه يستطيع تجاوز حد محدود |)”!
هكذا قال، و هو كلام لا قيمة له، فالمذهب قبل كل شئ فكرة تنبت في العقول بصوت مسموع، التفاف جماعي حول رمز لا يحتاج، ليكون طاقة دافعة، إلي تركيبة قومية أو وطنية كما يقول ( الأستاذ )، و الشيعة العرب في ” جنوب لبنان ” الذين يستشهد بهم في إطار الأي كلام الذي قاله، يفطرون في رمضان علي توقيت مدينة ” قم ” الإيرانية، و ” جنوب لبنان ” ليس إلا شطربية ايرانية علي أرض ” لبنان ” !
و هناك مثال تاريخي أشد وضوحاً، لقد كان القائد ” أبو مسلم الخراساني ” فارسياً، مع ذلك، يرجع اليه الفضل وحده في انهيار دولة بني أمية، و قيام الدولة العباسية علي أنقاضها !
و يقول :
(|” ولقد حاولت أن أعثر لنفسى على جواب يحل لغز عجز الثورة الإيرانية عن فهم قضية حدود القوة وأهمية إدارة ثوابت الجغرافيا والتاريخ فى إطار هذه الحدود – وكان الجواب الوحيد الذى عثرت عليه – لنفسى – هو “عقدة الاستشهاد فى الوجدان الشيعى”|)..
يا ليته احتفظ بهذا الجواب لنفسه فقط، فعقدة الاستشهاد لم تتسلل يوماً إلي الوجدان الشيعي، و هذه العقدة تحديداً تخص الخوارج وحدهم، قطري بن الفجاءة و الآخرون، و تلمع كالخنجر في كل ما التقطه المؤرخون عنهم، و في أشعارهم، لكن الغريب أن هذه العقدة من خلق الخوارج أنفسهم، لم تولد في ألفة الرغبة في الانتقام لشهيد بعينه يرتقي إلي درجة رمز كما فعل ” الحسين ” !
من الجدير بالذكر، أن خسارة ” الحق في الولاية ” هي عقدة الشيعة الرئيسية، في النهاية، ليتفتت هذيان ( الأستاذ ) إلي شكوك رخوة، أقول، لا يمكن أن تجتمع ” التقية ” و ” عقدة الاستشهاد ” في قلب واحد !
ثم هو يكذب، يتعاطي مع المتلقي بمنطق الرحالة لا المؤرخ، وقد ضبطه الكثيرون من قبل، و كثيراً جداً، يقف علي حافة الخلق الشهيرة، و يزيف الوقائع، و توقيتاتها، و برمتها أحياناً، و في واحدة من أكاذيبه الكثيرة، قال، في نفس المقال :
(|” كانت الأميرة ” أشرف ” متزوجة من شاب مصرى من أسرة مصرية كبيرة هو السيد “أحمد شفيق” وقد تعرفت به فى القاهرة فى جو العلاقات الحميمة التى ربطت طهران بالقاهرة بعد زواج الشاه للمرة الأولى من الأميرة (فى ذلك الوقت أيضاً) “فوزية”، شقيقة الملك “فاروق” (ملك مصر فى ذلك الوقت كذلك!).
كان “أحمد شفيق” بعد أن تزوج من “أشرف بهلوى” ونزح إلى إيران واكتسب جنسيتها – قد عين مديراً للطيران المدنى. ولما كنت أعرفه من قبل فقد قصدت إليه بعد وصولى إلى طهران لمتابعة أحداث إيران وكان أن دعانى إلى بيته.
ثم جاء أصحاب البيت “أحمد شفيق” والأميرة “أشرف”، و (( لا أتذكر ولا أجد فى أوراقى ما يذكرنى بما دار بيننا جميعاً فى قرابة نصف ساعة تحدثنا فيها قبل أن يدخل علينا “محمد رضا بهلوى”. شاه إيران ))
(( و الغريب أيضاً أننى لا أتذكر ولا أجد فى أوراقى ما يذكرنى بما دار بيننا جميعاً بعد ذلك من حديث على مائدة الطعام )). كل ما أتذكره من هذا اللقاء الأول مع الشاه هو مأزق شخصى وقعت فيه. فقد كان طبق الـ ” كافيار ” هو فاتحة الغداء، ولم أكن قد ذقته من قبل لكنى جاريت الباقين وأخذت فى طبقى بعضاً منه وفعلت كما فعلوا وتناولت معلقة صغيرة منه على قطعة من الخبز المجفف وضعتها فى فمى ثم لم أستطع أن أمضغ أو أبلع. فقد فوجئت بمذاق ” زفارة ” بحرية مركزة ( لم يكن الروس قد توصلوا إلى أساليب معالجته لإزالة “زفارته” كما فعلوا فيما بعد ) وأحسست أننى أختنق. وكان الشاه هو الذى أحس على الفور بما جرى لى واقترح برقة أن أذهب إلى الحمام وأتخلص مما هو غير قابل للمضغ أو البلع فى فمى.
وأسرعت، وعدت، وكان هو الذى قال بأدب “إن كل الذين يجربون الكافيار لأول مرة يحدث لهم ما حدث لى !”|)
من جهتي، لا أجد تفسيراً أكثر عدالة لأن تضيع من مذكرات صحفيّ، فضلاً عن صحفيٍّ لا يكتب من أجل الإنسان بل من أجل وضعه الطبقي مثل ” هيكل ” تفاصيل هكذا لقاء مهم و ممتلئ بكل ذاك الدفء و تلك الحميمية، مع عائلة ” شاه ايران “، بل و مع ” شاه ايران ” نفسه، سوي أن هذا اللقاء لم يحدث إطلاقاً !
و علة هذه الكذبة المبيتة تنخفض إلي جذر واضح، و هو رغبته في الإيحاء إلي المتلقي من طرف خفي إلي رواجه و ضلوعه في صنع الأحداث الهامة و أهميته قبل حتي أن تربطه صلة بـ ” عبد الناصر “، و يحق لنا هنا أن نتسائل ببراءة الأطفال، ما الذي يدفع ” شاه ايران ” بجلالة قدره أن يسعي للقاء شاب كان في ذلك الوقت يقف علي مشارف الصحافة، و لا ينتبه إلي قلمه أحد ؟
و يستأنف، مع الاحتفاظ بنفس الخط :
(|” ثم كان موعدى معه فى اليوم التالى فى قصر “المرمر” وكان لقاءً مشتركاً. فقد حضرته معه زوجته الإمبراطورة “ثريا” التى تزوجها بعد طلاقه من الأميرة المصرية “فوزية”. كان يريد من “فوزية” ولياً للعهد ولم تنجح. ونفس الشىء حدث فيما بعد لـ”ثريا”. لم تنجح فى إنجاب ولى عهد وطلقها الشاه رغم أن غرامه بها ظل معه حتى اليوم الأخير من حياته فى مستشفى المعادى العسكرى بالقاهرة !
وفى ذلك اللقاء الأول وبحضور “ثريا”، وقد نشرته كله فى كتابى “إيران فوق بركان”، لم يكن هناك شىء غير عادى. كان مؤدى ما قاله لى فى هذا اللقاء “أنه لا يدخر وسعاً فى العمل لمصلحة شعبه. وأن السياسيين يتاجرون بمشاعر الجماهير. وأنه يقف وحده لا يسانده أحد فى مواجهة العواصف على إيران”. ثم كلام كثير فى هذه المعانى وحولها لا يستحق إعادته مرة أخرى “|) ..
لاحظ قوله ” لم يكن هناك شئ غير عادي “، و كل ما نسبه إلي فم ” الشاه ” بعد ذلك من كلام، مخافة أن يتورط بوضوح أكثر مما ينبغي، كلام لا يحتمل نسبته لأحد، و ماذا تراه يقول أيٌّ من حكام ذاك الزمان سوي، أنه لا يدخر وسعاً في العمل لمصلحة شعبه .. إلخ ؟!
لقد قالها هو بنفسه، كلام كثير في هذه المعاني و حولها لا يستحق إعادته !
و بالإضافة إلي أنه يكذب، هو يكذب و يريق مشاعره الخاصة في حبره، يقول عن ” شاه ايران ” في مقاله :
(| ” و مهما يكن فلقد كان فى استطاعته أن يربط بين العداء المتبادل مع ” جمال عبد الناصر ” وبين صداقته الحميمة بـ ” إسرائيل “، لكن حجته تصبح واهية فى ظروف صداقته الطارئة والمستجدة مع الرئيس ” السادات “، وفى هذا فإنه كان يكفى تذكر مواقفه أثناء حرب أكتوبر:
1- رفض طلب الاتحاد السوفيتى بأن تعبر طائرات جسر الإمداد الجوى لمصر وسوريا فى أجواء إيران – رغم أن جسراً أمريكياً للإمداد جرى فتحه قبلاً بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
2- لم يمارس على الولايات المتحدة أى تأثير بشأن إمدادها العسكرى السريع والفعال لإسرائيل (تأكد ذلك فيما بعد بما قاله كيسنجر فى مذكراته فى صفحة ” 673 ” من الجزء الذى صدر منها بعنوان “سنوات الغليان”).
3- لم يشترك فى حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة وإن كان قد تصدر فى عملية رفع الأسعار التى توافقت مع الحظر.
4- استمر فى تزويد إسرائيل بكل ما كانت تحتاجه من البترول طوال حرب أكتوبر (ونفس الشىء حدث فى حروبها السابقة مع العرب سنة ” 1956 ” و سنة ” 1967 ” – كل وقود آلة الحرب الإسرائيلية كان إيرانياً).
5- سمح لحاملات الطائرات الأمريكية التى كانت تقوم بمظاهرة عسكرية لصالح إسرائيل أثناء الفترة الأولى من المعارك بأن تتزود بالوقود من الموانئ الإيرانية.
6- واصل الضغط العسكرى على العراق حتى يمنع ثقله العسكرى الكامل من التأثير فى المعركة.
7- كان مؤمناً بالدور الإسرائيلى الرادع للعرب (تأكد ذلك بما نقله عنه ” كيسنجر” فى صفحة “675 ” من مذكراته من قول الشاه له “إن إسرائيل هى التى تحفظ توازن المنطقة وتحمى استقلال ووجود بعض الدول الصغيرة فيها”!)
ومن المفارقات بعد ذلك بسنين أن الرئيس السادات حاول إقناع الشعب المصرى بقبول استضافته فى مصر على أساس “الوفاء بدوره فى حرب أكتوبر”، وأريق حبر كثير على صفحات جرائد مصر فى التعبير عن “الوفاء والعرفان للرجل الذى وقف معنا فى حرب أكتوبر وفى الأيام العصيبة !! “|)
كل ما قاله لا يمس شرف ” الشاه ” و نبل جذوره من قريب و لا من بعيد، و لا هو أراد الذهاب إلي ذلك من قريب ولا من بعيد، إنها طعنات موجهة لشرف ” السادات “، كأنما لم يقلص موت الرجل من عتمة حقده عليه في وجدانه ..
أود أن أضغط هنا علي بعض الحوادث لتتضح بعض الأمور، و أعدكم بالعثور في الطريق علي كذبة من أضخم أكاذيب العرب..
لقد اعترف الشاه بـ ” اسرائيل “، و كان موالياً للغرب، ” أمريكا ” علي وجه الخصوص، و أمد ” اسرائيل ” بنفط بلاده في كل حروبها مع العرب، و رفض رفضاً مطلقاً أن يمر الجسر الجوى السوفيتى فوق المجال الجوى الإيرانى، و سمحت ” تركيا ” بفتح مجالها الجوي لمروره، هذا صحيح، لكن لماذا ؟!
يقول الكاتب الكبير ” أحمد بهاء الدين ” فى كتابه ” محاوراتى مع السادات ” أن الرئيس ” السادات ” عام “1974 ” صارحه بإعجابه الشديد بـ ” شاه ايران ” وذكائه الخارق، و اعترف له بأنه يعتبره مثله الأعلى بين كل حكام العالم، وأضاف الرئيس ” السادات ” :
(|” إن سر عظمة الشاه تكمن فى إدراكه أن هناك قوة عظمى واحدة فى العالم هى ” أمريكا “، وإن كل الذين عادوها، ” نهرو “، ” نكروما “، ” سوكارنو “، ” عبد الناصر “، تخلصت منهم إلا ” الشاه ” الذى أعادته لعرشه عقب ثورة ” مصدق “، و تعمل جاهدة على الحفاظ على نظام حكمه و تلبية رغباته !” ..|)
و ” السادات ” هنا يتكلم بما يراه فوق السطح، لكن ما تحت السطح كان غير ذلك، يقول الكاتب الكبير الذي أحبه بشكل خاص، ” أنيس منصور “، في بعض كتاباته :
“(| و أدهشني ” الشاه ” و هو يتكلم عن مرضه بالتفصيل المؤلم، وأنه سوف يموت، ولكنه يذكر دائما موقف الرئيس ” السادات ” و نبله و كرم أخلاقه و شخصيته، فقد احتضنه يوم رفضه العالم كله، و في مقدمة العالم ” الولايات المتحدة “، و لا ينسى أن الرئيس ” كارتر “، ليلة رأس السنة وهو يرقص مع ” الشاهبانو “، همس في أذنها ” إيران جزيرة الأمان ” ..
و الرئيس الأمريكي لم يكن يعرف أن المخابرات المركزية تقف في مطار ” طهران ” في انتظار ” آية الله روح الله الإمام الخوميني “، ” الاثني عشري “..
هل هذا ممكن؟
نعم، فأجهزة الدولة الأمريكية هي الثوابت، و هى الباقية، أما الرئيس الأمريكي، فلم يبق من عمره الرئاسي سوى أيام، فكأنه لم يعد رئيساً، و يوم هز الرئيس الأمريكي رأسه أسفاً على إمبراطور إيران، جاء مَنْ يهمس في أذنه ” إنها مصالح أمريكا، جرى لك إيه؟!”|)
متتالية ” فيبوناتشي ” كالعادة، فلا تعمل ” أمريكا ” إلا لصالح ” أمريكا ” فقط، ليس لديها عزيز، و كما كانت ضالعة في الثورة علي ” شاه ايران ” كانت ضالعة أيضاً، و بقسط باهظ، في الإطاحة بعرش ” الملك فاروق الأول “، ” ملك مصر و السودان “، و كما أعانت ” الخوميني ” في ثورته علي ” الشاه “، ليوم له ما بعده، ساعدت ” عبد الناصر ” علي وراثة مصر و السودان من ” فاروق “، ليرثها ” السادات ” عنه، بعد سنوات قليلة، ” مصر” إلا كثيراً، فقد أضاع، حبيب الملاليم، ” السودان ” و ” غزة ” و ” سيناء ” !
و كراهية ” شاه ايران ” لـ ” عبد الناصر ” مبررة و أليفة، فالأخير هو الذي بدأ الشر الذي احتدم بينهما !
فى يوليو ” 1960 ” قرر ” الشاه ” إقامة تمثيل دبلوماسى كامل بين ” إيران ” و ” إسرائيل ” ، و كان تعقيب ” عبد الناصر ” علي القرار حماقة من إحدي حماقاته التي لا تحصي، فوجه للـ ” شاه ” تحذيراً عصبي اللهجة فى خطاب عام، تحدث فيه، بلهجة الوصيِّ، عن خطورة اعترافه بـ ” إسرائيل “، و أنه بهذا الاعتراف يؤكد للعالم كله و لشعبه أنه ألعوبة فى يد المخابرات الأمريكية التى أعادته إلى العرش بعد الانقلاب المضاد على ثورة ” مصدق “، و توقع أن تكون نهايته ككل نهايات أمثاله من العملاء و الخونة !
و جاء الرد من ” ايران ” أكثر عصبية، إذ قرر ” الشاه ” قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، و هنا البداية ..
ثم، عندما اتصل الثوار الإيرانيون بأجهزة المخابرات المصرية عبر رجل ” عبد الناصر ” للمهام الخاصة، ” فتحى الديب “، و طلبوا دعم ” مصر “، وافق ” عبد الناصر “على دعمهم، و فتح لهم معسكرات التدريب على السلاح و أعمال المخابرات ، كما أمر بتخصيص إذاعة موجهة للشعب الإيرانى باللغة الفارسية تحضه على الثورة ضد حكم ” الشاه “!
كما طلب شخصياً من الحكومة العراقية تسهيل إقامة ” الخوميني ” علي أرض العراق، و تلبية كل احتياجاته، و حدث، و حدث أيضاً أن طردت الحكومة العراقية ” آية الله ” بعد وفاة ” عبد الناصر “، و رجع إلي ” فرنسا ” !
عن أي ذرة حب لـ ” عبد الناصر ” تجدونها في قلب ” الشاه ” تتحدثون بعد كل هذا ؟!
وعدتكم بالعثور في الطريق إلي هنا علي كذبة من أضخم أكاذيب العرب، و هذه هي ..
لعل أكبر أوسمة الملك ” فيصل ” في ذاكرة المصريين، و الشامة البيضاء علي وجه ذكراه، هو اتخاذه، كما قيل، قراراً بقطع النفط عن الغرب خلال حرب أكتوبر ” 1973 “، و هذا لم يحدث إطلاقاً !
في مفاجأة من العيار الثقيل، و غير سارة لكل مؤرخي البلاط، و لـ ” هيكل ” بشكل أكثر عمقاً، أضاء مشروع ” ويكيليكس ” مؤخراً أكثر من ” مليون و سبعمائة ألف ” برقية توثق مراسلات السفارات الأمريكية و لقاءاتها و استراتيجيتها و تحليلاتها في حقبة السبعينيات، و أصبح في حكم الحقيقة العارية، أن ” شاه ايران “، رغم تحالفه الوطيد مع ” إسرائيل ” خلال حرب أكتوبر، كان زعيم تيار المطالبين برفع أسعار النفط للضغط علي الغرب، و أفني في هذا الصدد كل نفوذه داخل ” منظمة الأوبيك “، للحيلولة دون استعادة الجيش الاسرائيليِّ لياقته بعد أن كان قد أوشك أن يمتص صدمة المفاجأة !
مفاجأة أخري و صدمة ميسرة في الوقت نفسه ..
لقد كان دور الملك ” فيصل ” في قرار قطع النفط، علي غير ما أفهمونا، ثانوياً، بل هو اضطر إلي التماشي مع الركب الذاهب في هذا الاتجاه تحت ضغط الإحساس بالحرج لا أكثر، مع ذلك، ظل محتفظاً بكل خطوط الرجعة حتي النهاية !
في نهايات ديسمبر من العام ” 1973 “، عقدت ” منظمة أوبيك ” اجتماعًا في ” طهران “، مثل ” السعودية ” فيه وزير النفط ” أحمد زكي يماني “، في هذا الاجتماع، أصر ” شاه ايران ” على رفع أسعار النفط من ” 3.05 ” دولار إلى ” 7 ” دولار، فرفضت ” السعودية ” مطلقاً، غير أن ” الشاه ” أكد أنه تشاور مع ” أمريكا ” و ” بريطانيا “، و كلتا الحكومتين وافقت على رفع الأسعار، اتصل ” يماني ” ببلده، فأمره الأمير ” فهد “، الملك ” فهد ” فيما بعد، ألا يواجه الشاه وأن يقبل، و قبل ..
و كان أول ما فعله هذا الوزير بعد عودته من ” طهران ” أن وشي بكل تفاصيل الاحتماع للسفير الأمريكي، و هو لم ينس أن يخبره أنه استنفد كل طاقاته ليقنعهم بتخفيض الأسعار !
أخبره السفير أن بلاده لم توافق على رفع الأسعار كما ادعي ” شاه ايران “، فأجابه ” أحمد زكي يماني ” أن ” السعودية “، و الأمر هكذا، سوف تدعو لاجتماع آخر عاجل لأعضاء المنظمة للتراجع عن القرار، و هذا تماماً هو ما قد حدث في الثامن من يناير للعام ” 1974 “، إذ اجتمعت دول ” أوبيك ” في ” جنيف “، و هددت ” السعودية ” بأن تخفض وحدها الأسعار !
و في نهايات ديسمير نفسه، تلقى الملك ” فيصل ” رسالة عصبية من ” القذافي “، يحرض فيها على ” السادات “، و يرجمه فيها بالخيانة العظمي، لأنه بدأ مفاوضات السلام مع ” إسرائيل “، فماذا كان رد فعل ” فيصل ” يا تري ؟!
لقد أمر وزير شئون خارجيته، ” عمر عباس السقاف “، في اليوم التالي مباشرة، بالذهاب إلى السفارة الأمريكية ليعرض الرسالة عليهم و يعرض عليهم في الوقت نفسه مسودة رد الملك التي أنَّب فيها ” القذافي ” و نصحه بضرورة القبول بالحلول الواقعية !
كما تؤكد برقيات ” ويكيليكس ” السرية أن ” السعودية ” لم يكن لديها علم مسبق بموعد حرب أكتوبر، علي غير ما تقول الروايات التي تحاول إبراز دورها زاعمة أن استخدام النفط كان قراراً مرتباً و متفقاً عليه لإنجاح المعركة !
الحقيقة العارية، أن الملك ” فيصل ” أبدي استيائه الشديد من الهجوم لأنه استدرجه إلي مأزق حرج، و وضع تحالفه مع ” أمريكا ” في التجربة، و وضع عروبته علي المحك في نفس الوقت !
بعد ساعات من بداية المعركة، ذهب ” محمود ملحس “، مساعد الأمير ” فهد ” إلي السفارة الأمريكية، و أكد للسفير الأمريكي أن مليكه منزعج مما أقدمت عليه ” سوريا ” و ” مصر “، و أنه يعده عبثياً و دوراناً في الفشل، لكن بلاده ستضطر لمساعدتهما سداً لفجوات إقليمية و مراعاة لاستحقاقات داخلية !
و ماذا يدعونا للشك في كل هذا، و ” السعودية ” هي التي شكلت الركيزة الاقتصادية فيما يسمى بـ ” مبدأ نيكسون “، كما شكلت ” ايران” ركيزته العسكرية ؟!
كأن التاريخ ليس سوي كذية متفق عليها، كما قال ” نابليون “، و ” هيكل “، واحد من أهم من باشر تربية هذه الكذبة حول دور الملك ” فيصل ” المزعوم في حرب ” 1973 “، تماماً كما ساهم في صنع أكذوبة انتصار ” عبد الناصر ” في ” 1956 “، و في تحويل هزيمة ” 1967 ” إلي مجرد ( نكسة ) !
ربما، لكل هذا، كان في ذلك الوقت، و كل وقت، مكروهاً من كل الضالعين في بلاط صاحبة الجلالة، حتي الذين يشبهونه في العاهة، و كم عطل من مسارات لزملائه، و كم طعن من خاصرة، و ترك في العديد من القلوب ندوباً ..
و لـ ” موسي صبري “، الذي كان بالنسبة للـ ” سادات ” تماماً كما كان ( الأستاذ ) بالنسبة لـ ” عبد الناصر “، و ربما كان تقريب ” السادات ” لـ ” موسي صبري ” و نفوره منه هو، هو المصدر الجذري لخروجه عليه، و هو تصرف يتماهي مع شخصية ( الأستاذ ) تماماً !
أقول، لـ ” موسي صبري ” في ” هيكل ” رأي، رواه في مذكراته ” محمد أحمد فرغلي باشا ” الملقب بـ ” ملك القطن “، إذ قال له من حديث دار بينهما في ” مصيف “، أو هكذا أظن، و هو يشير إلي ” هيكل ” :
– ذلك الأفاق الذي يدعي أنه يعلم كل شئ !
و ” فرغلي باشا “، لمن لا يعرف، كان عصامياً، و من ” أسيوط ” كان، و كان أول مصري ينهي سيطرة الأجانب الطويلة على المناصب القيادية، إذ تم انتخابه سنة ” 1935 “، وكيلاً لبورصة ” مينا البصل “..
و ” فرغلي باشا “، كعادة الطيبين، احترم الحقيقة من جميع جوانبها في مذكراته، بل بلغ به الحرص علي التمسك بالحقيقة أن أدان نفسه في الكثير من سرده،
إذ اعترف بأنه دفع ” 5000 ” جنيهاً لأحد كبار الصحفيين ممن يملكون داراً صحفية، ليكتب مقالاً موقعاً باسمه، حمل عنوان “إني أتهم”، يتهم فيه مندوب الحكومة في البورصة بالتحيز !
و اعترف بأنه، حين رشح نفسه في دائرة ” مينا البصل ” بمحافظة ” الإسكندرية “، دفع أكبر رشوة انتخابية في ذلك الزمان، و هي جنيه مصري كامل لكل من يمنحه صوته، و أن مندوبه كان يعطي الناخب نصف ورقة الجنيه فإذا خرج من اللجنة الانتخابية و أعلن أنه انتخب الباشا حصل على نصف الورقة الآخر، و كان مندوبه داخل اللجنة يعطي الناخب ورقة تؤكد أنه نفذ المطلوب وانتخب تاجر القطن، و هو بهذا التصرف كان سابقاً لأوانه و رائد لعادة رائجة في انتخابات ” مصر “، و لا تزال نابضة حتي يومنا هذا، و مع هذا، اعترف بأنه بالرغم من كل هذا لم ينجح في الانتخابات !
تأمل كيف كانت الديمقراطية في ” مصر ” الأربعينيات، و كيف صارت في ” مصر ” القرن الواحد و العشرين !
و ” فرغلي باشا “، ككل الذين ينتمون إلي طبقته و ظلوا في ” مصر “، ساءت أحواله بعد انقلاب ” عبد الناصر “، و وجد نفسه مضطراً للتودد لعائلة ” جمال “، و هي تشترك مع عائلته في الجذور الأسيوطية، و التقي ” عبد الناصر ” لأول مرة، و خاطبه قائلاً :
– يا ( رفعة الرئيس )، كيف لا أؤيد تغييراً يسعى إلى تحقيق الأفضل !
و ” فرغلي باشا “، رفض في الستينيات، عرضاً للعمل كمستشار في أحد البنوك الإنجليزية في ” لندن ” براتب يصل إلى ” 25 ” ألف جنيه، بالإضافة إلى مسكن و سيارة و سائق، و وافق على العمل مستشاراً لمؤسسة القطن في ” مصر “، براتب يعادل راتب رئيس مجلس الإدارة، غير أن المجلس في اجتماعه للموافقة على التعيين، رفض الراتب المقترح، وقرر ألا يزيد عن ” 100 ” جنيه !
و لـ ” فرغلي باشا ” مع العهد الناصريِّ قصة تجري في يقين الألم ..
فالرجل، برغم تودده الذليل لعائلة ” حبيب الملاليم ” التي كانت قبل عامين أقل شأنا من خدمه، لم يسلم من فرض الحراسة علي أمواله، و لقد قدرت قيمة شركاته بمبلغ ” مليوني ” جنيه، و كانت قيمتها الفعلية تعادل ثمانية ” مليون “، و كان أول مرتب شهري حصل عليه بعد فرض الحراسة علي أمواله ” جنيهين ” !
ليس هذا موطن المأساة، إنما، حدث أن مرض حفيده، ابن ابنته، و لقلة الراتب بالقياس حتي إلي أسرة بسيطة، لا أسرة أنفقت عمرها في ظلال الترف، لم يكن في البيت نقود تكفي لعلاج بسيط له، و كانوا يتحدثون حول مائدة طعام بسيطة حول حل، فبكت ابنته بكاءاً عصبياً، و قالت في انفعال، تقصد ” عبد الناصر ” :
– يقعد له في ولاده، الله يلعنه !
فما كان من ” فرغلي باشا “، بحاسة تاجر قطن، إلا أن لطم ابنته، ثم انخرط في البكاء من فرط التأثر !
التقي في اليوم التالي شقيق ” عبد الناصر ” صدفة، فبادره قائلاً :
– تسلم ايدك يا باشا !
اكتشف الرجل فيما بعد أن أحد خدمه علي صلة بنظام ” عبد الناصر ” !
هذه هي قيم الدولة التي أنفق ” هيكل ” عمره، وبذَّر حبره، مواظباً علي حراسة جذور بقائها، و يواصل ..
سؤال برئ في الختام،
هل يوافق ” هيكل “، الملقب بـ ( الأستاذ )، و هو لقب لا يطاله من قريب أو بعيد، هو فقط صحفيٌّ متسلق، هل يوافق، في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، علي فرض الحراسة علي ” مليارات ” عائلته، أو علي الأقل، هل يوافق علي التنقيب عن مصادر هذه الثروة الطائلة، هل ؟!
ما أقرب خيوط الفجر، و إن بدت في الظنون كخيوط العنكبوت، واهنة و بعيدة ..