هيثم المناع : مدونته الخاصة
من جنايات المأساة السورية أن هناك أطراف قررت منذ البدء تحديد المسار والمآل من الخارج على حساب الحراك الشعبي المدني السلمي. ويذكر الجميع كيف انطلقت من عناصر إخوانية صفحة “الثورة السورية ضد بشار الأسد” منذ شهر كانون الثاني 2011 وطالبت بالانطلاق في 4 و 5 شباط/فبراير أي ذكرى مجزرة حماه. ونتذكر كيف كتبت الصحف صباح 16 آذار عن مظاهرات وضحايا في التاريخ الذي حددته الصفحة المذكورة.
لم يكن قد سقط أي جريح أو قتيل في ذاك الوقت وكان الخطاب جاهزا عند البعض بل والتضليل الإعلامي أيضا. الجميع يذكر أيضا الحراك الأول في مدينة درعا والذي ركز على ضابط الأمن عاطف نجيب الذي كان رمزا للقمع والفساد في المحافظة وتحدث في الفساد والإصلاح ورفع حالة الطوارئ وحمل شعارات الكرامة والحرية ووضح التخوم بين الخارج والداخل عندما رفعت يافطة تقول “لا إخوان ولا سلفية بدنا دولة مدنية”.
كان صوت الإنسان السوري ابن المعاناة والألم المزمن من منظومة فساد ونظام استبداد وبشعارات محلية خارج العالم الافتراضي: “سلمية ولو قتلوا كل يوم مية، لأن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، طالبناهم بالإصلاح واجهونا بالسلاح، ما في بدرعا عصابات وسلاح ومؤامرات..”. فقد خلقت الحركة الشعبية في تونس ومصر بيئة عامة للتغيير السلمي وأيقظت المقاومة المدنية في الوجدان الجماعي من الماء إلى الماء.
مشكلتنا في سورية كانت منذ البدء في محاولة الخارج والإعلام السيطرة على الحراك الشعبي لأجندات لا تتناسب مع وتيرة الحراك الشعبي ووتيرة المتطلبات الداخلية. صار التدخل في أسماء أيام الجمعة واضحا، وصار بعض الميسورين يطلبون يافطات محددة من دول الخليج. وبدأنا نسمع من رجال دين في الجزيرة العربية جملا مثل “ألف ناتو ولا مجوسيون وصفويون..”.
صوت الخارج غطى على صوت الداخل في العالمين الفضائي والافتراضي، وليس من قبيل الصدفة أن الستة الداعين لمجلس انتقالي سوري من اسطنبول كانوا من الخارج ويحملون جنسيات أوربية وأمريكية ولم يكن بينهم مواطنا واحدا من الداخل. وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يتم تسويق هذا المشروع غربيا وخليجيا على حساب النضال الداخلي المنبثق من طين الأرض ورحم المجتمع. لقد حاولنا منذ اجتماع الدوحة الأول في حزيران 2011 تغليب حسن النوايا وإعطاء الصوت للداخل وطلبت من أحد المبشرين بمنصب في المجلس أن يعود لسورية حتى لا نصبح معارضة منفى تتقاذفها دول الجوار والقفار.
ذهبت كل صيحاتنا هباء، وانهال الدعم الإعلامي والسياسي والمالي على معارضة الخارج لتصبح ناطقا باسم الشعب والثورة. ومازلت أذكر جملة عزمي بشارة الذي قال “إذا اتفقتم على هيئة مشتركة الطائرة جاهزة للسفر لعدة بلدان للاعتراف بها”.
وكأن الأنموذج الليبي قابل للتكرار؟؟ غداة إجهاض أول اتفاق بين هيئة التنسيق الوطنية والمجلس الوطني بعد ساعات من إعلانه بأمر خارجي، قال لي ميشيل كيلو في منزل سمير عيطة: هذا عمل أجهزة أمنية؟
فلماذا يستهجن البعض قول مسئول أمريكي كبير مؤخرا بأن بلده كانت وراء صناعة المجلس والائتلاف؟
قالوا أسبوعين وتنتهي فقلنا لهم القصة طويلة، اتهمونا بكل الخيانات وخانوا كل الأمانات. ويوم أطلقنا شعار إسقاط السلطة الدكتاتورية واللاءات الثلاث (لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل العسكري الأجنبي) قال المتحدث باسم حركة الإخوان المسلمين لا يوجد لاءات مقدسة. وفي العاشر من آب/ أغسطس بعد يومين على استشهاد الفقيد معن العودات نشر موقع الإخوان المسلمين ومواقع سلفية مقالة تقول نعم للتسلح تحت راية الجهاد ونعم للرد على طائفية السلطة بتعبئة أهل السنة ونعم للتدخل العسكري الخارجي لأننا بدأنا مرحلة الهدنة بين القوى الغربية والإسلام. تحدثت مع صديق من الإخوان جاء يعزيني بشقيقي فقال لي هذا المقال لا يمثل وجهة نظر الحركة.
تصاعدت بعدها أحاديث الجهاد وضرورته لإسقاط النظام، وبدأت القصة بطلب مُبالغ فيه لأكياس الدم من الجمعيات الخيرية والطبية. فقلنا لمن لنا معه تواصل ستخسرون الأغلبية التي تحتضن الحراك المدني السلمي وستخسرون رهان العسكرة.
من جديد أكيلت التهم وتوظفت الشبكة العنكبوتية والفضائيات لتشويه صورة المناضلين السلميين. ما زلت أذكر جملة أحدهم عندما قلت بعد عيد الفطر في 2011: “إذا تسلحت تأسلمت فتطيفت فتطرفت وذهب ريحها”. وقف مجلسي عائد للقضية السورية من بعيد يقول لي: “سنوظف مئة شخص للرد عليك إذا لم تتوقف عن هذه التصريحات”. أجبته ببرود: “المثل يقول قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق على الأقل تصرفون جزءا مما تقبضون للناس″. حتى أعز الناس إلي حذروني من صعوبة مواجهة تيار جارف تقوده دول كبرى وصغرى وإعلام قاتل. لن أطيل في التذكير، فالغاية منه القول أن هذا الموقف يعبر عن عشرات بل مئات الآلاف التي أرادت تحولا سياسيا سلميا. وكانت تكرر جملة الصديق المعتقل عبد العزيز الخير “يجب أن نعضّ على أصبعنا وأوجاعنا ونبقى سلميين حتى لا نقع في الفخ المنصوب لنا بالذهاب من الثورة للحرب”.
هؤلاء الذين أعطوا أجمل صورة للعالم عن الحركة المدنية الشعبية دفعهم العنف العشوائي لقطاع من المعارضة المؤيدة للتسلح إلى الانكفاء وفي أحسن الأحوال للقيام بواجبات إنسانية. فإن كانوا من الأقليات الدينية والمذهبية صنفوا بالموالين للنظام، وإن كانوا من متنوري الأغلبية العددية الإسلامية صنفوا بالجبناء. وإن انتقدوا ما يحدث صاروا من الشبيحة. وجرى تهميش كل محاولات العمل المدني السلمي. ومقابل هذا التهميش تم تعويم فكرة العمل المسلح. لم تستنكر معارضة الخارج ما جرى من قتل لجنود بسطاء في جسر الشغور مبكرا.
ولم يستفسر أحد لماذا بني أول معسكر للاجئين في اسكندرون من قبل السلطات التركية قبل وصول اللاجئين. وكم ناديت أهل الجنوب للبقاء في منازلهم ورفض اللجوء لدول الجوار فكان البعض ممن يشجع على اللجوء في مناطق هادئة ولا خطر على أهلها يستنكر موقفنا. وكيف ننسى مهزلة أحد البهلوانات الذي قال بأن وجود عشرة آلاف لاجئ سوري في بلد عضو في الناتو سيجعله يتدخل وفقا للمادة الثامنة من نظامه الأساسي..
طبعا لم تحقق الجزيرة والعربية في وجود تلك المادة وقد ضحك أحد المسئولين الكبار في حلف شمال الأطلسي عندما رويت له القصة. اليوم يترك اللاجئون لمصير أسود بل وتنهب المساعدات التي تأتي باسمهم من كل الأوصياء دولا ومنظمات وأشخاص. فهل كان كل من حذر من هذه المآسي مواليا للنظام؟
أحضر لي يوما مناضل أمضى في السجن 14 عاما شريطا لأبي عمر الحسيني القرشي البغدادي قائلا: هذا من كلف أبو محمد الجولاني بقيادة جبهة النصرة. استمعت للفقرات التسعة عشرة التي يتحدث بها ومنها (وجوب هدم وإزالة كل مظاهر الشرك وتحريم وسائله، الرافضة طائفة شرك وردة، العلمانية على اختلاف راياتها وتنوع مذاهبها كالقومية والوطنية والشيوعية والبعثية هي كفر بواح، طوائف أهل الكتاب وغيرهم من الصابئة ونحوهم اليوم أهل حرب لا ذمة لهم، نرى وجوب قتال شرطة وجيش الطاغوت…). هذا المناضل من أسرة مسيحية رفض الصمت عن جبهة النصرة وداعش يوم غازلها الائتلافيون، فهل كان مواليا للنظام وكانوا بموقفهم المدافع عن النصرة أصحاب مشروع ديمقراطي حقا وصدقا؟ عندما ضربت منشآت البنيات التحتية السورية كيف كان موقف معارضة اسطنبول؟
عندما ذبح محام في حرستا لأنه من أسرة شيعية هل اعترض أحد من الائتلاف على هذا السلوك رغم أنه فقد قدمه في مقاومة إسرائيل مع المقاومة الفلسطينية؟
عندما جرى الخطف على الهوية الطائفية ماذا كان موقف “المعتدلين”؟
عندما سقطت التماثيل ونسفت أضرحة الأنبياء والصحابة وهدمت الكنائس هل سمعنا موقفا صارما قبل مطلع هذا الشهر؟ عندما قتل مدنيون وعسكريون على الهوية المذهبية هل صدر ولو بيان تبرئة ذمة؟
ألم يقل شيخ الحقوقيين عندهم أن الخطف “وسيلة ناجعة مجربة” وألم يستبح دم كل مواطن روسي باسم “الثورة”؟
في كل هذه المواقف كان ثمة ضمير مواطني يصرخ لا.. في كل طلب لتدخل للناتو كان ثمة من يقول لا.. هؤلاء لم يكونوا يوما مع الدكتاتورية ووقفوا بحزم ضد الدولة الأمنية ودفعوا غالي الثمن في حريتهم وعملهم.
فباسم من يحق للبعض تصنيفهم بالموالاة أو بالمعارضة المحدودة السقف؟ وهل الشرطي الذي ينظم السير خادما للدكتاتورية؟ وهل الجندي الذي يُقتل على حاجز مستباح قتله؟ وهل الأحياء والقرى التي تستهدف بشكل عشوائي من هذه المجموعة المسلحة أو تلك مشروعة الهدم والردم؟ وهل تزر وازرة وزر أخرى؟ وأين عين الرقيب الأخلاقية والثورية عند مقاولي معارضة الخارج؟
مثّل مقاتلو قريش بجثث أنبل الناس فمنع الرسول الكريم (صلعم) المثلة والإساءة لميت.
فأين إسلامهم من الإسلام؟ ولماذا يتهم كل من يشجب جرائم الغرباء بالعمالة لنظام أو حلف؟ أما آن الأوان لوضع حد لهذه المهازل؟
ألم يفكر السياسي والعسكري الصامت أو المشارك في هذه الممارسات أن سورية ستبقى لأهلها وبأهلها وأنه محكوم عليه بالعيش مع جاره وليس مع الطالبان والشاشان وشذاذ الآفاق حملة رسالة الموت من أي بلد جاءوا ولأي معسكر انضموا؟
ما زال في سورية رغم عمق المأساة أغلبية برنامجها التغيير الديمقراطي المدني، وما زال إيمان هؤلاء رغم كل ما يرون من محبطات أقوى من معارضة الفنادق. هؤلاء المغيبون لهم صوت وموقف وحقوق، من خسر حياته منهم ومن مازال حيا. وهم بناة سورية المستقبل، والأحرص على الكرامة ودولة القانون ذات السيادة.
وعلى كل من يوجه لهم سهام تكفير أو نقد، أن يعلم بأن ذاكرة الشعب أقوى من ذاكرة المؤرخين، وأن المحاسبة لن تكون فقط لمجرمي السلطة الدكتاتورية، وإنما أيضا لمن سرق وسمسر وباع واشترى وتواطأ مع الظلامية الإقليمية والهيمنة الخارجية على حساب وحدة البلاد وكرامة العباد.