من يتابع بعض الإعلام المصري، المزدهر عددًا والمتراجع مضمونًا، ومن يتابع جانبًا من الإعلام السعودي، يتبدى له أن مصر والسعودية على شفا الحرب أو أقل بقليل!
ثمة مبالغات لا حصر لها، وتناطح لتسعير الخلافات بكثير من الشعبوية واستسهال رفع السقوف لأن «الجمهور عايز كده»! يقترب بعض المضمون من «تعيير» هذا بماضي ذاك وكأن العلاقات السعودية – المصرية هي علاقات شخصية بين صديقين باعدت بينهما الظروف، مما استوجب انتقال الصداقة إلى عداء مستحكم، يستخدم فيه كل طرف ما يعرفه عن الآخر!!
من غير المنطقي أن ينحدر مستوى السجال الإعلامي السعودي – المصري إلى المستويات التي انحدر إليها، بعد أشهر من زيارة تاريخية للعاهل السعودي إلى القاهرة، وبموازاة اتصالات لا تهدأ بين الجانبين على أكثر من مستوى. بل من غير المنطقي أن يكون هذا الانحدار انعكاسًا أمينًا لشيء حقيقي يجري على مستوى الدولتين ومؤسساتهما. علاقات الدول، ورهاناتها، لا تتغير بالسرعة التي يوحي بها «إعلام الردح»، مع مسؤولية أكبر للإعلام المصري، بكل أمانة!
لكنه زمن الشعوبيات، وصحافة «ما بعد الحقيقة» التي لا تستند إلى الوقائع بقدر ما تسند هذه الوقائع جذوة الحماسة والتهييج! وإلا فالأكاذيب، والمبالغات، والطعن الحاد.
لا يطلب، إلا ساذج، أن تتطابق الأجندات السعودية والمصرية، فكيف إذا كان من يطلب أو يتوهم، يطلب الآن، في واحدة من أعقد اللحظات العربية، وفي ذروة الاختراقات الحساسة من قبل دول تتعامل مع عموم المنطقة على أنها مجرد عمق استراتيجي وساحة عمل، لا سيما إيران!
التصويت المصري في مجلس الأمن على مشروعي قرارين روسي وفرنسي حول سوريا، خلافًا للموقف السعودي، لا يعني أن مصر انتقلت من تموضع استراتيجي إلى تموضع آخر!
صوتت مصر على مشروعي قرارين أمميين متناقضين في الجزئية المتعلقة بأنشطة الطيران الروسي في حلب، إذ يدعو مشروع القرار الروسي إلى تحييد الطلب من الطيران الروسي (والسوري) وقف الغارات على حلب، فيما يصر مشروع القرار الفرنسي على وقف الغارات. هذا التناقض ليس هو كل الصورة. في القرارين صوتت مصر لصالح بندين يتعلقان بوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات للمدنيين، وراعت في الوقت نفسه مصالحها مع موسكو، تحديدًا في ليبيا، العمق الاستراتيجي للأمن القومي للقاهرة.
هذه إدارة معقدة، وقد لا يحالفها التوفيق دائمًا، تمامًا كما لم يحالف الحظ الدبلوماسية المصرية، في مبادرات وخطوات عدة، ليس هنا المجال للتوسع في ذكرها.
ومثل مصر تدير الرياض علاقات معقدة. من السهل اقتطاع نمو العلاقات التركية – السعودية من رصيد العلاقات السعودية – المصرية، في ضوء الخلاف المستحكم بين القاهرة وأنقرة على ملف الإخوان المسلمين. من السهل بناء جبال من الأوهام على تنوع الاتصالات السعودية بفصائل المعارضة السورية، ووضع بعض هذه الاتصالات في خانة سلبية تجاه مصر.
ملف اليمن، وأمن البحر الأحمر، والثغرات الموجودة التي لا تزال تتيح لإيران إيصال صواريخ لميليشيا الحوثي، هو الآخر كفيل لوحده بفرض تحديات على أي علاقة ثنائية، إذا ما قرر أي طرف إسقاط الاعتبارات الخاصة لكل دولة، والاندفاع التعبوي خلف شعار «إما معنا أو ضدنا»!
هذه هي المادة التي يعمل عليها بعض الإعلام في البلدين، مستفيدًا من مناخ عام من القلق والتوتر يحتاج في الناس إلى إجابات حاسمة وواضحة وقاطعة، وهي غير متوفرة.
هذه ملفات ليس مكانها «الردح» الإعلامي، كما تعرف القاهرة وتعرف الرياض!
أيًا كان الخلاف في وجهات النظر أو في التموضعات الجزئية، فإن العلاقات المصرية – السعودية تبقى أكثر من استراتيجية لأمن المنطقة برمتها، وليس لأمن البلدين. هذا الإرث الاستراتيجي الذي بُنيت عليه مصالحة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر! هذا فصل من التاريخ طواه الرجلان ذات عناق في الخرطوم بعد نكسة عام 1967!
وهذا إرث استراتيجي لا يعرفه إلا من يعرف أن الملك سلمان بن عبد العزيز، قاتَلَ عام 1956 في السويس مع الجنود والضباط المصريين.
هذا ليس تاريخًا رومانسيًا فقط، بل تمظهرات لأسس عميقة تحكم، ويجب أن تحكم، التفكير الاستراتيجي المصري – السعودي.
في لقاء مع وزير الخارجية المصري في عهد الرئيس حسني مبارك، أحمد أبو الغيط، قال الوزير أمام مجموعة صغيرة من الزملاء الإعلاميين، ردًا عن سؤال أحدهم عن غياب الدور الإقليمي المصري، أو ضعفه: «عندي تلاتين مليون تلميذ عاوز أضمن وصولهم للمدارس، وعودتهم للبيت.. دي تحدياتي الاستراتيجية»! ما أراد الرجل قوله أن مصر لها أولويات ضاغطة داخليًا، لا تسمح لها بأدوار يشتهيها لها محبوها. هذا ليس تبريرًا. والمسؤولية عن هذا المآل ليست بعيدة عمن حكم مصر لعقود، ولكن هذا بحث آخر.
ضاعفوا هذه الضغوطات، واضربوها بمئات، والحاصل هو مصر اليوم، التي تأسرها خيارات لا نشتهيها لها!
العلاقات المصرية – السعودية أكبر من مغامرات إعلام مأجور لإيران أو متحمس عن جهل لكرامة المصريين الحادة التي لا ضرورة لاستفزازها.
«إحنا مش ناقصين»!
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”