هناهين الأعرس وزغاريدها.. طقوس الغواية ولهيب الحرب

georgekadrجورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا: التراصوت

أفرد العديد من الباحثين في التراث الشعبي لبلاد الشام كتبًا ودراسات عديدة للبحث في تاريخ “زغاريد الأعراس”، التي تسمى أيضا بـ”هنوهنة” و”الزلاغيط” التي تتغزل بالعروس أو العريس ليلة زفافهما، وأصل تسميتها وجمع الكثير منها.

تلك الزغاريد التي تستمر منذ مئات السنين، كانت النساء تطلقها في الأعراس والحروب

تلك الزغاريد التي تستمر منذ مئات السنين، والتي كانت إضافة للأعراس تطلقها النساء في الحروب والغزوات لرفع معنويات الرجال ودفعهم لخوض غمار الوغى كما يلفت الباحث محمود البكر في كتابه “أرجوزة المرأة في بلاد الشام “المهاهاة”؛ تبدأ بكلمة “أويها” أو “إيها” أو “ويها” أو “إيه” وتنتهي بإطلاق الزغرودة “لي لي ليش”. اللافت في تلك الدراسات أنها بحثت في جذور تلك التسميات ولكنها لم تدلنا على معنى “لي لي ليش”، وهو الصوت الذي تطلقه كل النساء المشاركات في الفرح للتعبير عن المشاركة الوجدانية بأصواتهن في العرس. وهو ما سنخصص له الحلقة القادمة من بحثنا في تاريخ الكلمات.

كلمة الزَّغْرَدَةُ في لسان العرب: هدير يردده الفحل في حلقه. في كتابها الممتع “زغاريد الأعراس في بلاد الشام” (الهيئة السورية للكتاب، 2010)، تقول الدكتورة كاترين صادر إن أصل المادة “زغد”: ويقال زغد البعير وزغرد وزغدب بمعنى واحد؛ وهو الهدير يتقّلع من صدره أو حلقه. وكذلك فإن زغردة النساء هي أصوات تقعّرها وتعصرها في حناجرها مضغوطًا عليها. والظاهر أن العامة قالت في زغرد وزرغد ثم جعلت اللام مكان الراء والطاء مكان الدال، فكانت “الزلغوطة” المحرفة عن كلمة زغردوة في اللهجة العامية. وكلمة “الهنهونة” وفصيحها هلهل، وهلهل فلان فلانًا: لامه في عنف أو زجره في شدة، وهلهل ملابسه: قطعها في غير نظام فجعل منظرها سخيفًا. والملابس المهلهلة: سخيفة النسج. وهلهل الصوت: رجّعه.

ويرى القس جرجس شلحت أن الهنهونة لفظة سريانية أصلها “هو نايا” ومعناها “نهنئة” وقد صغّرت فأصبحت “هو نايونا” أي “تهنئة صغيرة”. ويقدم عليها لفظة “إيها” وهي اللفظة نفسها التي تستعمل في كل مناطق بلاد الشام بلهجات مختلفة، وهي أيضًا مشتقة من السريانية “أها” ومعناها “نعمَّ”.وقد حملت كلمة الآويها: عدة أشكال لفظية وكتابية منها: إيها، أُوها، آوها، أيه ويها، أي، وأويها، وآويها، وغيرها كثير… ولعل هذا يرجع في بعضه إلى جهل تام بمصدر أو منبع هذه الكلمة معجميًا.

ويرى البعض أنها محرّفة عن كلمة “ها هو” ويرجح في تحليلها أنها تعود إلى لقيا آدم عليه السلام بحواء، حيث بادرت عند رؤيتها له بقولها “ها هو”. بينما يقول البعض الآخر أن أصلها “قوّوها” أي ارفعوا أصواتكم أكثر. وأما في “لسان العرب” فيشرح ابن منظور أن “أوَّه، وآّه، وأوْه” كلمة معناها الحزن لفقد الشي. وأنّ “إيّه”: تعني صوّت/ و”أيها” بمعنى هيهات، وأنك إذا أردت إغراءه قلت “وَيْها”. ولعل لفظة “أويها” دمج لكلمتين ومعنيين، يراد بالأول: الحزن لمغادرة العروس منزل أهلها وما سيخلّفه هذا من فقد واشتياق لها. ويراد بالثاني: إسكات لهذا الحزن، ودعوة إلى الإغراء بالفرح. وهكذا تكون هذه الكلمة مزيجًا من “أوّه و”أيّه معًا.

الهلاهيل والهلا، مشتقة من فرح الناس في مناسبات كانوا يعتبرونها مصيرية في حياتهم

في العديد من الأبحاث التي اطلعت عليها، ثمة خلط بين الزغرودة والهنهونة، رغم أنه من الواضح أن الزغاريد هي الصوت الذي تطلقه النساء وليس هو النص الذي تقوله وهو “الهنهونة أو الهلهولة”، ففي لهجة أهل مصر مثلًا “زغردوا يا نسوان”، وفي لهجة أهل الشام “زغلطوا يا نسوان”، والأغنية الشهيرة الشعبية: “يام العريس/العروس زغردي ولالي جيتك كنّة يا بدر الهلالي”، أي أطلقي هديرك ليعلم الجميع بمقدم عروس ابنك، وفي لهجة أهل درعا في الجنوب السوري هناك مثل شعبي يقال لمن سيذهب إلى الجيش أو الذي ذهب ولن يعود “زغرديلو يا دلال قطع الرق وراح شمال”… فهي بهذا المعنى تطلق أيضًا في الحزن وليس في الفرح فقط.

أما كلمة الهنونة فالكلمة واضح أنها تحريف عن الكلمة الفصحى “الهلهولة” والهلاهيل أو الهناهين: هي رفع الصوت بالتلبية ومنها “الإهلال: التلبية في الحج”، كما جاء في لسان العرب “هلل”.

نقرأ لعيد مرعي في كتابه “اللسان الأكادي” (الهيئة السورية العامة للكتاب، 2012″)، ص 117، ألالو “هَلالو” Alālu: في اللغة الأكادية تعني هلَّل، عبّر عن الفرح بالغناء، لا سيما وقت العمل. وبالعبرية “هيلليل”، والسريانية “هَليل”، والعربية هلل، وأصل الإهلال: بالعربية: رفع الصوت، وهلل: هَلَّ السحاب بالمطر وهَلّ هَلًا، وانهل بالمطر انهلالًا، واستهل: وهو شدة انصبابه، والهَلَلُ: أوَّلُ المَطَر. واستهل الصبي بالبكاء: رفع صوته وصاح عند الولادة “وهي بشرى خير”.

وأضيف على ما ذكرته في بحثي السابق “تاريخ مرحبا” عن شرح كلمة “هلا” من أن كلمة الهلاهيل والهلا، مشتقة من فرح الناس في مناسبات كانوا يعتبرونها مصيرية في حياتهم، ومنها “هلاهيلهم” بقدوم المطر ما يعني قدوم الخير لاسيما أن الهلاهيل كانت جزءًا أساسيًا من طقوس الاستسقاء، وهلاهيلهم أيضًا عند ظهور الهلال بعد اختفاء ثلاث أيام كل شهر وعلاقته بالدورة الشهرية للمرأة ما يعني انتهاء أيام الشؤوم وعودة الخصب بظهور الهلال وبدء رحلته في كبد السماء. وكلمة “هلا” التي نستقبل بها شخص ترحيبًا تعني فيما تعنيه: أهلًا، لقد هلّ قمرنا.

كانت الهلاهيل جزءًا أساسيًا من طقوس الاستسقاء، وانتهاء أيام الشؤوم وعودة الخصب بظهور الهلال

وعليه ففي الزواج يهلل القوم فرحًا ويزغردون برفع الصوت للإعلام عن عقد القران بين فلان وفلانة، ومن الشائع أن الهلاهيل هي التي يستهل بها فرح القوم بذكر محاسن العروس والفخر بالعريس.. إلخ، ومما يدعم وجهة النظر هذه هو أن الهلاهيل تستهل بكلمة “أويها”، يقول ابن منظور في معجمه “لسان العرب”: إيه: فإِذا أَسْكَتَّ فلان وكفَفْتَهُ قلتَ إِيهاً عَنَّا، فإِذا أَغْرَيْتَهُ بالشيء قلت: وَيْهًا يا فلانُ، فإِذا تعجبت من طِيب شيء قلتَ واهًا ما أَطْيبهُ”.

وكلمة “ويها” تفيد معنى تبيه فلان، وهو العريس هنا لإغرائه بالعروس، والعكس أيضًا، كي ينجحا في إتمام طقس الزواج على أتم وجه. هذه هنوهنة/هلهولة شامية:

آويها العيون عيون المها وسنان لولو ضمّ
آويها والخد زهر الورد من خلفها نفر دم
آويها يا ريت جسمي معك عالفرش ينضم
آويها يا وردة جورية هي النظر والشم
لي لي لي لي ليش

هنوهنة للعريس:

آويها حبيبي مع أميال الهوا يمشي
آويها خصره رقيق وزنّاره ذهب محشي
آويها من نار قلبي اندهت العفو يا ربي
آويها كان القمر بالسما شو نزّلو يمشي
لي لي لي لي ليش

ولنلاحظ أن هناهين/هلاهيل الأعراس تختم دائمًا بزغرودة العرس “لي لي ليش”، وسنجد في بحثنا المقبل عن تاريخ “لي لي ليش” علاقتها العضوية والمعرفية بكلمة هلاهيل.

This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.