كتبت مرارا، بكل قناعة، أن المسؤول هو الرجل. هتلر، لا الألمان. موسوليني لا الإيطاليون. ستالين لا السوفيات. هولاكو لا التتار. وكذلك في الاتجاه الآخر: إبراهام لنكولن. شارل ديغول. كونراد أديناور. الإسكندر. أعتقد أن عليّ إعادة النظر. الشر لا يمكن أن يكون فرديا ولا الخير. هناك موجات من الجنون والعماء يسنها رجل واحد ويقدمها ويصبح عنوانا لها، لكنها موجات جماعية عامة والدليل ما يبقى منها بعد غياب الرجل بكثير، سواء على فراشه مثل ستالين، أو منتحرا في خندقه مثل هتلر، أو معلقا من ساقيه مثل موسوليني.
يسافر نورمان كوروينز، أشهر كاتب في العصر الإذاعي، إلى إيطاليا إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية فيجد في روما مجاعة وبطالة وفقرا وشعبا مهزوما. ويتأمل الشرفة في «قصر البندقية» التي كان يقف عليها موسوليني يخطب في الناس معلنا تمجيد الحرب وفشل الديمقراطية، ويعدهم بأنهم إذا أعطوه حرياتهم وأغلقوا أفواههم وقتلوا في إثيوبيا وليبيا، فسوف يعيشون سعداء إلى الأبد.
ترك خلفه إمبراطورية مهدمة ومدنا خربة وعشرات آلاف القتلى والمصابين. لكنه ترك خلفه أيضا عددا لا يحصى من الفاشيين الذين اكتشف كوروينز أنهم لا يزالون يعتقدون أن موسوليني هو الرجل الأفضل، وأن الفاشية سوف تعود ذات يوم. ثمة دراسات لا نهاية لها حول شرح الطبيعة البشرية ونفسية الجماهير، لكنها لا تفسر كيف يظهر رجل مثل هتلر في بلد مثل النمسا ولا كيف يقود شعبا مثل الشعب الألماني وعباقرته ونخبه.
يقول كوروينز إن الإيطاليين الذين التقاهم كانوا في رث ويأس وهزيمة، ومع ذلك كانوا لا يزالون يتحدثون عن موسوليني بلغة الحاضر والمستقبل. الظواهر التي شهدناها في العالم العربي، لا شرح لها. المشكلة ليست في الرجل، فهو حالة فردية، لكنها في الجماعات. صبرت ليبيا على حكم معمر القذافي أربعة عقود، والآن غير قادرة على إقامة جيش وقوى أمن. لم تعد هناك حالة هستيرية تريد توحيد أفريقيا، ولكن ظهر من يريد تفكيك وحدة البلد والعودة إلى أقاليم برقة وطرابلس وفزان.
كم ظاهرة جماهيرية بانت وغابت في العالم العربي؟ كم رجلا مُجِّد ثم لُعن؟ كم عدد الآيديولوجيات التي سارت خلفها الجماهير ثم سارت ضدها في اليوم التالي؟ المشكلة ليست في أن الرجل يصدق نفسه ومطبليه، بل في أن الجماعات تصدقه وتكذب نفسها. ثم تبدأ من جديد.
منقول عن الشرق الاوسط