الرأي العام، مثل قطيع الخراف، يقاد ولا يقود، وما نراه من رفض وغضب واحتقان واتهامات ليست إلا نتيجة للمزاج السياسي لتلك اللحظة. وهذا ينطبق على العلاقات العراقية السعودية التي عاشت فترات اضطراب متعددة، وسممت خلافاتها المنطقة كلها.
عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، فاجأنا بظهوره أمس في بغداد بعد هجران دام ربع قرن. مبادرة مهمة في ظروف، بالفعل، تستوجب إصلاح علاقات البلدين التي لا يوجد فيها خلافات مهمة حتى تتدنى إلى هذا المستوى.
بكل أسف التوتر ليس جديدًا، بل له تاريخ بعيد. وبغض النظر عن شعارات المواسم السياسية والدعائية، مثل أن العراق حامي بوابة الخليج الشرقية، ومركز استقراره، فإن الخلافات مع بغداد قديمة ومتكررة وكانت مصدر قلقل وحروب وغالبًا نتيجة مشكلات الحكم الداخلية.
ففي الستينات والسبعينات، بوصول حزب البعث للحكم كثرت معاركه الداخلية، وفتح الحكم الجديد أزمة مع السعودية، التي كانت قد أنجزت مصالحة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر في قمة الخرطوم عام 1967، وقام البعث حينها بشن حملات دعائية ضد السعودية تحرض على الانقلاب، واحتضن معارضين سعوديين في بغداد. وساءت العلاقة لنحو عشر سنوات، ولم تتحسن إلا بعد أن قرر صدام حسين الالتفات إلى إيران بعد سقوط الشاه في أواخر السبعينات.
في بداية تلك الحرب، كانت السعودية قلقة من أي انتصار يحققه صدام لأنه يعطيه تفوقًا يهددها أيضًا. إنما، بعد تراجع قواته وإصرار نظام الخميني على استمرار الحرب، لم يعد أمام الرياض إلا مساندته بطريقة غير مباشرة، وكذلك فعلت الولايات المتحدة، التي وجدت أن رجال الدين الإيرانيين المتطرفين أكثر جنونًا وخطرًا من بعثيي بغداد. ودامت العلاقة ودية مع نظام صدام حتى توقفت الحرب، حيث التفت مرة أخرى إلى دول الخليج وعاد يفتعل مشكلات معها. لم يرق له أنها أسست «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» من دونه، واعتبرها خديعة، وأن الخليجيين استغلوا انشغاله بالحرب مع إيران لبناء حلفهم الإقليمي. بدأ يتقارب ببطء مع عدوته إيران، وشكل منظمة مضادة سماها «مجلس التعاون العربي» بما يوحي بأنه موجه ضد السعودية ودول الخليج. ثم افتعل خلافين؛ الأول حول حصص إنتاج النفط، مستهدفًا الكويت تحديدًا، والثاني لجأ للابتزاز مدعيًا حاجته لمزيد من الدعم المالي. ثم احتل الكويت. عُرف صدام بشخصيته العدوانية، سواء ضد خصومه أو رفاقه في حزب البعث أو حتى أفراد عائلته، وبسبب شخصيته استمرت علاقة السعودية مع بغداد سيئة بعد حرب تحرير الكويت لاثني عشر عامًا. وكانت المعارضة العراقية تلتقي في الرياض، ضمن عواصم أخرى، متوقعة أن يفتعل صدام أزمة بمجرد رفع الحظر الدولي عنه. وفِي النهاية قرر الأميركيون التخلص من نظامه، بعد أن فشلت العقوبات الاقتصادية في إسقاطه أو احتوائه، ولم تكن أسلحة الدمار الشامل إلا ذريعة لهم لحسم الوضع عسكريًا.
بعد أن ذهب صدام، حل محله مجلس الحكم «الأميركي» في بغداد، لكنه لم يستطع، هو الآخر، طمأنة الرياض التي توجست خيفة من المشروع الأميركي، وامتنعت عن التعاون معهم، وهنا دخلت إيران على الخط تعرض تعاونها مع القوات الأميركية هناك. وعندما رفضت السعودية السماح للأميركيين باستخدام قاعدتهم العسكرية في الخرج في السعودية لشن الحرب، أيضًا عرضت قطر تعاونها، فسحبوا قواتهم منها وبنوا قاعدة بديلة لهم في قطر، التي أصبحت مركز عملياتهم العسكرية في العراق وأفغانستان.
دبلوماسيا، ظلت العلاقات السعودية دبلوماسيا شبه معدومة مع القيادات العراقية الجديدة، حتى لا تعطي الشرعية للنظام الجديد تحت الوجود العسكري الأميركي، وفي الوقت نفسه لم تكن خصمًا لها. وساءت أكثر في فترة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وعندما خرج، وانتخب محله حيدر العبادي، رحبت به السعودية لكن خصوم العبادي من بينهم المالكي، وكذلك إيران، أفلحوا في إضعاف حكومته، ولم ينجح في تطوير علاقاته الخارجية، رغم عودة السفراء.
زيارة الوزير السعودي الجبير لبغداد خطوة دبلوماسية مهمة، قد تتجاوز أبعادها العراق، في وقت صعب، تحتاج فيه المنطقة إلى التعاون لتقليل التوتر والفوضى والإرهاب واحتمالات فتح مزيد من جبهات الحروب.
نقلاً عن الشرق الأوسط