لو نجح عبد الرحمن الغافقي بفتح فرنسا في القرون الوسطى العربية، لكانت أوروبا اليوم تصوم رمضان. وتصلي الصلوات الخمس. وترفل مارين لوبين تحت النقاب. وتزور الناخبين بيتاً بيتاً، داعية إلى السماح لها بأن تخلف الرئيس فرنسوا هولاند.
لا أظن أن هناك قرابة عائلية بين هولندا والرئيس هولاند. لكن أعرف وأتابع هذا البلد الأوروبي ذا الأرض الواطئة، والأخلاق الراقية، وهو يخوض تجربة تعايش سلمية وحضارية بين الإسلام والمسيحية، على الرغم من أن غيرت فيلدرز أساء إلى سمعة بلده في العالم. فخاض الانتخابات التشريعية، متعهداً بأن يغلق حزبه (الحرية) المساجد. ويمنع وصول المهاجرين من مائة بلد في العالم، لها جاليات مقيمة في هولندا. وتحمل الجنسية الهولندية. وبينها أكبر الجاليات. وهي التركية التي تضم 400 ألف تركي/ هولندي.
يعيش 17 مليون هولندي تحت مستوى البحر. بينهم أكثر من تسعة ملايين ناخب مخولين بانتخاب برلمان يضم 150 نائباً فقط. ونجح حزب رئيس الحكومة مارك روتي غير الراضي عن كثافة وجود المهاجرين، بالاحتفاظ لحزبه بالمركز الانتخابي الأول، مع خسارة عدد قليل من المقاعد. فقد قام بمناورة انتخابية بارعة، مانعاً وزراء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من زيارة الجالية التركية الضخمة، لحثها على التصويت لهذا الطيب الراغب في أن يصبح رئيساً لتركيا بسلطات وصلاحيات مطلقة.
المدهش أن بلداً أوروبياً كهولندا يفخر بعرقه الأبيض. وتقاليد جنسه الآري الذي يحزم وسط أوروبا. وتختلف تقاليده عن تقاليد البلدان التي صدَّرت مهاجرين إليه، يسمح بانتخاب عربي رئيساً لمجلس النواب. واختيار عربي آخر عمدة لروتردام ثاني أكبر مدينة هولندية، بحيث يباهي بديمقراطيته المستقرة منذ أكثر من مائة عام.
وفي هولندا، رجال مال وأعمال عرب يعملون في القطاع الاقتصادي/ التجاري. ويلتزمون بالتقاليد الهولندية العريقة. ويتكلمون الهولندية بطلاقة. وفيها أيضاً عمال عرب يجدون عملاً. ولا يتعرضون للحصار. والكآبة. والبطالة في ضواحي المدن، لمجرد كونهم عرباً أو مسلمين.
وصلت الجالية الإسلامية الأولى في بدايات القرن العشرين، من إندونيسيا؛ البلد الإسلامي الأكبر في العالم (حالياً 249 مليوناً). وكانت تحكمه هولندا؛ الدولة «الاستعمارية» التي لا يزيد عدد سكانها آنذاك على ثمانية ملايين إنسان. ثم توالى وصول المسلمين. فجاء العرب المغاربة والأتراك، كعمال في الخمسينات والستينات، في فورة الازدهار الاقتصادي في أوروبا.
وفي القرن الحادي والعشرين، وصل جيل جديد من بلدان المشرق والمغرب العربيين. لكن الأحزاب الشعبوية والعنصرية الهولندية تزعم أن شباب هذا الجيل يرتكب جرائم. ولا ينسجم مع التقاليد. والتعايش بين الهولنديين والمهاجرين. وهناك هيئة اجتماعية في الشرطة الهولندية تدرب أفرادها على التعامل بلطف مع المهاجرين العرب الجدد. ويتسامح الهولنديون مع السوريين. ويدركون مأساتهم. ويمارسون غضبهم على النظام الذي يقتل ويبيد شعبه.
ليس هناك إرهاب ديني في هولندا، لعدم قدرته على العيش، في ظروف التعايش السلمي المشترك. ولتحسن الوضع المعيش لدى العرب. والأتراك. لكن العنف الديني العابر تمكن من اغتيال زعيم حزب عنصري اسمه بيم فورتين الشبيه للسياسي الحالي غيرت فيلدرز زعيم حزب «الحرية» العنصري الذي يصبغ شعره بصباغ ذهبي، ليخفي أصوله الإندونيسية التي يتحدر منها.
كما اغتيل أيضاً المخرج السينمائي تيو فان غوخ الذي أخرج أفلاماً زعم فيها أنه يدافع عن المرأة العربية والمسلمة. فينتقد جرائم الثأر والشرف. وزواج الفتيات المراهقات بالإكراه. والتقاليد الشرقية والدينية المحافظة.
الظاهرة الشعبوية المزدهرة في الولايات المتحدة عبرت الأطلسي سباحةً إلى أوروبا، لتخترق الليبرالية السياسية. والاقتصادية. والعولمة. هذه الظاهرة شجعت العنصريين والشعبويين الأوروبيين على الضيق بعرب أوروبا ومسلميها البالغ عددهم نحو 30 مليون مسلم. فلم تعد إقامة العرب في أوروبا ظاهرة رومانسية. فالشوارع، والأندية تغص بالعرب. وتستطيع أن تسمع اللهجات العربية كلها حيثما توجهت.
ينفرد عرب هولندا ومسلموها عن معظم عرب ومسلمي أوروبا، بعدم الانغلاق. وبعدم العيش في «غيتوهات» العزلة. والكراهية. والحقد. فهم مقبلون على الحياة. والتعايش. لكن ما زالوا متهمين بعدم الاندماج، بما فيه الكفاية، لقاء سخاء التقديمات الاجتماعية التي يحصلون عليها.
الحوار السياسي والاجتماعي في هولندا يدور حالياً حول هذا الاتهام. غير أن هناك في الطيات الاجتماعية للعرب والمسلمين المقيمين إرهاصات للإسلاميين المتزمتين (الظاهرة معروفة لدى الإسلاميين المتزمتين في بلدان أخرى في غرب أوروبا) عن إمكانية أسلمة أوروبا، استغلالاً لهذه الهجمة العربية والمتأسلمة للوصول علناً وخفية لأوروبا، هرباً من الأوضاع الدموية والبائسة في المجتمعات الإسلامية.
هل يمكن حقاً أسلمة أوروبا وتعريبها؟ على العكس، هناك في المقابل رفض أوروبي للوجود العربي والإسلامي في أوروبا، ينمو مع الظاهرة الشعبوية والعنصرية. لكن حلم الأسلمة يراود «غيتوهات» المتزمتين من المسلمين. والأحزاب. والتنظيمات الدينية المنغلقة، بما فيها الإسلام التركي في أوروبا.
هل في طموح الرئيس إردوغان أسلمة أوروبا؟! بالطبع، إردوغان لا يقول ولا يتصرف على هذا الأساس. كل ما يريده نيل أصوات نحو أربعة ملايين تركي يقيمون في ألمانيا. وهولندا. وسائر أوروبا، لتأمين الأغلبية المطلقة، الضرورية لتعديل الدستور التركي. وتحويله من «برلماني» إلى «رئاسي». إردوغان يريد ضبط الداخل التركي ضد ظاهرة الانشقاق الكردية. والنشاطات الدينية المتزمتة للإسلامي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن. والعمليات الانتحارية «الداعشية».
أخيراً، نعم هناك تفكك سياسي واجتماعي في القارة الأوروبية العجوز. لكن أوروبا ليست قطيعاً من الماشية صالحاً للاستهلاك والالتهام، كما يحب ترمب أو إردوغان. أوروبا تاريخ. وفكر. وثقافة، ازدهرت خارج «الغيتو» الديني والكنسي أو «اليهودي» في القرون الوسطى. وهي في عصر التنوير، تعتذر شيئاً فشيئاً عن حروبها الصليبية واستعمارها اللذين حاولت فرضهما على العرب والمسلمين والعالم، منذ نحو مائتي عام.
يبقى، في ظني، على إردوغان أن يغامر بتتريك ثلاثة ملايين لاجئ سوري لديه مستعدين لمبايعته، إذا ما وزع عليهم بطاقات الجنسية.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط”