سركيس نعوم
عام 1992 قررت الحكومة اللبنانية إجراء انتخابات نيابية عامة بعد 20 سنة من التمديد لمجلس النواب. لكن الموقف الذي فاجأ أركان الدولة، كما الجهات العربية والدولية التي ساهمت في إيقاف الحرب وبدأت ترعى عملية الانتقال إلى السلام، كان الذي اتخذه البطريرك الماروني في حينه مار نصرالله بطرس صفير الذي قضى بمقاطعة المسيحيين الانتخابات. علماً أنه كان الموقع المسيحي الأبرز والأهم الذي استُشير يوم كان اتفاق الطائف قيد التحضير، والذي غطّى لاحقاً موافقة النواب عليه أولاً في السعودية ولاحقاً في جلسة رسمية لمجلس النواب. وهي تغطية دفع ثمنها تعدّياً مباشراً عليه. ودفع موقفه هذا جهات مسيحية أخرى وازنة مثل حزب الكتائب وتنظيم “القوات اللبنانية” إلى تبني قراره مقاطعة الانتخابات على رغم أن بعضها دفع دماً غزيراً ومعه المسيحيون على تناقض انتماءاتهم السياسية جراء اشتراكه مع بكركي في تغطية الطائف. وقد جعلت المواقف المذكورة المقاطعة المسيحية شبه شاملة إذ شارك فيها أيضاً مناصرو العماد ميشال عون الذي “نُفي” من لبنان جراء رفضه الاتفاق وتمرّده على الشرعية المنبثقة منه. طبعاً بُررت المقاطعة في حينه في الاعلام وفي المواقف السياسية بالقول أن هدفها حماية دور المسيحيين في النظام اللبناني “المعدّل” وجعل مشاركتهم فاعلة وخصوصاً بعد وضوح الدور السوري المتدخّل حتى الهيمنة في إدارة البلاد. وتجاوبت معها غالبية “الشعب” المسيحي. ولم تنفع محاولات رعاة الطائف من عرب وأجانب في إقناع المقاطعين بالتراجع عن موقفهم. ولكن مع مرور الوقت بدأ المقاطعون يشعرون أنهم تسببوا بضرر كبير لدور المسيحيين في البلاد، إذ تركوا الدولة وإداراتها للمسلمين على تنوّعهم، وللمسيحيين المتحالفين معهم ومع سوريا، والمدينين لهم بأكثريتهم في الوصول إلى كراسي النيابة والوزارة وغيرها. وبما أنهم لم يكونوا يمثّلون غالبية المسيحيين التي “احتكر” تمثيلها “القوات” والكتائب وبكركي من جهة والعماد عون من جهة أخرى صار القرار المسيحي في الدولة ضعيفاً ومعه الدور والمشاركة. وبدأ يتكوّن فراغ ملأه الآخرون. وأدرك المسيحيون متأخرين أن الفراغ لا يدوم. لكن نتيجته السلبية بالنسبة إليهم ما كان ممكناً العودة عنها.
لماذا هذا الكلام الآن؟
لأن المسيحيين اللبنانيين اليوم أمام استحقاق مماثل في أهميته وتاريخيته. فرئاسة الجمهورية التي يشغلها ماروني منهم شاغرة. والأمل في ملئها قريباً صار ضئيلاً جداً. ومجلس النواب تقارب ولايته الانتهاء. ويتعذّر إجراء انتخابات نيابية بسبب الوضع الأمني المتردي والمرشح لأن يصبح أسوأ. وتلافياً للفراغ النيابي يرى المسلمون في لبنان على تناقضاتهم ضرورة التمديد للمجلس الحالي. ويرفض قسم من المسيحيين ذلك بإصرار. ويتفهّم قسم آخر منهم ضرورة التمديد. لكنه، وبسبب المزايدات السياسية من الرافضين وحرصاً على “أصوات الناخبين” المسيحيين، يجد نفسه محرجاً ومضطراً إلى رفض التمديد. والمرجعية التي يفترض أن تكون لها الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع وهي بكركي يبدو أنها تميل إلى الرفض بحسب تصريحات سيدها البطريرك الراعي تماماً مثلما فعلت بكركي البطريرك صفير قبل 22 سنة. والرفض المسيحي الشامل للتمديد سيدفع رئيس المجلس نبيه بري إلى عدم تعيين جلسة للتمديد لسبب ميثاقي. والفراغ النيابي يجعل انتخاب الرئيس الماروني متعذّراً، وتشكيل حكومة جديدة مستحيلاً، أي يسقط نظام الطائف قبل الاتفاق على بديل أفضل منه، وفي وضع اقليمي متأجّج سمته الأساسية تفتيت الكيانات وانهيار الأقليات فيها. أما الرفض الجزئي فقد يجنب البلاد الفراغ الشامل لكنه لن يعوّض خسائر المسيحيين أذ يظهر ضعف قادتهم الكبار وعدم وضوح خياراتهم، وتقلّب مرجعياتهم الروحية وعدم رسوِّها على موقف أو قرار أكثر من أيام قليلة.
طبعاً واضح من هذا الجواب تأييد للتمديد لمجلس النواب. لكن دافعه ليس الثقة بغالبية اعضائه ولا بنشاطه، بل تلافي الفراغ وعدم اعطاء من يريد تأسيساً جديداً للبنان فرصة للمحاولة. إذ أي لبنان جديد قد يأخذ أكثر من المسيحيين ولا يعطيهم شيئاً. والتقسيم الذي ربما يحلم به البعض، والذي قد يتحقق في بعض المنطقة الملتهبة، لن يشمل بنعمته مسيحيي لبنان. علماً أنه نقمة وليس نعمة.