إذا كنتُ أدرك طريقة تفكير اللبنانيين – وأزعم أنني أدرك، كوني منهم – فأنا أتوقّع أن يكون رد الفعل الأولي للعنوان الصادم الذي اخترته هو: مَن أنت أصلاً لكي تعلّمنا؟ هل تعوزنا الكفاءات والعقول كي تعطينا أنت «غير المسيحي» محاضرات في السياسة؟
هل نضب معين الإبداع الذي يتنفّس حرّية (ولو كانت فوضوية) ويأكل ويشرب ديمقراطية (ولو أنها انتقائية ومُجحفة ولا مسؤولة) داخل المجتمع المسيحي… ذلك المجتمع الذي «حوّل صخور لبنان إلى بساتين»، وشحّ موارده إلى ثروات، والهجرة الاضطرارية منه إلى ملاحم نجاح؟
الحقيقة، أن هناك سببين لكتابتي هذه الكلمات: الأول أن مصير لبنان، المرتبط عضويًا بمحيطه الإقليمي، أضحى على كفّ عفريت. والثاني حرصي على وجود مسيحي حضاري كفل ويكفل للبنان فضائل التسامح والتعايش والتفاعل الثقافي، وأغنى ويغني تجربته السياسية وعافيته الاقتصادية منذ قرون.
غير أن ما يثير القلق هذه الأيام أن أولئك الذين يدّعون حصرية التكلم باسم المسيحيين ويتباكون على «تهميشهم»، فيطالبون تارة بـ«عدالة التمثيل» وطورًا بـ«الميثاقية»، هم في طليعة مَن يسيء إليهم ويهدّد مصالحهم على المَديين القريب والبعيد. لا بل إن هؤلاء، بالذات، الذين يمعنون في تزوير الحقائق وتجاهل الواقع للوصول إلى غايات شخصية، يتجاهلون عمدًا وجود الخطر الفعلي الأكبر الذي يهدّد الوجود المسيحي، ويمهّد أيضًا لاقتلاع معظم الأقليات الصغيرة وتهجيرها، ألا وهو الفهم الخاطئ لحركة التاريخ.
اليوم يشكّل «التيار الوطني الحر»، الذي يتزعمه النائب ميشال عون ويترأسه «صهره» وزير الخارجية جبران باسيل، نسخة متطرّفة من «ذهنية سياسية» مريضة ترفض أن تعي الثمن الباهظ لرهاناتها. «ذهنيات» من هذا النوع لا تتعلم ولا تتّعظ. وللأسف، شهد تاريخ لبنان محطات مؤلمة في كل مرة طغت فيها مثل هذه «الذهنيات» في البيئة المسيحية، فهيمن التفكير الكيدي والجموح الطائفي، وتمكّن من استثارة الغرائز وابتكار العداوات وتجييش الجهلة والمتعصّبين، وزجّ بالمسيحيين في حروب عبثية لا طائل منها.
مع «ذهنيات» كهذه.. أي بحث منطقي لا يمكن أن يفضي إلى نتيجة. والدليل أمامنا التناقضات الصارخة، كما أن يكون «التيار» العوني في الوقت نفسه عضوًا في سلطة ومعارضًا لها وعاملاً على إسقاطها.
وأن يدّعي إيمانه والتزامه بـ«السيادة» و«الاستقلال».. وفي المقابل يغطّي الاحتلال المسلح والهيمنة الأمنية لميليشيا دينية مذهبية تأتمر بأوامر خارجية عبر «ورقة تفاهم» لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به.
وأن يتباكى على «الميثاقية» – أي احترام حقوق الطوائف الدينية في ظل التوافق والدستور وعُرف «الميثاق الوطني» – وهو الذي يشوّه كل يوم وفي كل مناسبة وصف طبيعة صلاحيات «الرئاسات الثلاث» (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة) لتبرير الانقلاب على الدستور.
وأن يتشدّق بالديمقراطية ومؤسساتها.. وهو الذي لا يكاد يخرج من الشارع حتى يعود إليه مستفِزًا ومحرّضًا ومعطلاً ومشاغبًا.
وأن يطالب بـ«إعادة الحقوق» و«رفع الظلم» وهو الذي يمارس بالقول والفعل التمييز شبه العنصري ضد من قرّر أنهم «أعداء» من اللبنانيين وغير اللبنانيين.. وآخرهم ضحايا طغمة بشار الأسد من النازحين واللاجئين السوريين.
«تيار» ميشال عون، الذي وجد رئيسه وزير الخارجية جبران باسيل، بالأمس، الوقت الكافي لاستنكار تجربة كوريا الشمالية النووية في الشرق الأقصى، يتجاهل مأساة سوريا عبر الحدود. المأساة التي تجسّدت حتى الساعة بقتل أكثر من نصف مليون إنسان وتهجير نحو 12 مليونًا آخرين، وتدمير عشرات المدن والقرى، واستدعاء الطائفيين والمتطرّفين من كل الملل والنحل إلى البلاد.
ثم، في إغفال غريب لمنطق «السببية»، يتجاهل «التيار» دور ميليشيا «حزب الله» – اللبناني شكلاً والإيراني مضمونًا – في قتل السوريين وتشريدهم وتهجير نحو مليون منهم إلى الداخل اللبناني، لكنه يضجّ ويعترض ويرفع الشعارات العدائية ضد هؤلاء المهجّرين وكأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم هذا المصير، وليس الميليشيا التي تحالف معها «التيار» مستجديًا رئاسة جمهورية هزيلة تحت سطوة «مرشد» تلك الميليشيا.
كذلك يسعى «التيار» بهمة «الوزير الرئيس» إلى استعادة أجيال من المُغتربين اللبنانيين في ديار الهجرة البعيدة (ونسبة عالية منهم من المسيحيين) جنسيتهم اللبنانية، لكنه يتناسى تسابق عشرات الألوف من اللبنانيين المسيحيين على مغادرة لبنان بحثًا عن لقمة عيش كريم بعدما دمّرت إيران عبر أداتها «المقاوِمة» – حليفة «التيار» – قطاعات الخدمات والسياحة والتعليم والاستشفاء وكلها قطاعات يلعب فيها المسيحيون عبر العقود الدور المحوري. وفي السياق ذاته، يتناسى أن معركة إيران لـ«تحرير» سوريا من السوريين تمهيدًا لاستيطان أجزاء منها… هي التي تؤدي إلى هجرة اللبنانيين ونزوح السوريين الذي يرى فيه «التيار» تهديدًا لـ«الوجود المسيحي» يستحق التباكى عليه!
وهنا، قد تفيد الإشارة إلى خطأ تعاون بعض المسيحيين مع إسرائيل وتعاطفهم معها ضد اللاجئين الفلسطينيين مع أن إسرائيل هي التي أخرجتهم من ديارهم. وهذا طبعًا، قبل مرحلة الكفاح المسلّح الذي اخترقته عدة أجهزة أمنية عربية لاحقًا.
إن رفض الاتعاظ والتعلم من الرهانات الخاطئة وتوهّم التحكم بزمام اللعبة الدولية، أوقعا بعض المسيحيين في أخطاء «وجودية» ماضيًا وتتكرّر حاضرًا. وهذا ما يفسّر مغامرة هؤلاء بالتحالف مع إيران في حربها المذهبية على امتداد العالم العربي، وتسويغ قيادات مسيحية «تحالف الأقليات» ضد محيط من المسلمين العرب السنة بذريعة «الحالة الداعشية» الناشزة أصلاً والمشبوهة حقًا.
إنني أتفهم، كباحث يعرف عن «المسألة الشرقية» إبان العهد العثماني، أن المشرق العربي يمرّ حاليًا بحقبة خطرة على «الأقليات»، مسلمة وغير مسلمة. كما أشعر بمرارة الصغار لعجزهم عن التحكّم بإيقاع «لعبة الكبار» والتأثير على خرائطها عندما ترسمها المصالح الدولية.
غير أن الحكمة تقضي بأن تتحاشى الأقليات، عمومًا، والمسيحيون في هذه الحالة، رفع السقف والمجازفة بالمصير بناءً على حسابات مغلوطة.
عليهم التذكّر أن التطرّف الإسلامي موجة طارئة ظهرت دائمًا في فترات الانحطاط والوهن، بينما كان التسامح والاعتدال السمة الغالبة للدول الإسلامية في عهود ازدهارها وقوتها.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”