ما يزال البعض حتى اليوم يراهن على إمكانية فك الارتباط بين “الطائفة العلوية” وبين نظام الأسد بدمشق. وتعلو أسهم هذه المراهنة كلما بدت مؤشرات تململ أو استياء في أوساط “الطائفة” حيال أداء حكومة الأسد وسط ارتفاع وتيرة سقوط القتلى من أبنائهم في الجيش والقوى الأمنية والميليشيات غير النظامية.
لكن المشكلة الرئيسية في هذه المراهنة كانت، وما تزال، نوع الطرح بخصوصها. إذ لطالما كان التساؤل: هل ينقلب العلويون على الأسد؟، أو: متى يمكن أن ينقلب العلويون على الأسد؟. لكن يندُر أن طرح أحدهم التساؤل على الشكل التالي: هل يستطيع العلويون الانقلاب على الأسد؟
قد يُدرج البعض صيغة السؤال الأخير في سياق مساعي بعض المثقفين من أبناء “الطائفة”، أو من العلمانيين، لتبرئة الكتلة الاجتماعية “العلوية” بمجملها من جريرة التحاق جزء كبير من أبنائها بالقتال لصالح نظام الأسد ضد الحراك الثوري المناوئ له. لكن صيغة طرح التساؤل لا تندرج في سياق هذا المسعى، بل تندرج في سياق البحث عن خيوط البداية في بحث سيسيولوجي لفهم مدى قدرة “الطائفة العلوية” على التحرك ككتلة واحدة في اتجاه آخر، غير الاتجاه الذي استُلبت فيه إرادتها، بصورة غير مُدركة الأبعاد من جانب معظم أبنائها، بإدارة وترتيب من جانب نظام الأسد الأب، الذي طوّع “الطائفة” لتكون حصنه الحصين في مواجهة بقية الشعب السوري، على مدى عقود.
نقطة البداية في هذا البحث، الذي لا أزعم القدرة على إتمامه، هو التساؤل: هل من نخبة لـ “الطائفة العلوية” تستطيع قيادتها بمعزل عن رموز نظام الأسد؟
في الإجابة على التساؤل الأخير تندرج نظريات عديدة، أبرزها تلك التي تتحدث عن مجلس سرّي من “شيوخ العقل” يقودون “الطائفة”. لكن أي دليلٍ عملي يُثبت ذلك، لم يظهر للعيان أبداً، بل على العكس، بعض الشخصيات التي تنتمي إلى عائلات معروفة بكثرة المراجع الدينية فيها، من أمثال عبد العزيز الخيّر، مُغيبة اليوم في سجون الأسد، لأنها شذت عن الخط الذي رسمته العائلات التي تقود النظام الحاكم.
نظرية أخرى تتحدث عن أن “الطائفة العلوية” مثلها مثل باقي مكونات المجتمع السوري التي تعرضت لـ “تجفيفٍ نخبوي”، إن صح التعبير، طوال عهود حكم الأسد الأب، الذي حرص على تصفية، أو تطويع، نخب تقليدية عُرفت عبر التاريخ المجتمعي السوري القريب بدورها الفاعل في إدارة البلاد، والتأثير في مصائرها. أبرز النخب التي تم تطويعها، وتصفية جزء كبير منها عبر التهجير القسري، هي النخبة البرجوازية المدينية، الدمشقية تحديداً.
بقيت النخب العشائرية، هي الأكثر صموداً، رغم أنها تطوعت في عهد الأسد الأب، وابنه، لكنها حافظت على الكثير من عوامل نفوذها المجتمعية، ربما لأن الأسد الأب فضّل الاستعانة بها، وعقد مع الكثير من رموزها صفقات تبادل للمصالح، كتلك التي عقدها مع من بقي مؤثراً من البورجوازية المدينية السورية.
أما على صعيد النخب الطائفية، فيعتقد البعض أن نخبة العلويين تعرضت، هي الأخرى، للتجفيف، بحيث أن مساحة النفوذ الرئيسية في أوساط “الطائفة” تحولت من أيدي “شيوخ العقل”، والعائلات العلوية العريقة، إلى أيدي بضع عائلات محسوبة على نظام الأسد، تترأسها عائلات الأسد ومخلوف وشاليش. واحتلت شخصيات أمنية وعسكرية، علوية، مكانة بارزة في “الطائفة”، رغم أنها لا تنتمي إلى مكانة عائلية عريقة في أوساطها، من أبرز تلك الشخصيات، آصف شوكت، صهر الأسد الابن، الذي توفي في تفجير مكتب الأمن القومي بدمشق صيف العام 2012.
النظرية السابقة، من خلال المشاهدات التي يعرفها الكثيرون من السوريين في تاريخ حكم الأسد الأب وابنه، هي الأكثر ترجيحاً على سابقتها المتعلقة بوجود “مجلس شيوخ عقل” سرّي يحكم “الطائفة”.
إذا اعتمدنا هذه النظرية، والتي تُفيد بأن العلويين لا يملكون نخبة غير تلك التي يمثلها رموز النظام والعائلات التي تحكمه، فهذا يعني أن “الطائفة العلوية” ككتلة مجتمعية، لا تستطيع التحرك في اتجاه آخر، غير الذي تسير فيه الآن، لأنه لا يمكن لكتلة مجتمعية تعدّ بقرابة مليوني نسمة أن تتحرك دون قيادة أو نخبة مؤثرة، بصورة عكسية، مرةً واحدةً. إلا إن حدث استثناء.
هذا الاستثناء الذي لطالما تناولته بعض التسريبات المُتعلقة برهان دول عربية وغربية على شخصيات علوية مؤثرة داخل مؤسستي الجيش والأمن، للانشقاق عن آل الأسد، والانقلاب عليهم. وهو رهان باء بالفشل حتى الآن، نظراً للصعوبة البالغة التي تعترض تنفيذه. فالترتيبات الأمنية التي أسسها الأسد الأب لحماية حكم عائلته من أي انقلاب، حتى من أقرب المقربين، ليست بالهينة.
أما خارج مؤسستي الأمن والجيش، من الصعب أن يراهن أحد على حراك “علوي” مناوئ لنظام الأسد، إلا في أُطرٍ ضيقة، لا تتجاوز البعد الاعتراضي، من قبيل المظاهرة التي شهدها حي عكرمة الحمصي، بعيد التفجيرين اللذين أوديا بحياة عشرات الأطفال، والتي كان سقف مطالبها، الإطاحة بـ “المحافظ”!
ختام ما سبق، أن الرهان على تحرك للـ “الطائفة العلوية” ككتلة اجتماعية واحدة، في اتجاه مخالف لما تأسس حراكها عليه منذ عقود، يتطلب نخبة تقودها في هذا الاتجاه المعاكس، وهو أمر غير متوافر حتى الآن، كما يظهر للعيان. إلا إذا حصل الاستثناء، وتمكن ضباط أمن وجيش من أبناء “الطائفة”، ومن الدوائر الضيقة في القيادة، من الانقلاب على حكم آل الأسد. بخلاف هذا الاستثناء، يبدو أن الرهان على انفكاك “العلويين” عن الأسد لا يُراعي قدراتهم الحقيقية على تقرير مصيرهم. فهم في نهاية المطاف، مُطوعين منذ عقود في اتجاه رسمه بدقة، وباقتدار، حافظ الأسد، مؤسس النظام السوري الراهن، لصالح حكم عائلته، وعلى حساب مصالح مجمل العلويين، ومصيرهم، في حال فقدوا القدرة على العيش المشترك مع شركائهم في الوطن.