الأهرام المصرية: أحمد عبد المعطي حجازي
يجب أن يعلم الفرنسيون أن الخطر الذى يواجهونه هو الخطر الذى نواجهه. ويجب أن يعلم المصريون أن ضحايا الفرنسيين هم ضحايانا وضحايانا ضحاياهم، وأن القيم والحقوق التى تدافع عنها فرنسا هى القيم والحقوق التى ندافع عنها فى مصر.
الذين يعبثون بأمننا القومى ويقتلون أبناءنا ويدمرون اقتصادنا ويفرقون جماعتنا، ويمنعوننا من استكمال مسيرتنا، يواصلون فى فرنسا مابدأوه فى مصر . والحرب الدائرة الآن ليست بين الإسلام والغرب كما يدعى الإرهابيون ومن يساندونهم فى السر والعلن، وإنما هى حرب تخوضها شعوب العالم كلها وتقف فيها جنبا إلى جنب فى مواجهة التطرف والعنف والهمجية.
الجماعات التى ترفع عندنا شعار الهوية الاسلامية وتجعلها بديلا عن الهوية المصرية وعن الديمقراطية والعلمانية، والعقلانية وحرية التفكير والتعبير وحقوق الإنسان، التى تعتبرها كفرا وإلحادا وتنسبها للغرب دون سواه، كأن المعتزلة كانوا فرنسيين أو بريطانيين، وكأن ابن رشد لم يكن مسلما، وكأن رفاعة رافع الطهطاوى والإمام محمد عبده، وعميد الأدب طه حسين، والدكتور عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر، وخلفه الدكتور أحمد الطيب لم يجمعوا بين ثقافة الأزهر وثقافة فرنسا ، وكأن الاسلام لاتقوم له قائمة إلا بالطغيان والجهالة والتمييز والعنف والتطرف والاستعباد – هذه الجماعات التى لاتستطيع أن توجد إلا فى عصور الظلام والهمجية هى ذاتها الجماعات التى تسللت إلى مدينة النور لتطفيء مصابيحها وتقتل رجالها ونساءها وأطفالها وهم يحتفلون بالحياة وينعمون بالحرية فى ملاعبهم ومسارحهم ومطاعمهم . ومع أننا نواجه معا، نحن والفرنسيين، هذه الجماعات المتوحشة، ومع أن القيم التى يدافع عنها الفرنسيون هى القيم التى ندافع عنها، فالجماعات الإرهابية التى نواجهها معا تأتى من ناحيتنا نحن وتنسب نفسها لنا، ولا تجد عندنا حتى الآن من يكذبها ويدافع عن الاسلام الحق ويبرئه من شرورها التى ينسبها بعض الأوربيين لديننا الحنيف. وإلا فما الذى يستطيع الفرنسيون وغيرهم أن يفعلوه حين يجدون أن هؤلاء القتلة يتحدثون باسم الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين؟ ليس أمامهم الا أن يصدقوا ما جاء فى جوازات سفرهم، فهم فى نظر الفرنسيين وغيرهم مسلمون. أما نحن، فنحن المسئولون وحدنا عن إنقاذ الإسلام وتبرئته من هذه التهمة الشنيعة وتخليصه مما ألحقته به عصور الظلام والعبودية .
ما الذى قمنا به نحن لا نتزاع الاسلام من ظلمات العصور الوسطى وتوطينه فى العصور الحديثة، وإبراز ما يصله بها من قيم إنسانية؟ والسؤال بالصيغة المتداولة فى هذه الأيام هو: ما الذى قمنا به لتجديد الخطاب الدينى ؟
لقد اجتمعنا حول هذا المطلب واعتبرنا تجديد الخطاب الدينى شرطا أساسيا لا نستطيع بدونه أن نتقدم خطوة للأمام، أو نحقق ما رفعناه فى الثورتين من شعارات. لا حرية فى نظام متخلف يخلط بين الدولة والدين. ولا عيش فى مجتمع مقهور يخضع رجاله ونساؤه وأطفاله لتقاليد العصور الوسطى وخرافاتها ومقاييسها العبودية. ولا كرامة لإنسان يظل فى حياته الخاصة وحياته العامة محاطا بالعيون المتطفلة مراقبا محاصرا بالحلال والحرام لا يستطيع أن يفكر وحده أو يعبر أو يختار.
نحن لا نأكل إلا بفتوى، ولا نلبس إلا بفتوى، ولا ندخل ولا نخرج ولا نصلى إلا بالميكروفون الذى أصبح زعيقه سنة مبتدعة وشعيرة من شعائر الصلاة.
لم يعد يهمنا الجمال أو الهدوء أو النظام أو النظافة أو الأناقة أو الجودة أو الصدق أو المنطق أو الاتقان، والنتيجة هى وصول الإرهابيين الى السلطة بانتخابات حرة! .
صحيح أننا أفقنا فجأة من غفلتنا وخرجنا لهم بالملايين وأسقطناهم، لكننا نواجه الآن فلولهم، ولا نعرف كيف نتخلص من فكرهم المظلم، ومن خطابهم الدموى الذى بنوا على أساسه وجودهم، واستولوا على السلطة واعتبروها ملكية خاصة تسمح لهم باستخدام العنف مع المخالفين، واعلان الحرب عليهم، فكيف السبيل للخلاص مما نحن فيه؟
ونحن نعرف أن الفكر الذى تتبناه هذه الجماعات له أنصار يؤمنون به ويسمعون ويطيعون، وله مؤسسات تتبناه وتحتضنه، لأنه كان خلال العقود الماضية خطابا وحيدا انفرد بالساحة وأصبح فى مجتمع يعانى الاستبداد والأمية والفقر والهزيمة تجارة رابحة لها من يمولها ويشجعها فى الداخل والخارج. لأن مصر الديمقراطية المستنيرة خطر على هؤلاء الممولين.
الطهطاوى خطر، ومحمد عبده، وأحمد عرابي، وأحمد لطفى السيد، وقاسم أمين، وهدى شعراوي، ودرية شفيق، وأحمد شوقي، وطه حسين، وعلى عبد الرازق، وسلامة موسي، ومحمود عزمي، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، ومحمد مندور، ولويس عوض، وعبد الرزاق السنهوري، وجورج أبيض، ومحمود مختار.. هؤلاء الذين ذهبوا إلى باريس ونهلوا من ثقافتها، وقرأوا ديكارت، وموليير، وفوليتر وجان جاك روسو، وفيكتور هيجو، وعادوا ليبنوا النهضة، ويؤسسوا للديمقراطية، ويزلزلوا أركان الطغيان خطر لا تتحمله القوى الاستعمارية، ولا تتحمله إسرائيل، ولا تتحمله الرجعية العربية. لهذا كان لابد أن تتصدى لنا هذه القوى وتفرض علينا ما نحن فيه.
ما الذى بقى لنا من نهضتنا الحديثة ومن الذين صنعوها؟
لم يبق منهم إلا تاريخهم الذى مضى وانقضى لنعيش بعدهم فى طغيان مزدوج: الحاكم الدكتاتور، والاسلام السياسي. طرفان يصطرعان وكل منهما مدين للآخر بوجوده. الدكتاتور يهددنا بالمرشد ليبقى فى السلطة إلى الأبد، والمرشد يقدم نفسه وجماعته بديلا عن الدكتاتور. وكما أن المرشد يركب السياسة إلى السلطة، فالدكتاتور يركب الدين إلى السياسة ويستخدمه فى حماية نفسه وتدعيم سلطته.
كيف نتحرر من هذين الخصمين المتحالفين ضدنا؟ نتحرر منهما بتجديد الخطاب الديني.
ما هو الخطاب الدينى الجديد الذى يستطيع أن يخرجنا من هذه الدورة الجهنمية ويعفينا من هذا الخيار الشبيه بالأنتحار؟
انه الخطاب الذى يفرق بين الدكتاتور والمرشد، ويفصل بين الاسلام والسياسة، ويجعل الدين لله والوطن للجميع. فما هى الجهة المؤهلة لأن تزودنا بهذا الخطاب؟
من الطبيعى أن نتطلع بأبصارنا للأزهر الشريف. لأن الأزهر هو المعهد الذى يضم المشتغلين بعلوم الدين القادرين على مراجعتها واعادة النظر فيها وصياغتها صياغة جديدة تخلصها مما يتناقض مع روح العصر ولا يكشف عن الجوهر الباقى فى الاسلام.
لكننا مع تقديرنا للأزهر واعترافنا بالدور التاريخى الذى أداه فى حياتنا نعرف أن الأزهر هو المسئول الأول عما يتمتع به الخطاب السائد من حصانة ورواج، لأنه هو الخطاب المحفوظ المتوارث فى كتب الأزهر وبرامجه الدراسية. فضلا عن أن الأزهر ليس بعيدا عن السياسة وأنه لا يؤيد الفصل بين السياسة، والدين وأنه ركن من أركان السلطة. هل يستطيع الأزهر بهذا الوضع أن يقدم لنا خطابا دينيا جديدا ينقذنا وينقذ الفرنسيين وينقذ الاسلام والمسلمين؟!