الشرق الاوسط
لا أرى. لا أسمع. لا أتكلم». هكذا يتعامل الإعلام العربي مع الإسلام «الجهادي». فهو مجرد خلايا إرهابية معزولة تقوم، بين الفينة والفينة، بعمليات عنف ضد المجتمع أو الدولة.
عندما انفجرت الحرب بين فرنسا و«الدويلة» الجهادية في شمال مالي، فوجئ الإسلام العربي. أصبح محرجا أمام الرأي العام. فقد تبين أن هذا الفصيل من الإسلام السلفي موجود. ومستفحل. بل ومزدهر. وممتد، من باكستان. وأفغانستان. وإيران، إلى موريتانيا. ومن سوريا. والعراق. إلى اليمن. ومن مالي إلى نيجيريا والقرن الأفريقي.
العرب يكتشفون اليوم أن هناك حربا دولية حقيقية، يدور جانب منها في سمائهم. وعلى جبالهم. وصحاراهم. وهي حرب الغرب بقيادة أميركا، ضد التنظيمات «الجهادية» المرتبطة بـ«القاعدة». إنها «جهادية» المثقف باراك أوباما الذي يستخدم أحدث تقنيات الحرب الحديثة: طائرة (درون/ النحلة) العمياء.
هذه الطائرة وفرت استخدام عشرات آلاف الجنود، وإنفاق مئات مليارات الدولارات. وتدار من شاشات قواعد أمنية وعسكرية، داخل الولايات المتحدة وخارجها. حرب لا رحمة فيها. الطائرة تراقب فرائسها أسابيع، وربما شهورا. ثم تنقض عليها بأسنانها الصاروخية. فتفتك بهم. وبأسرهم. وجيرانهم. وهناك جدل صارخ داخل أميركا مع إدارة أوباما، حول قانونية القتل وشرعيته الذي لا يميز بين «الجهاديين» المطلوبين والمدنيين الأبرياء.
اغتالت الـ«درون» رؤوسا قيادية في «القاعدة». فغيرت حركية عملياتها، على أساس اللامركزية. لم يعد الأمر يصدر من جبال باكستان، إنما من جبال اليمن. والجزائر. وتم توحيد وإنشاء قيادات جغرافية، في المغرب العربي، وأفريقيا. وربما أخرى في أوروبا. وأميركا. واليمن والجزيرة العربية. ثم قاعدة في سوريا مرتبطة رأسا بالدكتور أيمن الظواهري الذي حل محل أسامة بن لادن في جبال باكستان.
يلعب التمويل دورا كبيرا في نشاط «القاعدة» وتنظيمات الإسلام «الجهادي» المستقلة. وهو يعتمد اليوم على جمع «التبرعات»، من مسلمي أوروبا وأميركا. ثم بات خطف الرهائن والفدية. والاتجار بالسلاح. والمخدرات. والسجائر… ممارسات تساهم في تأمين «الجهاديين» من مختلف الفئات والمذاهب، بعد تراجع موارد إيران، في الحصار الاقتصادي والمصرفي لها، بسبب نشاطاتها النووية المشبوهة.
تحريك خلية الإسلام «الجهادي» الشيشانية النائمة، للقيام بعملية بوسطن (180 قتيلا وجريحا)، جاء ردا على الضربات الاستئصالية المتلاحقة التي استهدفت رجال «القاعدة» حيثما كان. والمعلومات المتاحة تفيد بأن أميركا هي الآن في سبيل إنشاء قاعدة إضافية لـ«درون» ربما في شمال النيجر، لاستهداف خلايا «القاعدة» و«النصرة» في دول المغرب العربي، خصوصا ليبيا. والجزائر، إذا ما اقتضت الضرورة.
وأضيف أن المشرق العربي ليس بمنجاة من عمليات الـ«درون» في المستقبل المنظور، في سوريا. ولبنان. والعراق، وذلك بعد إدراج «جبهة النصرة» على لائحة «الإرهاب» الأميركية. وبعد تورط «حزب الله» في القتال إلى جانب قوات الأسد. أما «القاعدة» في العراق، فتبدو الهدف الزمني الأقرب، بعد استفحال عملياتها ضد المدنيين، وضد نظام نوري المالكي الذي يحظى بدعم أميركي/ إيراني.
والآن، ماذا على المستوى الفقهي والنظري للإسلام «الجهادي»؟ وهل يهدد الازدهار القتالي للإسلام «الجهادي» النظام «الإخواني» في المغرب. وتونس. ومصر؟
في الجواب، أعود إلى التذكير بما بات معروفا: الإسلام السلفي، فصائل كثيرة غير مقاتلة، باستثناء فصيل الإسلام «الجهادي». وفصائل الإسلام السياسي كلها متفقة على إقامة الدولة الدينية، واستعادة الخلافة الإسلامية.
هناك فصائل وتنظيمات سلفية ضد مقاتلة العالم «الكافر». بل بعضها ضد التظاهر. أو التمرد على الحاكم المسلم الذي له «الحق» وحده في إعلان الجهاد. ويمكن اعتبار «توبة» تنظيمي «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» في مصر، عن استخدام العنف، مثالا.
مبدأ البيعة. ثم الطاعة، هو الغالب لدى الإسلام «الجهادي». مع الإلحاح المتزايد على مبدأ الدعوة، لتحكيم الشريعة الإسلامية، وليس الديمقراطية، في بناء نظام ما بعد الانتفاضة الذي يتحكم به حاليا النظام السياسي «الإخواني» الذي ما زال حائرا. مترددا، في تكييف الشريعة مع الديمقراطية.
أعتقد أن عدم قدرة «الإسلام الجهادي» على الجمع بين الدين والسياسة هو أحد أسباب تشدده التي تجعله غير مقبول، حتى في المجتمعات الإسلامية التقليدية المحافظة. الدين منظومة من المقدسات «الثابتة» التي لا يمكن تجاوزها. أما السياسة فهي «المحرك» و«المتحول» اللذان يفرضهما العمل الجهادي والقتالي. وبالتالي فتسييس الإسلام يتناقض مع أخلاقية الدين والشريعة الثابتة.
في فتاوى وفِقه الإسلام التقليدي، فالإسلام «الجهادي» أسير الضيق الفكري في الرأي والموقف. وفي رأي القوى الليبرالية، فهو لا يملك مشروعا للحكم، قابلا للتطبيق عمليا، ومهيأ بقبول المجتمعات العربية والإسلامية به كنظام حكم. وهو يضع الدين في تناقض مع تأمين المؤسسات السياسية الضرورية للشورى. وللقانون. والاقتراع.
أما الإسلام «الجهادي» الشيعي فينكشف أمام ملايين العرب والمسلمين، عندما يُسَخِّر أدواته القتالية (ميليشيات حزب الله. والحرس الثوري. وفيلق القدس) لخوض حرب دموية، ضد تطلعات ملايين العرب السوريين نحو الحرية والعدالة.
ثم تأتي إطلالة قادة الإسلام «الجهادي» من الخرائب والجبال النائية المعزولة عن مراكز ازدهار العمران والاجتماع، لتجعل من الصعب عليه منافسة الإسلام «الإخواني» الذي خطف الانتفاضة. والحكم، عن جماعات الإنترنت الليبرالية الشبابية.
بل أرى تشدد وتزمت الإسلام «الجهادي» إلى انفصال العشائر السنية العراقية (مجالس الصحوة) عنه، وترجيح كفة الدولة المدنية، وإن كانت لم تنجح إلى الآن في إقصاء هيمنة الطائفية على هذه الدولة.
لكن، لماذا أخفق النظام السياسي (الإخواني) في الحكم، في مصر. وتونس؟ أستعين هنا برأي طارق رمضان حفيد الداعية المؤسس حسن البنا. فهو يعترف في رأي منشور له قبل نحو عامين، بأن منظمات الإسلام الجهادي انشقت عن الإسلام «الإخواني» حيثما كان موجودا.
يضيف رمضان (بروفسور الدراسات الإسلامية المعاصرة في أوكسفورد) ناعيا الجيل الإخواني المؤسس الذي ما زال مهيمنا على القيادة الإخوانية، لأنه لم يعد يمثل جيلا إخوانيا أكثر شبابا وطموحا للتغيير والانفتاح. بل هو عاجز، كما النظام «النهضوي» المماثل في تونس، عن محاكاة الإسلام التركي، في حل مشاكل الاقتصاد.
يخسر الإسلام «الجهادي»، ومعه العرب والمسلمون جميعا، معركة الدعاية والإعلام أمام العالم، عندما يلجأ إلى تناول المدنيين في عالم (الكفار)، بعملياته الانتحارية والتفخيخية، بحجة أنهم هم الذين أتوا بالطبقة الحاكمة المنحازة ضد قضايا العرب والمسلمين.
أجدد القول إن استعادة المصداقية الإعلامية والسياسية تكون بتبني العلم. والتقنية. والمعرفة، تماما كما فعلت الشعوب الصفراء، في تحديها للعالم الأبيض الذي استعمرها. احتلها. ثم قصفها بقنبلته المخيفة.