يوم تفضل الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، فدعانى مع من دعاهم من المثقفين المصريين لنشارك في وضع وثيقة الحريات التي تضمنت حرية العقيدة والرأى والتعبير والبحث العلمى والإبداع الفنى والأدبى، تفاءلت خيراً وقلت لنفسى: يبدو أننا خرجنا بالفعل من عصور الظلام والطغيان واستغلال الدين والمتاجرة به، ودخلنا عصر الحريات التي لم تعد شعارات ومطالب بعيدة المنال كما كانت طوال القرنين الماضيين، وإنما أصبحت قلعة الفكر المحافظ، ويدعو المثقفين، وهم الطرف المقابل، للمشاركة في وضعها وصياغتها وإقرارها لتكون أساسا في الدستور الجديد، كما جاء في كلمة الدكتور الطيب التي أكد فيها أن هذه الحريات تستند لنصوص دينية قطعية تكفل حرية العقيدة وحرية الرأى والتعبير التي «هى المظهر الحقيقى للديمقراطية وتنشئة الأجيال الجديدة، وفق ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين».
قلت لنفسى: إذا كان الأزهر قد انتقل من معسكره القديم إلى معسكر الثورة فقد انتقلت مصر كلها معه. ونحن الآن إذن في زمن جديد يحق لى فيه أن أقترح على الإمام الأكبر أن يدعو الأزهر لمراجعة مواقفه السابقة من هذه الحريات، ففى هذه المواقف ما لا يتفق مع الوثيقة التي بادر هو قبل غيره بالدعوة إلى كتابتها.
وقد أشرت وأنا أتحدث مع الدكتور الطيب، الذي تكرم فأفسح لى مكاناً بجواره، إلى موقفين اثنين انحاز فيهما الأزهر للسلطة واتخذ موقفا يتناقض مع ما اتفقنا على إقراره في الوثيقة: موقفه من مسألة الخلافة والدولة الدينية، وموقفه من حرية التفكير والتعبير.
وكان كمال أتاتورك قد أسقط نظام الخلافة المتداعى وأعلن الجمهورية في تركيا، فقام في مصر من يدعون لنقل الخلافة إليها وتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين. وانتهز الأزهر الفرصة فشكل لجانا ودعا لمؤتمر تشارك فيه وفود إسلامية، تنظر في مصير الخلافة وترشح لها من تراه. وهنا أصدر الشيخ على عبدالرازق كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم»، الذي قال فيه إن الخلافة ليست عقيدة وليست ركنا من أركان الإسلام، وإنما هي نظام سياسى عرفة المسلمون في العصور الماضية ومن حقهم أن يعرفوا غيره في العصور الحديثة.
في ذلك الوقت عام 1925 كان الملك هو صاحب السلطة فيما يختص بالأزهر وتنظيم شؤونه، وكان الأزهر منحازاً للملك في صراعه مع الزعماء السياسيين وفى سعيه لتولى الخلافة، ومن هنا اعتبر الشيخ على عبدالرازق مارقا وعُقدت له محاكمة انتهت بسحب شهادة العالمية وإخراجه من زمرة العلماء.
الموقف الآخر الذي يتناقض مع ما جاء في الوثيقة هو موقف الأزهر من طه حسين وكتابه «فى الشعر الجاهلى»، الذي أعلن فيه الأستاذ العميد أن الشك هو طريقنا لليقين العلمى، وأن النصوص الدينية ليست مرجعا في التاريخ والجغرافيا وغيرهما من علوم الدنيا التي نعرفها بالملاحظة والتجربة والبحث في الشواهد والوقائع التي تضع أيدينا على حقائق العلم وقوانينه. وبناء على ذلك رأى طه حسين أن ما جاء في القرآن الكريم عن اللغة العربية يدخل في إطار الاعتقاد والإيمان، أما المعرفة العلمية فمن حقنا أن نجتهد فيها ولو أدت بنا اجتهاداتنا إلى ما لم يذكر في النصوص الدينية أو يخالفها.
آنذاك، عام 1926 كانت الجامعة المصرية الأهلية قد أصبحت جامعة حكومية رفيعة المقام، تزود البلاد بما تحتاج إليه في نهضتها الحديثة، وكان دور الأزهر ينحسر، ومن هنا كانت العلاقة بينه وبين الجامعة متوترة تسمح للأطراف السياسية بالتدخل، كما حدث في قضية طه حسين، الذي اتهمه شيخ الأزهر، أبوالفضل الجيزاوى بتكذيب القرآن في كتابه «الشعر الجاهلى»، والطعن على النبى وعلى نسبه وعلى دين الدولة الرسمى. ومع أن النيابة العامة انتصرت لحرية الرأى وبرأت طه حسين من التهمة وحفظت القضية فقد استغلت السلطة ما حدث لتظهر بمظهر المدافع عن الإسلام وتنكل بطه حسين وتفصله من عمله في الجامعة.
ونحن نرى أن ما كان يحدث قبل ثمانين عاما أو تسعين مازال يحدث حتى اليوم، وأن الأخطار التي كانت تهدد الدولة الوطنية في عشرينيات القرن الماضى وتهدد الديمقراطية وتهدد حرية التفكير والتعبير مازالت واقفة لنا بالمرصاد، بل هي تزداد عنفا وجبروتا. فالخلافة الإسلامية وهى ديكتاتورية دينية لم تعد حلم الجالس على العرش وحاشيته، بل هي الآن شعار مرفوع تلتف حوله جماعات الإسلام السياسى وتحمل السلاح وتخرج به على الدولة وعلى المجتمع.
أما العدوان على حرية التفكير والتعبير فحدث عنه ولا حرج، لقد تجاوز المعتدون سحب الشهادات وطرد الكتاب والمؤلفين من وظائفهم ومصادرة أعمالهم، وأصبحوا يكفرونهم ويغتالونهم ويفرقون بينهم وبين زوجاتهم وينفونهم من وطنهم ويجدون من رجال الدين من يقف في صفهم ويبرر جرائمهم، كما فعل الشيخ محمد الغزالى في قضية فرج فودة، وكما فعل غيره في قضية نصر حامد أبوزيد.
ومن المؤسف أن الأزهر لم يقف إلى جانبنا في هذه المحن، ولم يستطع أن يحمينا من هذا التطرف الهمجى وهذا الإرهاب الدموى، ولم يستطع حتى أن يحمى نفسه، فقد اخترق الإرهابيون الأزهر وتمكنوا من تجنيد أعداد من طلابه وحتى من أستاذته.
وقبل بضعة أسابيع كتبت مقالة أعلق فيها على استنكار الأزهر للجرائم التي ارتكبتها العصابة النيجيرية المسماة «بوكو حرام». هذه العصابة اختطفت مئات من الفتيات المسيحيات واعتبرتهن سبايا، وأعلنت أنها ستعرضهن للبيع في الأسواق، فاستنكر الأزهر ما قامت به هذه العصابة، وله الشكر، لكنى وجدت أن الاستنكار من الأزهر لا يكفى. لأن هذه العصابات الإجرامية تستند لتراث من العنف والتطرف يُنسب للإسلام بغير حق، فعلى الأزهر أن يراجع هذا التراث وأن يبرئ الإسلام من هذا العنف الوحشى وممن يتخذونه طريقاً لهم. لكنى قرأت رداً على ما كتبته يحاول فيه صاحبه أن يدافع عن الأزهر كأنى كنت أهاجمه، فإذا به، وتلك هي المفاجأة، يدافع- دون أن يدرى طبعاً- عن العصابة النيجيرية التي أعلنت الحرب على الحضارة الغربية واعتبرتها كلها حراما في حرام. وهذا هو الموقف الذي تبناه صاحب الرد، فأطلق لسانه في المثقفين المصريين الذين يدافعون عن حضارة العصر واعتبرهم خصوما للإسلام! وقد ذكر هذا السيد أنه من علماء الأزهر، فصدقته، لأن علماء الأزهر، ليسوا رجلا واحدا ولا ثقافة واحدة. محمد عبده غير الجيزاوى. والطيب غير القرضاوى. والذين صاغوا وثيقة الحريات غير الذين يريدون أن يرثوا الإخوان ويحلوا محلهم، فلمن تكون الغلبة؟
من حقنا أن نكون متفائلين، لأن الديمقراطية انتصرت في يناير. ولأن الدولة المدنية انتصرت في يونيو. ولأن الأزهر تبنى وثيقة الحريات الأساسية. لكن تفاؤلنا لا يمنعنا من الاعتراف بأن الصراع لايزال دائراً بين الثورة والثورة المضادة. والسؤال إذن لايزال مطروحا وعلينا أن نشارك جميعاً في الإجابة عنه. نحن مع الديمقراطية أم نحن مع الطغيان، مع الدولة المدنية أم مع الدولة الدينية؟!
على الأزهر أن يجيب عن هذا السؤال: هل يلتزم بما جاء في الوثيقة التي أصدرها أم يتخلى عنها؟ هل يراجع في ضوئها مواقفه السابقة ويعترف بما وقع فيها من أخطاء، أم يتجاهل هذه الأخطاء ويتستر عليها فيسمح لها بأن تتكرر؟
ولقد يظن البعض أن الاعتراف بالخطأ ينتقص من قدر المعترف به، وهذا ضلال لا يصح أن ينساق فيه من سمع حديث الرسول: «كلكم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون!».
والاعتراف بالخطأ يساعدنا على تجاوز الأسباب التي تؤدى لتكراره والوقوع فيه من جديد. وليس يصح أبداً أن يكون الأزهر أسيرا لماضيه أو لمرحلة فيه، فالأزهر مؤسسة تعيش في الزمن وتتطور معه وتستفيد بتجاربها فيه.
والكنيسة الكاثوليكية، التي تعتبر نفسها مؤسسة معصومة، تراجع نفسها وتعترف بأخطائها، وقد حاكمت جاليليو ثم برأته واعترفت بأنه كان على حق. وحاكمت جان دارك وأسلمتها للموت ثم برأتها واعتبرتها قديسة. والعدالة تراجع أحكامها.
والحكومات تعترف بأخطائها وتعتذر لضحاياها.
ونحن لا نطالب الأزهر بمراجعة نفسه فقط، بل نطالبه بمراجعة التراث الإسلامى كله وتنقيته مما يتعارض فيه مع جوهر الإسلام. نحن باختصار نطالب الأزهر بتجديد الفكر الدينى ليتفق مع هذا العصر الذي نعيش فيه.
* نقلا عن “المصري اليوم”
m.almasryalyoum.com/News/Details/484559