جاسم عجاقة- خبير اقتصادي واستراتيجي
سؤال يطرح نفسه مع كلّ ما تعرّض له المسيحيون من ضغوطات أمنية وسياسية واجتماعية أدّت إلى انقسامهم وإلى هجرة عدد كبير منهم إلى بلاد المهجر. اليوم يخضع المسيحيون لأنواع أخرى من الضغوط تدفع إلى الاعتقاد أن هناك مخططًا لتفريغ لبنان منهم.
لا يكفي للشخص ان يحمل جنسية بلد معين ليصبح مواطناً ملتزماً بوطنه ودولته. فالتزام المواطن تجاه الدولة يمرّ عبر مؤسساتها، ابتداءً من حقّه بالانتخاب إلى دفع الضرائب، مروراً بوظيفة يجني منها عيشه، وخدمات يستحصل عليها من دولته. هذه الأمور تكفي في دولة علمانية لا طائفية فيها، لكنها لا تكفي في بلد نظامه السياسي طائفي ووظائفه طائفية وخدماته طائفية. هناك حاجة أكبر لهذا المواطن أن يكون شريكًا حقيقيًّا في الوطن وذلك على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
النزوح السوري أول خطر على الوجود المسيحي في لبنان…
من منا لم يشعر بألم ومعانة الشعب السوري؟ هذا الشعب الذي يعيش أتون حرب لا نستطيع التنبؤ بنهايتها ولا سيناريوهات هذه النهاية. لكنّنا كلنا أيضاً شعرنا بثقل النزوح السوري على الأصعدة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية خصوصاً مع وجود أكثر من مليون ونصف نازح. ويعيش اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً هاجس عدم رجوع هؤلاء النازحين إلى بلدهم بعد انتهاء الأزمة. وهذا الهاجس مُبرر بالعوامل التالية:
أولاً: إن النظر إلى تركيبة النازحين الاجتماعية تُظهر أن ما لا يقلّ عن 80% من النازحين هم من المعارضة السورية. والسؤال المطروح هو في حال بقاء النظام السوري الحالي، هل سيتمكّن هؤلاء النازحون من الرجوع إلى بلدهم؟
ثانياً: قسم كبير من هؤلاء النازحين يعيشون في ظروف اقتصادية أفضل من الظروف التي كانوا يعيشون فيها في بلدهم. لذا اقتصادياً، هل من دافع فعلي لهؤلاء بالعودة إلى وطنهم؟
ثالثاً: إن عمليات التزاوج بين اللبنانيين والسوريين ستدفع قسمًا منهم إلى البقاء في لبنان بحكم الواقع، وهنا الخوف من عمليات تجنيس قد تنتقل بين الأزواج، خصوصاً إذا ما أُقرّ حقّ المرأة في إعطاء الجنسية لأولادها.
رابعاً: إذا ما استمرّ النظام السوري الحالي في الحكم، هل سيكون هناك تسوية تُفرض على لبنان لتجنيس النازحين؟
كل هذه العوامل تدفع المسيحي إلى الخوف من هذا النزوح خصوصاً أن لا توازن طائفيًّا بين النازحين، وأن وجودهم على الأرض اللبنانية بهذا الكمّ، يدكّ هياكل لبنان الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية.
الهجمة العقارية على المناطق المسيحية…
لا يمرّ يوم في لبنان إلا ونسمع فيه عن عمليات بيع لعقارات في عمق المناطق المسيحية. هذا الأمر يتمّ بالطبع برضى البائع لكنّ إطار العملية يجعلها مشوّهة إن من ناحية الوضع الاقتصادي للمسيحي الذي يبيع أرضه، أو من ناحية وجود شبكات تعمل على شراء العقارات لحساب أشخاص من طوائف أخرى. هذا الأمر يجعل المسيحيين خائفين على وجودههم، خصوصاً مع التمدد الديموغرافي لبعض الطوائف، ويدفع العديد منهم إلى الهجرة مع استعمال عبارة “هذا البلد ليس لنا”!
تغييب المسيحيين عن وظائف الدولة…
العديد من وظائف الدولة ومنها وظائف الفئة الأولى تمّ نقلها من المسيحيين إلى طوائف أخرى مع العلم أن مبدأ المناصفة هو العمود الفقري للعيش المُشترك المنصوص عنه في مقدمة الدستور اللبناني. أما فيما يخصّ وظائف الفئات الأخرى، فحدِّث ولا حرج، حيث أصبح الخلل واضحاً جداً. ويبقى السؤال عن المبرّر لهذا الخلل حيث إن البعض يقولون إنه إلزامي بحكم التغيير الديموغرافي (55% نسبة المسيحيين في أوائل القرن العشرين و37% حالياً). هل الخلل الحاصل حالياً هو بنفس نسبة تراجع عدد المسيحيين إلى نسبة سكان لبنان؟ الجواب بحسب رأينا: كلا. لكن هذا الأمر ليس الأهم فهناك عامل اجتماعي مهم وأساسي في بناء دولة مكوناتها طائفية: الالتزام بالدولة. إن إقصاء المسيحيين عن وظائف الدولة سيجعلهم يشعرون بأنهم مهمّشون في بلد يُشكّلون فيه أكثر من 37% من مجمل السكان (بدون التوطين بالطبع!). والأصعب أنه ومع عدم انتخاب رئيس للجمهورية– المنصب المسيحي الوحيد في الشرق العربي– هناك اعتقاد بأنهم يُسلبون أحد آخر الرموز لوجودهم في هذا الشرق.
الصراع السنّي – الشيعي…
إن اللبنانيين الذين وُلدوا قبل سبعينات القرن الماضي يتذكرون الحرب الأهلية التي تمّت تحت شعار حرب مسيحية – إسلامية، كما الويلات التي حلّت بلبنان في ذلك الوقت. بالطبع هاجر الكثير من المسيحيين في ذلك الوقت خوفاً من الحرب، إلا أن قسماً كبيراً منهم حمل السلاح ودافع عن وجوده. لكن ما يُميّز الوضع اليوم عن الحرب الأهلية في ذلك الوقت، هو أن الصراع السنّي- الشيعي أخذ أبعاداً أكبر بكثير ممّا حصل في الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي. فهذا الصراع جلب الأتون “الداعشي” إلى حدود لبنان، وجعل المسيحي يعيش حالة خوف ممّا قد يحصل في حال سقط لبنان بأيدي “داعش”. وكردة فعل، رأينا بعض المناطق المسيحية في البقاع تحمل السلاح لشعورها بالخوف على وجودها.
مخطّط التهجير مرفوض…
كل العوامل التي سبق ذكرها تدفع إلى الاعتقاد أن هناك مخططًا لتفريغ لبنان من مسيحييه. ومصداقية هذا الاعتقاد تأتي من واقع أن عدداً من الدول الغربية تتمنّى هجرة المسيحيين اللبنانيين إليها، لسد العجز في ديموغرافيتها التي أصبحت تُشكل تهديداً لها مع هجرة الكثير من الأيدي العاملة الأفريقية والآسيوية “غير المرغوب بها” في هذه الدول.
إن هجرة المسيحيين من لبنان هو أمر مرفوض بالطبع، ويتوجّب على الشريك الآخر في الوطن أن يعِيَ أن تفريغ لبنان من مسيحييه، سيجلب الويلات على لبنان كما حصل في العراق وسوريا.
ممنوع على المسيحي اللبناني أن يتخلّى عن بلده، ممنوع عليه البقاء خارج وظائف الدولة، ممنوع عليه الهجرة. المسيحي اللبناني موجود في لبنان منذ 2000 عام وسيبقى لأنه شريك في هذه الأرض مثله مثل السنّي والشيعي والدرزي.
لا يُمكن للبنان أن يعيش بدون طائفة من طوائفه مهما كانت صغيرة، وعبارة “العيش المُشترك” هي عبارة قوية تحمل في طيّاتها الحفاظ على الشريك الأخر. من هذا المُنطلق يجب على المسيحي المشرقي أن يلعب دوره بالكامل على الصعيد الفكري فهو صاحب القومية العربية والعلمانية وغيرها من الحركات التي خلقها لكي يعيش مع شريكه المُسلم في هذه الأرض.