الشرق الاوسط
هل من عزاء لسوريا؟
أعترف بأن مذبحة بانياس أصابتني في الصميم وجرحتني. هذا لا يعني أن المجازر والتفجيرات الأخرى في السلمية وشوارع دمشق وحتى لواء الإسكندرون وسواها لم تؤلمني. ولكني وجدت لها طابعا خاصا أخرجني عن طوري ودمر شيئا ما في داخلي المدمر أصلا! ماذا يستطيع العقل أن يفعل أمام همجية التاريخ ووحشية البشر؟ إنه يتوقف عن الحركة وينشل تماما. كل ما نأمله هو أن يفرج الله قريبا عن هذا الشعب الصابر المثابر الذي دفع ثمن حريته غاليا. لقد تعذب الشعب السوري أكثر مما يجب وآن له أن يستريح. ما بعد الشدة إلا الفرج.
عندما أحاول أن أستوعب ما يجري حولنا، ما ينهال علينا يوميا من فواجع، لا أجد طريقة أعزي فيها نفسي إلا القول: انظروا إلى الشعوب المتقدمة التي دمرت بعضها بعضا في حروب طائفية لا تبقي ولا تذر. ومع ذلك فقد خرجت منها في نهاية المطاف وتصالحت مع ذاتها وشكلت دولة القانون والمساواة في المواطنة بين الجميع. لقد وصلت إلى بر الأمان. فلماذا لا نصل نحن إذا ما خلصت النيات واستنارت العقول؟ هل يعني ذلك أنه ينبغي على البشر أن يموتوا لكي يحيوا؟ هل يعني أن أسطورة طائر الفينيق المنبعث من رماده في كل مرة صحيحة؟ هل ستنبعث سوريا من رمادها مرة أخرى؟ وكيف؟ عندما أستمع إلى رأي الاستراتيجيين الدوليين يخامرني الشك في ذلك. لن تعود سوريا كما كانت بعد كل هذه المجازر المرعبة والأحداث الجسام. شيء ما انكسر في الداخل السوري. ولقد لا يجبر قبل خمسين سنة قادمة، هذا إذا ما جبر. ومع ذلك سوف أتفاءل وألخص رؤيتي بكلمات معدودات: سوريا الغد لن تكون إخوانية مثل تونس ومصر وليبيا، ولن تظل جامدة متخلفة. هذا مستحيل. سوريا الغد ستكون ليبرالية، تعددية، مستنيرة، أو أنها لن تكون.
سوف يكون كلامي فلسفيا لا سياسيا لأني لا أفهم في السياسة شيئا. يبدو أن فلسفة التاريخ تقول لنا ما يلي: الأزمة التي لا تقتلني تقويني، أو لا يعرف طعم النجاة إلا من أوشك على الهلاك، أو لا يعرف معنى السلم إلا من ذاق ويلات الحرب، إلخ.. قد تقولون: ولكن هذه تفاهات بليدة يعرفها القاصي والداني. أتحفنا بشيء آخر نرجوك وإلا فبعنا سكوتك. فعلا إنك شخص مراوغ كما وصفتك إحداهن يوما ما. أعترف بأن المراوغة في السياسة عيب، لكن معهن يا ما أحلى المراوغات! هكذا تلاحظون أني هاجمت نفسي بقساوة منقطعة النظير قبل أن تنزل فيّ السكاكين. ووفرت عليكم هذه المهمة. اشكروني على الأقل. اعترفوا لي بالفضل. أقيموا لي تمثالا على مدخل اللاذقية أو جبلة! ومع ذلك سأضيف واعظا ومقرعا: لا تحلموا في الوصول إلى بر الأمان قبل أن توشكوا على الغرق. لا تحلموا بالحضارة قبل المرور بمرحلة الهمجية. لن تستمتعوا بإسقاط الديكتاتورية قبل أن تموتوا ألف موتة.. كم سيكون طعم الحرية عذبا مستساغا عندئذ. مرة أخرى عدنا إلى نفس المعزوفة العمومية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. يا أخي أرحنا من ثقافتك، من لفك ودورانك. يبدو أن عدم قدرتك على قول أي شيء له معنى عن المشكلة السورية هو بحد ذاته مشكلة. لا تستطيع أن تدخل في أعماقها التاريخية، ولا حتى في أعماق أي مشكلة عربية أخرى. الكلام العربي مكبوت تاريخيا. وإذا ما انفجر يوما ما فقد يجرفك في طريقه طوفان أو بركان. الفيلسوف لودفيغ فتغنشتاين كان يقول هذه العبارة الغامضة: «ما لا تستطيعون قوله أسدلوا عليه ستارا كثيفا من الصمت». على الرغم من عظمة هذا الفيلسوف وغرابة أطواره وعمق أفكاره إلا أني كنت دائما أجد عبارته مخابراتية، قمعية. يا أخي لماذا تريدني أن أسكت؟ لماذا تمنعني من أن أفتح فمي؟ أكاد أنفجر. لماذا انفجر الشعب السوري؟ الآن فهمت. ومع ذلك فإني مضطر للسكوت لسببين أساسيين؛ أولهما لأني لا أتقن اللغة الامتثالية ولست مستعدا لأن أضيع فيها ثانية واحدة. وثانيهما أني إما أن أقول كل شيء ولا أقول شيئا. الفيلسوف الألماني الكبير كانط كان يقول: «قد لا أقول كل ما أعتقد به ولكني لن أقول شيئا لا أعتقد به». بمعنى: أعاهدكم على ألا أكذب عليكم أبدا. ولكن لا تنتظروا مني أن أقول كل ما أعرفه. فإذا كان كانط العظيم الذي اشتهر بأنه أكبر فيلسوف أخلاقي في التاريخ لا يستطيع أن يقول الحقيقة كلها فما بالكم بالعبد الحقير الفقير إلى الله تعالى؟
أخيرا إليكم هذه القصة المختصرة جدا: لقد دمرت ألمانيا ثلاث مرات عن بكرة أبيها تقريبا. المرة الأولى في الحرب الطائفية الشهيرة باسم حرب الثلاثين عاما (1618 – 1648) بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين أي ما يشبه السُنة والشيعة عندنا. يقال إنه ذهب ثلث سكانها فيها وبعض المناطق فقدت النصف هذا، ناهيك بالتهجير والمجاعات والمجازر. والمرة الثانية في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) التي كانت مجزرة حقيقية بكل ما للكلمة من معنى. والمرة الثالثة مع المغامرة النازية الهتلرية التي تعرفون. ومع ذلك فقد خرجت من تحت الأنقاض كأعظم ما يكون. ألا يعزيكم ذلك؟ صبرا جميلا إذن أيها الشعب السوري الكريم.