أمور محيرة جدا يصعب فهمها للمتابع لما حدث في البلدان العربية التي كانت تُحكم من قبل أنظمة ثورية غامضة ودولة مخابراتية سرية لا يعلم أحد كيف وصلت للحكم وكيف بقيت ولماذا ادعت العداء لبعضها البعض رغم تشابهها الشديد في الوصول والسقوط وعمن تمثل بحق بعد ان امتلأت معتقلاتها بالإسلاميين بكافة طوائفهم والشيوعيين واليساريين والقوميين بكل توجهاتهم رغم ادعاء البعض منها القومية او الإسلام او كليهما، ثم رحلت أو كادت تلك الأنظمة في ظروف لا تقل غموضا عن سر الوصول مخلفة بعدها دولا مدمرة تسودها الحروب الأهلية ومشاريع التقسيم والتشطير ويصعب تفسير الأمر على انه مصادفة كونه حدث في عدة دول ثورية خلال أزمات قصيرة وليس في دولة واحدة!
***
البداية مع النظام الغامض لصدام حسين، حيث توقع الجميع ان يترك الحروب ويتفرغ ما بقي من عمره لإصلاح ما دمرته حربه الأولى، إلا انه قام وخلال اقل من سنتين على انتهاء حربه على إيران بغزو غادر غير مبرر على الكويت وتهديد السعودية ودول الخليج، ثم رفض إنهاء الاحتلال بالطرق السلمية، ما تسبب في حرب ثالثة لإخراجه من الكويت وفرض الحصار على بلده لرفضه القرارات الدولية، وتلا ذلك تصرفات محيرة من مضايقة وطرد المفتشين الدوليين رغم عدم وجود أسلحة دمار شامل لديه، مما أدخله حربا رابعة طالب بان تكون على تخوم بغداد ـ لا تخوم العراق! ـ وسلم خلالها أقاربه من غير العسكريين مسؤولية قيادة الجيش العراقي أمام هجوم أكبر قوة في التاريخ.
***
حكم الطاغية القذافي ليبيا لمدة 42 عاما ولم يستطع احد ان يزحزحه عن كرسيه إلا انه فجأة أطلق سراح المتطرفين من سجونه وفتح أبواب ليبيا للقوى المؤدلجة لاختراق بلده والاتصال بحلفائهم من السجناء المطلقين عن طريق دعاوى الاستثمار في ليبيا، أفسح المجال للفضائيات ووسائل الاتصال الاجتماعي التي كانت ممنوعة للعمل وتثوير الشارع عليه، واشترى السلاح بوفرة وجعله في مخازن بالمدن المختلفة مما سهل على الثوار الحصول عليها، ولم يغادر ليبيا رغم انه لم يكن معروفا بالشجاعة وظهور مؤشرات الهزيمة ودرس صدام في العراق وحقيقة امتلاكه لمئات المليارات بالخارج ووجود عشرات الدول الافريقية وغيرها التي ترتضي استضافته طمعا بملياراته.
***
نظام الرئيس بشار الأسد ومواقف لا تقل غرابة، فالشعب السوري في أغلبه لم يطالب كغيره بالتغيير بل فقط بالإصلاح كما أتى على لسان زعامات المعارضة، وكان تساقط الأنظمة الأخرى أمام ثورات الشعوب يستدعي منه فقط القليل من الإصلاحات لكسب الشعب السوري بكل ألوان طيفه، إلا انه قام وبغرابة شديدة بالعكس من ذلك تماما فقد قام باستغلال ما ادعى ان اطفالا صغارا قد كتبوه على احد جدران مدينة درعا (وقد يكون الكاتب غيرهم) قتل الأطفال بوحشية بالغة والطعن بشرف أمهاتهم أمام أزواجهم في مجتمع عشائري كدرعا وتلا ذلك نشر الأشرطة المستفزة التي تظهر عمليات التعذيب التي يقوم بها الشبيحة وإرغام المعذبين على القول ان بشار هو ربهم الأعلى مما استفز ودفع الجميع للثورة، وتصويرات وتسريبات كهذه لا يمكن ان تتم دون موافقة النظام وأجهزة مخابراته فما الحكمة منها عدا تثوير فئات من الشعب لتستكمل العملية بتصويرات وتسريبات تنظيم داعش الذي مازالت الشكوك تثار حول من يقف خلفه!
***
آخر محطة: (1) من الأمور المحيرة ان من ادعى انهم قتلوا من القيادات الثورية كصدام والقذافي لا يعرف احد لجثامينهم مكانا.
(2) نشرنا منذ الأيام الأولى للثورة في سورية ان مصير قيادتها لن يكون تونسيا (الهرب) او مصريا (السجن) او ليبياً (القتل) بل نهج جديد هو حكم مريح لأجزاء جبلية وساحلية مريحة مما كان يدعى سورية وترك المناطق غير المريحة او المعادية للناظم بعد تدميرها بالكامل بيد جماعات متناحرة، وانتظروا عما قريب أخبار انتقال النظام النهائي من دمشق تمهيدا.. للتقسيم!
(3) ليس مستغربا على الإطلاق مقاطعة الانقلابيين لمؤتمر جنيف لليمن، وفي هذا السياق لن تسمعوا أخبارا مفرحة (حقيقية) من العراق او سورية او ليبيا فمن أشعل الحرائق وضحى بالطغاة لأجلها لن يقبل بإطفائها قط!
*نقلاً عن “الأنباء”