هل شارفت الرأسمالية على نهايتها؟ 6 – 13 حوار سعيد رهنما مع سام گیندین*

samkindin

سام گیندین

سعید رهنما: على الرغم من التكاليف والتضحيات الجمة، فقد أصاب الفشل كلاً من الستراتيجيات الثورية والستراتيجيات الاصلاحية التي اتبعها الاشتراكيون في مختلف بقاع العالم. وغالباً ما اضطر هؤلاء إلى تغيير مسارهم صوب السير على طريق الرأسمالية. من وجهة نظركم إلى أي حد يتحمل الاشتراكيون انفسهم وزر هذا الفشل، وما هي الدروس التي استخلصناها من هذه التجارب؟
سام گیندین: إن المشروع الاشتراكي هو مشروع بالغ التعقيد، ويحتاج إلى زمن طويل لتطبيقه. ولحد الآن نتساءل هل أصابنا الفشل أو ” أننا لم نحرز النصر لحد الآن”. بالطبع يجب أن نتحمل مسؤولية المشاكل المتعلقة بالتحليلات والتنظيم. فمن الناحية المعرفية، برز تيار ينظر إلى الماركسية كعلم وضع كل القوانين التي تؤشر بشكل مطلق على مسير تطور الرأسمالية. في الوقت الذي لم تؤشر الماركسية إلاّ على بعض الاتجاهات الكلية التي عادت علينا بالفائدة؛ علماً أن البحث في قوانين ثابتة هو الخطأ بعينه.
هذه الأخطاء التي ارتكبت قد استخفت بالواقع الذي يواجهنا. وعلى هذا الأساس توقّع الاشتراكيون أن تسقط الرأسمالية عاجلاً أم آجلاً بسبب فعل قوانينها الداخلية، واعتبرت إنه قد آن الأوان كي يستثمر الاشتراكيون من هذا السقوط. وإضافة إلى ذلك، فقد بالغنا بحدّة وشدّة التناقضات الرأسمالية، واعتبرنا أن تلك التناقضات ستؤدي اتوماتيكياً إلى تثوير العمال. ونتيجة لذلك لم نستطع أن نفهم كم يستغرق من الوقت كي تصبح الطبقة العاملة جزءاً من القوة الاجتماعية التي باستطاعتها أن تحدث التغيير الاجتماعي. هذ “التفاؤل” أدى إلى تجاهل إجراءات الرأسمال من أجل إحداث خلل في قدرات الطبقة العاملة وتحديد أفكارها وترويضها عبر ضغط وسائل العيش ولو لفترة محدودة، وأن لا تدع للطبقة العاملة الفرصة للمشاركة السياسية وصياغة السياسات الستراتيجية. كل ذاك أحدث خللاً في جوهر قضايا التنظيم وأهمية التوعية الراديكالية وتحريك أفراد الشعب. علينا أن نفكر ملياً بأهمية التنظيم، لا أن نفكر فقط بكيفية مسك زمام السلطة، لكي “نبدأ” في الواقع بالجواب على أسئلة أساسية مثل كيف ندرج الاشتراكية في جدول عملنا وكيف نحافظ عليها، وكيف نكسب الشعب إلى جانب هذه العملية البالغة التعقيد والتناقض. لو افترضنا أن العمال سيطروا اليوم على مقدرات الأمور في العالم بشكل سحري، فهل سيستطيعون بأي شكل من الأشكال إدارة المجتمع؟ في أغلب الاحتمالات أنهم “لا” سوف لا يستطيعون ذلك، لأن كل تجاربهم في ظل الرأسمالية لا تؤشر مطلقاً على استعدادهم لذلك وستبدد كل قدراتهم.
في الحديث عن القضية التنظيمية، أكد “جورج لوكاش”** بشكل صحيح على

جورج لوكاش 1885-1971

جورج لوكاش 1885-1971

أن الماركسيين لم يعيروا اهتمام كاف بهذه القضية. وظن الكثير من الماركسيين أن التجربة البلشفية قد قدمت الجواب اللازم الذي يستجيب للمرحلة الجديدة. إن استمرارية بقاء الرأسمالية يتطلب منا أن نعيد النظر بأمور كثيرة في العالم الذي نعيش فيه. وينطبق هذا الأمر على الطبقة العاملة في الغرب حيث كسبت الطبقة العاملة مزايا كبيرة، وهي مستعدة الآن للتخلي عن بعضها مقابل الاحتفاظ بالمكتسبات الكبرى التي أحرزتها. وفي إطار العولمة وفشل الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية، هناك مانع مهم أمام اليأس العام الجارف يتمثل في الإمكانيات والفرص المتاحة. إن ما جعل قضية التنظيم مسألة أساسية هو الحاجة إلى إقامة هياكل يستطيع أفراد الشعب من خلالها العمل وإدراك الموضوع الذي يعملون من أجله، فالاعتماد على النضال أمر مهم جداً.
سعید رهنما: إنني سعيد بطرحكم موضوع التنظيم ويجب العودة إليه لاحقاً. والآن أود أن أسأل ما هو التفاوت بين الثورة الاجتماعية الماركسية القائمة على “الحركة الواعية والمستقلة للأكثرية الشاملة” وبين الثورة البلانكية للأقلية التي تقود الجماهير غير المستعدة؟
سام گیندین: التغيير الثوري يحتاج بالتأكيد إلى قيادة، لأن أفراد الشعب لم يتربوا على نمط واحد، ومن المنطقي أن نبدأ من مكان ما، ولذا علينا أن نبدأ من “بؤرة” من الشعب ممن لديها الاستعداد الأكثر لتنظيم التغيير الراديكالي. ولكن القضية الحاسمة في بناء مثل هذه القاعدة الشعبية أو “البؤرة” والأمر العاجل في هذا المجال هو توسيع الطبقة العاملة، بالمفهوم الأوسع للكلمة، باعتبارها قوة اجتماعية. بالنسبة إلى الاشتراكيين الديمقراطيين، فالقضية تتجاوز اتباع الاشتراكيين سياسة أكثر راديكالية. فالاختلاف يكمن في أن الاشتراكيين الديمقراطيين يسعون إلى الدخول إلى الحكم وتنفيذ السياسات المطلوبة، في حين إن المشروع الاشتراكي يدور أساساً حول توسيع قدرات الشعب. فلا نستطيع أن نصل إلى أهدافنا إلاّ في حالة استطاعتنا أن نوسّع قدرات العمال على التحليل والتفكير وصياغة الستراتيجية والبحث الديمقراطي، بحيث نستطيع أن نوفّر الأجواء ونخلق الهياكل التي يمكن بواسطتها أن ننجز عملنا وأن نقود المواجهات والنضالات ضد الرأسمالية.
إن الكثير من العمال لا يختلفون حول الواقع الحالي السيء الذي يعيشون فيه في ظل الرأسمالية؛ ولكن ما يحد من نشاطهم وحركتهم هو السؤال التالي ” كيف نستطيع أن نواجه الرأسمالية في الواقع؟”. خلاصة القول أنهم لم يعثروا لحد الآن على الأدوات التي يواسطتها يمكن المشاركة بالتغيير المحتمل للرأسمالية. فنقاباتهم محدودة النشاط والأهداف؛ بالطبع يمكن أن تترك النقابات بعض الآثار الايجابية، ولكن ليس على الهياكل الكبيرة التي تهيمن على حياتهم وعلى أن تبلور شكلاً لخياراتهم. وإضافة إلى ذلك، تقف الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مانعاً أمام التغيير، وهذا بحد ذاته جزء من المشكلة. ولهذا يتجه العمال صوب حياتهم الخاصة، ويتعاملون مع الظروف ويسعون إلى تأمين قوتهم. وهنا يصبح الدور الأساسي للمنظمات الاشتراكية هو تعليم وتنوير العمال حول طرق حل مشاكلهم، أما التعليم المتعلق بالنضال، فيجب خلق الهياكل التي يستطيع الشعب خوض النضال بالاعتماد عليها. إنني لا أقصد بشكل مجرد المنظمات السياسية والتنظيمات التي تخوض الانتخابات، بل كل أنواع المنظمات، المنظمات النسوية والمنظمات المناهضة للتمييز العنصري والمنظمات التي تنبثق خلال المسيرة النضالية للشعب. وللتأكيد على أهمية التعليم وعلاقته بالنضالات، أتطرق إلى تجربتي في الحركة النقابية. فعلى الرغم من أن العمال لهم علاقة بالنشاط الفكري ويحبون الإطلاع عليه، إلاّ أن العمال بشكل عام ينظرون إلى التعليم الانتقائي كنوع من الترف إذ لا يرتبط بحياتهم، فهو يرتيط بحياتهم عندما يكون جزءاً من نضالاتهم.
سعید رهنما: من المناسب الاستمرار بتناول هذه النقطة الأخيرة، وخاصة وإنكم قد خضتم نشاطات مهمة في الحركة العمالية وفي أحد أهم وأكبر النقابات العمالية في أمريكا الشمالية، إضافة إلى منجزاتكم في الجامعات.
سام گیندین: اسمح لي أن انقل لكم أحدى التجارب للتأكيد على العلاقة بين الهياكل، وبالتحديد الهياكل التي تحتاج إلى التعليم، وبين النضال. في أواخر السعينيات من القرن الماضي، خضنا، نحن في نقابة عمال صناعة السيارات، مباحثات مع الإدارة حول السماح لقسم من العمال بالمشاركة في دورة تعليمية في المركز التعليمي لمدة أربعة أسابيع، مع تأمين دفع أجورهم المعتادة. وكان ذلك طريق جديد بالنسبة للجيل الجديد من قادة النقابة. لم تكن هذه الدورات، دورات فنية، بل دورات تتضمن مواد في الفلسفة والاقتصاد والتاريخ مصحوبة بأفكار ماركسية مكثفة. وتصادف تطبيق هذا البرنامج مع مجيء جيل جديد من العمال في محيط العمل ومع بدء الهجوم الليبرالي الجديد على العمال. وكان القسم الأعظم من الربنامج مكرساً للنضال ضد الليبرالية الجديدة.
سعید رهنما: في الواقع يثير ذلك الاهتمام، فأنتم نظمتم هذه الدورات… ودفعت شركات صناعة السيارات نفقاتها.
سام گیندین: نعم، في الحقيقة لم تتدخل الشركات في هذه الدورات، وحصلنا أثناء الحوار معها على الأموال، علماً أن جوابها الأول كان لماذا ندفع نحن الأموال حتى نوفر لكم الإمكانية بأن تلقوا دروساً حول الماركسية؟. ومن أجل اتمام هذه الدورات فقد استوعبنا 200 عامل خلال الدورات للعمل كمساعد/ معلم، إلى حد أنهم أصبحوا منظمين. وتوقعنا أنه سيكون باستطاعتنا خلال دورات تمتد إلى عشر سنوات أن نُخرّج 10000 عامل عن طريق هذه الدورات أو دورات أقصر(اسبوع واحد) لتربية الكوادر القيادية للسود وللنساء ولأنصار الحفاظ على البيئة وأمثالهم. وما دامت النقابات تخوض نضالاً مع الشركات، فسيحالف النجاح هذا البرنامج. وبعد أن ينهي الطالب/العامل الدوره ويعود إلى العمل، فسيستمر على خوض النضال ضد التجارة الحرة والمشاركة في المظاهرات ضد تقليص التأمين على العاطلين عن العمل أو على تطبيق شعار العناية الصحية وما شابه ذلك.
إلاّ أنه الوضع تغيّر بعد ذلك، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى العالمي، حيث تراجعت الثقافة النضالية للنقابات تدريجياً. فبعد أن شرعت النقابات بالمهادنة، تغير مجرى التعليم. فمطالبة المشاركين بضرورة النضال ضد هذه المهادنة، على سبيل المثال، بدا إن ذلك يتناقض مع مزاج قيادة النقابات ويثير عدم ارتياحها. وزادت النقابات من رقابتها على ما يجري من بحث في الدورات، ووافق المعلمون على هذه الوجهة من أجل الاحتفاظ على مواقعهم وكي لا يعودوا إلى خط الانتاج، وتخلّوا عن الأمور التي لا ينبغي البحث فيها. وإضافة إلى ذلك، فإن المعلمون وبسبب ابتعادهم عن محيط العمل، لم يعد يتمتعون إلاّ بدعم محدود من قواعد العمال في محيط العمل، وقلّت حظوظهم في انتخابات الوحدات المحلية للنقابات. ويبرر المعلمون مهادنتهم سواء أمام أنفسهم أو أمام الآخرين بأنهم لا يطرحون القضايا الأكبر أمام النقابات، ولكنهم كالسابق قادرون على طرح قضايا ثانوية أقل خطراً مثل رعاية الأطفال والتمييز في العمل والأجور العادلة. إذن وصل حال النقابات إلى وضع عقيم وبدون نتائج إيجابية، حيث أن الكوادر التي شاركت في الدورات التي يقع على عاتقها تدريس المناهج الراديكالية حسبما تعلموه كي يصبحوا نشطاء في النقابة، تخلوا عن مهمتهم.
هناك مسألتان تطرح نفسهما في هذا المجال. المسألة الأولى تتعلق بالعلاقة بين النضال والهيكل التنظيمي. الهيكل التنظيمي مهم، ولكنه يجب أن يكون على صلة بالنضال. وعندما لم يعد للنضال مكان في جدول العمل، فالهيكل التنظيمي سيلعب دوراً سلبياً. المسألة الثانية تتعلق بالاشخاص الذين أنهوا هذه الدورات وعادوا إلى محيط العمل. كانت الدورات مؤثرة، ولكننا لم نستطع بأن نهيأهم كي يلعبوا دورهم كمنظمين. وكانت النتيجة أن الكثير من الطلبة شعروا بعد أنهاء الدورة بأنهم أعلى شأناً من الآخرين إلى حد احتقارهم لعمال المصنع الآخرين؛ إنهم كانوا اشتراكيون وقد تلقوا “المعارف” في حين لم تسنح الفرصة لعمال المصنع التمتع بهذه الفرصة. لقد كانت هناك مشكلة جدية في تشجيع العمال الآخرين في السير على سكة واحدة، وكانت هناك حاجة إلى مهارات ضرورية لأؤلئك العمال الذين لم يمروا بالدورات، ولهذا شعر العمال الذين اجتازوا الدورات بالارتياح بسبب استطاعتهم على نشر افكارهم الراديكالية الجديدة بين أفراد الشعب الذين يوجد بينهم أفراد من ذوي النزعات اليسارية، فيتحدثون عن كوبا ونيكاراغوا مثلاً. ونتيجة لذلك، فبدلاً من أن يعمل قادة الطبقة العاملة في محيط العمل، إلاّ أنهم انفصلوا عن أقرانهم.
سعید رهنما: أي أنهم تحولوا إلى نخب عمالية جديدة؟ من ناحية يبدو الأمر طبيعياً بسبب التحرك وتبادل المواقع الاجتماعية، وهو عامل مهم يجب الأخذ به عند تنظيم العمال.
سام گیندین: إنهم ينظرون إلى أنفسهم كعناصر “تقدمية”، وكانوا يعملون بالأساس خارج نقابة العمال، ولو وجدت في ذلك الوقت أحزاباً اشتراكية حقيقية، لاجتذبت الكثير من هؤلاء العمال وتنظيمهم وتعبئتهم للقيام بأعمال لا يمكن للنقابة أن تؤديها. إذن أن غياب الأحزاب اليسارية لعب هو الأخر دوراً في ضياعهم، وهذا درس آخر يتمثل في غياب الأحزاب اليسارية. فلا يمكن لأكثر النقابات قوة سوى أن تمارس تأثيراً محدوداً على الأوضاع.
سعید رهنما: هذا الموضوع يثير الاهتمام، لأنه يتعلق بالعلاقات بين النقابات العمالية والأحزاب السياسية وبين العملية السياسية. وإضافة إلى ذلك فإنه على علاقة بين المستويات المحلية والمستويات الدولية. وكما أشرتم، عندما تتغير الظروف الدولية، يلاحظ انعكاسات ذلك على المستويات المحلية. وسأعود إلى ذلك بعدئذ. الآن أود طرح سؤال مهم آخر. فكما تعلمون إن ماركس استثنى الدول التي تتمتع بـحق “الاقتراع العام” من العملية الثورية، حيث “باستطاعة العمال فيها الوصول إلى أهدافهم بالوسائل السلمية”. الآن نرى أن الأكثرية الساحقة من الدول تتمتع بحق الاقتراع العام، فإلى أي حد يصبح الانتقال السلمي ممكناً وفي ظل أية ظروف؟ ومن جديد يجري الحديث حول قضية الثورة أم الإصلاح.
سام گیندین: عندما نتحدث عن التغيير الثوري، يجب أن ننظّر بشكل أكثر إلى مفهوم الدولة. تبنت الاشتراكية الديمقراطية الفكرة التالية، وهي…. متى ما يتم تشكيل الحكومة، سيتم الهيمنة على الدولة. ومن ناحية أخرى، يعتقد لیو پانیچ وأنا، إن تقليص الأدوات البرجوازية في الدولة هو الخطأ بعينه. فقد لعبت الدولة طي مدة طويلة بدور في إدارة التناقضات الرأسمالية، ووسعت مجموعة نادرة من القدرات. وبسبب علاقة الدولة بتراكم الرأسمال، فإنها تلعب دوراً في تأمين فرص العمل وجبي الضرائب والحفاظ على القوانين. وعلى الرغم من القيود التي تحيط بها، إلاً أنها تتمتع بالاستقلال النسبي، وهذا ما يطرح أسئلة معقدة حول سبل تغيير مثل هذه الدولة، ومن أين نبدأ؟ انتم لا تستطيعون أن “تمحو الدولة”، لأن المجتمع بحاجة إلى الدولة كمفهوم تنفيذي جمعي، ولكن هل يمكنكم أن تنظروا إلى عملية السيطرة على الدولة كعملية يمكن خلالها الهيمنة على مرافق منها بشكل تدريجي؟ وعلاوة على ذلك، ماذا سيكون دور نقابات العاملين في قطاع الدولة في هذه التغييرات؟
في هذا الإطار يمكنني التطرق إلى مثال مجالس نقابات العمال في مستشفى أونتاريو، حيث يتولى ممثلو الكثير من عمال الصحة رعاية طويلة الأمد للمصابين بالأمراض المزمنة والمعاقين. فالإضراب بالنسبة لهم يعد غير قانوني، والأهم من ذلك أن أعضاء النقابة يعارضون الإضراب، ولا يريدون أن يتخلوا عن خدمة العجزة والعاجزين. وإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا الإضراب سيؤدي إلى عزلتهم في أعين الرأي العام، ومن المحتمل أن يؤدي إلى إضعاف حركتهم. إذن ما العمل؟ لقد اقترح زعيم قسم
(CUPE)
في نقابات عمال قطاع الدولة أن يلجأ العمال إلى الاحتجاج بدلاً من الإضراب. وتقوم هذه الفكرة على اختيار واحدة من المستشفيات، ثم القيام بدلاً من الإضراب بتحشيد عمال إضافيين من سائر الوجبات أو من مستشفيات أخرى كي يؤدي الواجب بالنيابة عن العمال المضربين، بدلاً من تقليص ميزان الخدمات أو زيادتها. لقد وضعت هذه الخطة إدارة المستشفى في زاوية محرجة، هل تمنع ورود هؤلاء العمال مما يعرضها للملامة، أو أن تقف على الهامش وتسمح لنقابة العمال بتولي مسؤولية تقديم الخدمات؟ وهذا ما يطرح بشكل غير مباشر مسألة النوع المختلف من الدولة والتي يلعب فيها العمال أدواراً مختلفة، ويؤدون عملهم على أسس متفاوتة.
إن السؤال الأهم المطروح يتعلق بمسألة كيفية مواجهة الدولة وجهاً لوجه. فبالرجوع إلى قدرة الدولة على المستوى الدولي، فإننا نستطيع أن نقف بوجهها فقط إذا ما أقمنا قاعدة عبر تحشيد أوسع وأعمق الحلفاء. وهنا أشير إلى نقطة هي، أنه في اللحظة التي نصل فيها إلى الوضع الثوري، تحدث الانشقاقات ويمكننا استغلالها، فلو كنا في أقلية فسنكون غير قادرين على مواجهة قوة الدولة ونصاب بالخيبة. إننا لا يمكن أن نتجاهل الأحزاب الديمقراطية بدعوى أنها تنشط في ظل “الديمقراطية البرجوازية” أو المبالغة بدورها بكونها تتمتع بمشروعية انتخابها من قبل أفراد الشعب. ينبغي علينا اتباع طريق توسيع الديمقراطية بالاقتران مع تعبئة أوسع أفراد الشعب إلى جانبنا كي نحرز النصر. وبالطبع وكما تشير التجربة الفنزويلية، يجب العمل في الجيش والشرطة ويكون لنا قواعد فيها لكي نضع هذه المؤسسات على الأقل على الحياد. إن تأمين أوسع قاعدة في المجتمع المدني، إضافة إلى الاختلافات التي تحصل في الجيش والشرطة، من المحتمل أن يحدا من لجوء هاتين المؤسستين إلى العنف. ولكن الضمانة الوحيدة التي يجب أن نتمتع بها في نهاية المطاف هي عمق وسعة القاعدة التي ننشأها في المجتمع المدني.
وهذا يجرنا من جديد إلى هذا السؤال المعقد جداً وهو، ماذا يحصل بعد استلام السلطة؟ إذا كان الأمر يبقى محصوراً بالفوز في الانتخابات واستلام السلطة، دون إجراء “تغيير في الدولة” فماذا يعني ذلك؟ إن من جملة الإجراءات التي يمكن أن نحققها هي تشكيل مجالس العمال والمتمتعين بالخدمات في مختلف المرافق ( مثل المستشفيات أو في مرافق الخدمات الاجتماعية)، بشكل يختلف عن ما كان يطرحه الحكم، والتخلي عن اتحادات المستهلكين الذين يطرحون في الغالب مصالحهم الذاتية. وعلى أساس هذه الهياكل الشعبية التي تتشكل على أسس طبقية، يمكن الاقتراب من شكل الدولة المطلوبة التي تتبنى مختلف أنواع المطاليب وتحمي المبادرات التقدمية بأشكال جديدة من التنظيم، دولة تسير باتجاه إجراء تغييرات طويلة الأمد بما يؤدي إلى تعميق الديمقراطية.
سعید رهنما: عندما نتعامل مع مجتمعات غير ديمقراطية، ولا توجد أحزاب تقدمية مستقلة فيها، وليس لدى العمال أية نقابات مستقلة، وإن وجدت، فهي نقابات صفراء تديرها الحكومة والآخرون، تصبح القضية أكثر تعقيداً. إن البحث في المسيرة غير الثورية في الأنظمة الديكتاتورية ينطوي على صعوبة بالغة. هل هناك أفكار حول أساليب العمل في ظل مثل هذه الظروف؟
سام گیندین: هذه من ضمن مجموعة من المسائل التي يجب أن نتعلم منكم عنها، لأن لديكم تجربة في ذلك، رغم أن لدينا تجارب واستخلصنا الدروس من تاريخنا في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، أي قبل استقرار النقابات بشكل قانوني. يبدو لي أن هناك نقطتان مهمتان. الأولى ، هناك الكثير من العمل الذي ينبغي إنجازه في المحلات وخارج محيط العمل؛ ففي خارج أسوار العمل توجد أيضاً الطبقات. فعندما يتمركز العمل في مكان واحد، في حين أن العمال أنفسهم منتشرون في فضاءات المدينة الواسعة، تبرز مشاكل أكثر. ثانياً، من أين تأتي الثقة بالتغلب على الوضع الراهن؟ وهنا ترتدي تجربة عقد الثلاثينيات من القرن الماضي أهمية خاصة. ففي تلك الظروف، كان العمال على قناعة بأن النشاط النقابي ضرب من الجنون وعمل مستحيل. ولعب الشيوعيون دوراً مميزاً في التغلب على هذه المعضلة. كان لديهم تحليل ووجهة نظر حول الرأسمالية، كما إن علاقاتهم الأممية عمّقت الشعور لديهم بأنهم يخوضون صراعاً أكبر مما أعانهم على التغلب على اليأس الفردي. كل هذه العوامل، إضافة إلى إدراكهم حول طول أمد الثورة، يسّر السبل لإمكانية تشكيل النقابات رغم الظروف “الواقعية” الصعبة التي تحيط بهم. لم ينتم الكثير من العمال إلى الحزب الشيوعي، ولكن استعداد الشيوعيين للنضال عزّز من قناعة العمال بخوض النضال. وحتى عند السؤال من العمال الذين كانوا على عداء للشيوعية، ففي جوابهم كانوا يؤكدون على أنه في عام 1928 وجدوا أن الشيوعيين كانوا الوحيدون الذين بلغوا هذه الدرجة من “الجنون” بحيث فكروا وسعوا إلى تشكيل النقابات في مصنع فورد للسيارات.
وهناك نقطة مهمة أخرى هي أن قسماً كبيراً من العمل التنظيمي يتولاه العمال العاطلين عن العمل، وهذا يعتبر أمر غير مألوف في الظاهر، لأن قوة التنظيم تحتاج إلى من يمارس العمل فعلياً. ولكن ما شهدناه في الواقع هو أن الكثير من العمال العاطلين عن العمل أصبحوا في النهاية قادة “للعمال”، فبعد عثورهم على عمل استمروا في نشاطهم التنظيمي في محيط عملهم الجديد. ففي أفريقيا الجنوبية، لعب التنظيم في أطراف المدن التي يقطنها السود دوراً بالغ الأهمية، ومن ضمنها وقوفهم بوجه تحويل مناطقهم إلى منطلق لمخربي الإضرابات بدلاً من أن تكون بؤرة لنشاط الناشطين في النقابات. كما إن التنظيم في المدارس ينطوي على أهمية بالغة، لأن التلاميذ يلتحقون في نهاية الأمر بقوى العمل ، حيث أن نضالاتهم السابقة في مجال التنظيم يترك أثره في محيط العمل. ففي البرازيل وأثناء مرحلة الديكتاتورية، كانت الكنيسة المحل المناسب والمهم للتنظيم. ومن المهم الإشارة إلى أن النوع المطلوب من التنظيم يجب أن يكون في محل العمل، أي في المكان الذي يتمتع فيه العمال بقوة اقتصادية، إضافة إلى خارج محيط العمل، وذلك لكي لا تصبح نضالاتهم محصورة فقط بالنقابات. وهكذا فلا يقتصر التنظيم فقط على محل العمل، بل يجب المبادرة إلى التنظيم في محلات المدينة وفي المدارس وبين صفوف العمال العاطلين عن العمل. وأظن إن ذلك يكتسب أهمية كبيرة.
سعید رهنما: إن ما أشرتم إليه هي نماذج مهمة للتنظيم في ظروف مختلفة. والآن ننتقل من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي. فمع العولمة والأممية المتزايدة لكل عجلات الرأسمالية، ما هي الفرص أو الموانع الجديدة التي تواجه المدافعين عن الإشتراكية؟ وهل من الممكن أن تقوم الاشتراكية في بلد واحد؟
سام گیندین: قبل الإجابة على هذا السؤال، أود أن أطرح قضية تمركز قوة العمل بالارتباط مع أمميتها. ففي أوائل العقد السابع من القرن الماضي، وضعت قدمي لأول مرة في النقابات، وكانت النقابات تولي اهتماماً كبيراً بالعولمة وبتشكيل النقابات الأممية التي تقف بوجه عملية عولمة الشركات الكبرى. ولكن المشكلة هي أن التوجه في تشكيل النقابات كان في الأساس على غرار التوجه نحو الاتحادات في الشركات على المستوى العالمي. وفي حين كانت الحكومة تتحرك صوب الليبرالية الجديدة والتقشف الاقتصادي والتجارة الحرة، وكان السؤال الواقعي المطروح هو إمكانية تسييس العمال ومواجهتهم للحكومة، وكنا نحتاج إلى تعاون النقابات في بلادنا أكثر من النظر إلى الخارج. في الوقت الذي انعدم فيه التعاون على المستوى المحلي، فعلى سبيل المثال كانت هناك منافسة بين عمال صناعة السيارات وبين عمال صناعة الفولاذ حول العضوية، أو أن عمال القطاع العام على قطيعة مع عمال القطاع الخاص، فكيف يمكن أن نتوقع تضامن جدي بين العمال المكسيكيين؟ فنقابة عمال صناعة السيارات UAW، ومن أجل إضعاف مواقع عمال صناعة السيارات في الولايات المتحدة وكندا، راحت تطالب بزيادة الأجور في معامل فولكس واغن وجنرال موتورز في المكسيك. ولكن القضية هي أن عمال مصانع فولكس واغن وجنرال موتورز في المكسيك كانوا يحصلون على أجور جيدة مقارنة بالعمال المكسيكيين الآخرين، في حين كانت القضية الأساسية هي تأمين التضامن الداخلي بين الطبقة العاملة المكسيكية.
اسمح لي أن أخوض أكثر في البحث في هذه القضية. قمنا بزيارة لمصنع فولكس واغن في ضاحية من ضواحي مدينة بوئبلو التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، والذين كانوا يحلمون بحلم لا يمكن أن يتحقق في العمل في المصنع. ولاحظنا أن العمال يعملون في هذا المصنع بسرعة مدهشة لا يمكن أن يتصورها عمال صناعة السيارات في الولايات المتحدة وكندا. إنهم لو كانوا يعملون بصورة أبطأ وبسرعة منطقية، فسيتسنى للكثير من سكان الضواحي الفقيرة slum أن ينخرطوا في صفوف أجراء مصنع السيارات. كما إننا لاحظنا إن العمال كانوا من الشباب، وعند السؤال عن ذلك من مدير المصنع، أجابنا بأن من يبلغ سن الثلاثين فسوف لا يستطيع العمل بهذه السرعة، وعليه أن يترك العمل. وتأكيداً على ذلك، لم تعد المشكلة في كيفية زيادة أجور عمال صناعة السيارات المكسيكيين مما يؤدي إلى انفصال هؤلاء عن العمال المكسيكيين الآخرين بشكل متزايد، بل المشكلة هي في كيفية تأمين التضامن أكثر مع بقية العمال وسكنة الأحياء الفقيرة. وفي هذا الإطار تعرّض ” الاتحاد الدولي” للطبقة العاملة المكسيكية إلى التشرذم، وليس إلى تعميق التضامن الطبقي بينهم.
بعد هذه الانتقالة المطولة، نعود إلى قضية إمكانية الاشتراكية في بلد واحد. إننا لا نستطيع أن نقوم بثورة في بلد واحد على انفراد. يمكن أن تحدث الثورة في أحد البلدان وأن نحقق بعض المكتسبات والمزايا، ولكن إذا ما بقيت الثورة محصورة في بلد واحد، فستبقى ثورة محدودة بالضرورة. ولكن بما أننا لا ننتظر مكتوفي الأيدي لحين الفرصة كي تندلع الثورات في كل مكان، بمعنى التخلي عن أمل التغيير الاجتماعي، فإننا نستطيع حيثما نكون أن ننجز أي عمل نحن قادرون على إنجازه، وضمن الحدود الممكنة. بالطبع يمكن لنضالاتنا أن تثير المشاعر الأممية، وأن نواجه التضامن الأممي، ولكن تبقى مسؤوليتنا الأصلية هي في إمكانية التغيير في بلادنا. إن أممية النضال تبدأ من بلادنا، فإذا ما أردنا أن نناضل من أجل التغيير في كندا على سبيل المثال، فلنفترض في الوقت نفسه إن هناك شعب آخر يناضل في بلد آخر، حيث يمكن لنضالاتنا، كما هو الحال لنضالاته، أن تصبح مصدر إلهام للآخرين مما يخلق أجواء أوسع للآخرين كي يتوسعوا في نضالاتهم. وعندما لا نخوض النضال، وأن نتساوم مع الضغوط المسلطة علينا، وأن نقبل بمعايير أقل، فهذا ما يضعف النضالات في أماكن أخرى. وعلى سبيل المثال، يمكن أن يحدث ذلك في اليونان، ومن المحتمل أن تشكل سيريزا الحكومة وعليها أن تواجه الضغوط الخارجية المعادية علاوة على الضغوطات الداخلية. ولذا فإن استقرار الحكومة الجديدة والتزامها بسياستها التقدمية بحاجة إلى دعم الحركات الأخرى في أوربا، وبشكل خاص في ألمانيا، حتى ولو اقتصر التضامن فقط على تخفيف ضغوط دولهم على اليونان. إن المأساة لا تنحصر بانعدام مثل هذا التضامن حالياً، بل هو عدم وجود أية حركة من هذا النوع في أي من الدول الأوربية.
سعید رهنما: بدون شك، يجب أن تبدأ الاشتراكية من بلد ما، وأن لا ننتظر أن تنزل علينا الاشتراكية من السماء. ولكن في حالة فقدان الوضع المناسب على المستوى العالمي، فلا يمكن في الوقت الراهن أن يشرع أي بلد من البلدان باتباع سياسة اشتراكية. ففي اللحظة التي تقرر أية دولة تطبيق سياسات اشتراكية قائمة على تحسين ظروف العمل ورفع الأجور والضرائب وغيرها من الخطوات، فإنها ستواجه هروب الرساميل وتفقد موقعها الائتماني وغيرها من المصاعب، وذلك يعود إلى هيمنة الرأسمال العالمي ومنظماته الدولية الثلاثية التي تشمل كل من منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المنظمات الائتمانية الأخرى على الاقتصاد العالمي. استدل من ذلك إننا أمام مسيرة طويلة الأمد للرأسمالية، وإن الهدف الذي يقربنا من الاشتراكية هو الضغط من أجل إجراء إصلاحات تقدمية، ولكننا لا نستطيع الانتقال مباشرة إلى اتباع سياسات اشتراكية.
سام گیندین: إن ما تحدثتم عنه ينطوي على تداعيات. أولاً، يجب على كل حكومة تعلن الاشتراكية هدفاً لها وتستلم السلطة أن تكون أكثر راديكالية، وليس أقل. كما يجب على هذه الحكومة أن تكون على استعداد بأن تجري بعض التغييرات الهيكلية، وتحمل تبعات خروج الرساميل والسيطرة على تخصيص الفوائض المالية من أجل تأميم المنظومة البنكية. ولا أتجاهل في هذا الإطار واقع القيود وضرورة اتخاذ بعض تدابير المصالحة؛ فالقضية تعني وجوب أن يتم هذا العمل بالحفاظ على القاعدة الشعبية وإتجاه الحركة. وهذا يعني العناية بالإعلام والتعليم والبحث الدائم عن المصالحة ودوافعها.هناك فرق كبير بين وجود حكومة تتمتع برأي الشعب وتقول إنها لا تستطيع القيام بشيء وترديد مزايا التقشف، وبين حكومة تتحدث بصدق وعلنية عن المحدوديات وتطرح أوجه التضحيات كجزء من تغيير بناء المجتمع مقابل تعزيز الوضع القائم. إن أهم التدابير التي تتخذها الحكومة هي رفع الوعي الطبقي، وتهيئة القاعدة الشعبية لمواجهة الصعوبات لمشروع التحرك صوب الاشتراكية، وأن تتخلى الحكومة عن وعود الزيادة الآنية والمستمرة للمستويات المادية. فهذا أمر لا يتميز بالسهولة.
سعید رهنما: كل الحق معكم، وهذا ما أود التأكيد عليه وهو عدم إمكانية التحرك المباشر صوب الاشتراكية في بلد واحد.
سام گیندین: هذه القضايا بالغة التعقيد، وخاصة فيما يتعلق بالبلدان الصغيرة مثل اليونان التي لا تتمتع بالاكتفاء الذاتي ولديها مصادر محدودة. فلو فازت سيريزا، فستتعرض إلى ضغوط كثيرة، ومن الضروري تقديم التضحيات. إن بعض دوافع التأييد الواسع لسيريزا هو أن الشعب يعاني الكثير من إجراءات التقشف الاقتصادي، وإن زيادة هذه المعاناة في سير التحولات الراديكالية يمكن أن تؤدي إلى فقدان جزء من الدعم الشعبي لسيريزا. إنني لا أملك أي خيار أقدمه لسيريزا سوى تبيان هذه القضية بشكل صادق؛ يجب الاستفادة من سلطة الحكومة للحصول على بعض المكاسب، كمواجهة الفساد وتقليص حجم رؤوس الأموال المهربة ومعالجة انعدام المساواة والتضحية المتساوية، واقناع الشعب بأن التضحيات السابقة أدت إلى وخامة الأوضاع، في حين أن أية تضحية الآن هي جزء من عملية تغيير بناء المجتمع وإرساء بناء أفضل.
سعید رهنما: كل هذه الأمور تعتمد على الوضع في البلاد وسعة وعمق حركة اليسار. فإذا ما توفر الدعم الشعبي الواسع من أجل السير بتطبيق هذه السياسة، وكما أشرتم أن البلاد تتمتع بالمصادر اللازمة، فمن الممكن عندئذ السير قدماً على نحو متزايد في تطبيق السياسات التقدمية. ولكن مادامت الرأسمالية تتمتع بهذه القدرة والحركة العمالية واليسار على المستوى العالمي بهذا الضعف، فإننا سنعاني من محدوديات جدية.
سام گیندین: ولهذا السبب تكتسب قضية التنظيم مثل هذه الأهمية من أجل إرساء وحفظ القواعد الشعبية. ولكن ينبغي أن لا نفترض عدم القدرة على عمل ما بسبب هذه المحدوديات. فإذا ما أرسي أساس واحد للوعي الطبقي، تتضاعف إمكانية المقاومة الثابتة لمواجهة الرأسمالية. فيمكن إثارة النزاعات بين الشركات، كما يمكن أن يفصل الرأسمال المالي عن الرأسمال الصناعي في ظروف معينة؛ ومن الممكن إلغاء الديون السابقة، كما حصل في جنوب أفريقيا في ظروف حملة الإدانة العالمية للتمييز العنصري ولصالح إلغاء الابارتايد، وإلغاء الديون في فترة الأبارتايد.
سعید رهنما: للأسف، لا يمكن أن نشهد أياً من الحالتين في الظروف الراهنة. فبقدر ما يتعلق الأمر بشركة جنرال موتورز وسائر الشركات المتعددة الجنسيات في كندا، فلو انتهكت الاتفاقيات الخاصة بالامتيازات، من الممكن أن تبادر الشركات إلى تقديم شكاويها ضد الدولة سواء في المحاكم المحلية أو العالمية. وفي حالة فشل اليونان في تسديد ديونها، فإنها سوف لا تستطيع تصدير أجبانها، ولا تستطيع بواخرها الرسو في أي ميناء أو تتعرض هذه البواخر إلى المصادرة.
سام گیندین: إن كل هذه الأسئلة منوطة بالظروف والأوضاع وتعتمد على قدراتنا، وعلى ما يجري في بقاع أخرى وعلى مشروعية القطاعات الخاصة والاختلافات بين الرأسمالية نفسها وغيرها من العوامل. إنني لا أقلل من أثر تلك العوامل، ولكن يجب أن لا نسمح لهذه العوامل أن تشل حركتنا. وفيما يتعلق بالديون على اليونان على سبيل المثال، فهناك احتمال أن تستطيع اليونان أن تدعو أوربا إلى المفاوضات الجديدة من أجل اقناعها بإلغاء هذه الديون بحجة أن ذلك يساعد على تفادي عدم الاستقرار الاجتماعي المتزايد في البلاد، ويساعد على حفظ اليونان في قلب أوربا، وأن لا تصبح اليونان نموذجاً لخروج الآخرين من الاتحاد الأوربي مما يشكل خطراً على جميع الأطراف.
سعید رهنما: الآن أود السؤال عن مقولات أخرى، حول نفس أفكار الاشتراكية. من وجهة نظركم، ما هي المواصفات والخصوصيات الأصلية ” للمرحلة الأولى” للمجتمع الذي يلي الرأسمالية، الاشتراكية، وما هو اختلافها عن تجربتي الاتحاد السوفييتي والصين.
سام گیندین: أتردد وحتى إنني لا أشعر بالارتياح عند التكهن حول المسائل التي تطرح “لاحقاً”. والسبب إننا مازلنا بعيدين كل البعد كي نستطيع وضع مشروع الاشتراكية في جدول عمل اليوم في كندا والولايات المتحدة وأغلب دول العالم، ناهيك عن الخوض في جزئيات مثل هذا النظام وتشريحه في المستقبل. فهناك عدد قليل من الحركات التي تتبنى الاشتراكية، ولا نرى في الأفق بروز منظمة اشتراكية جماهيرية. ولهذا أشعر بالقلق من هذا السؤال، وحول كيف يمكن مجرد الشروع بمشروع اشتراكي. نحن الآن في ظروف بداية جديدة. وبالطبع إن سؤالكم صحيح، لأنه عندما يطرح البديل الاجتماعي الاساسي، فإن غالبية العمال سيتساءلون بأي شيء يمكن تشبيه الاشتراكية.
أعتقد إن القسم الأعظم من الجواب هو فلسفي. فالجواب ينبغي أن يطرح موضوعة أن الرأسمالية لا يمكن أن تكون الغاية التي يطمح إليها المجتمع الإنساني والتي سعى إليها، كما يجب أن نؤمن بإمكان شيء مغاير، وهذا ما يقدر الأنسان على إنجازه عن طريق النضال والتجارب والمعرفة حول الأسلوب في إدارة حياتنا مما يجعلها أكثر غناً. ففي كل مرحلة سعيت إلى تقديم صورة مفصلة عن الاشتراكية وما يشبهها لأفراد الشعب، وكان الجواب الذي كنت أسمعه هو هل تفترض أن الناس يشبهون الآن أجيالكم، طمّاعين وفرديين وما شاكل ذلك. أي أنهم يرون تناقضاً بين صورة المجتمع الآخر وبين أناس اليوم. إذن، إن مهمتنا هي إقناع الناس بأن البشر ووعي الناس يمكنهما أن يتغيرا. بالطبع، فإذا ما تعمقنا بهذا الموضوع وافترضنا أن بمقدور الشعب تصوّر عالم آخر. ولكن بسبب قدرة الرأسمالية فإننا مازلنا بحاجة إلى عدم التيقن من أننا نستطيع من الناحية العملية السير صوب هذا الهدف.
سعید رهنما: صحيح، ولكن لو تبلور في ذهننا نوع الاشتراكية التي نصبو إليها ونوع آمالها، حتى في إطارها الفلسفي، إلى جانب الخصائص الرئيسية لمثل هذا النظام. هل أن كل شيء سيصبح اجتماعي؟ وهل توجد منافسة؟ وما هو التفاوت بين الأجور وغيرها وكيف يتم ذلك؟
سام گیندین: حسناً. وفي الوقت نفسه يجب أن لا نسعى إلى رسم برنامج تفصيلي حول كل شيء، واستطيع القول يجب للمالية أن تتخذ صبغة اجتماعية. فمن الواجب أن يتم تخصيص المالية حسب الأولويات الاجتماعية. وفي حالة عدم استطاعتنا أن نضع حداً لسلطة المال، فيعتبر ذلك إننا غير جادين في تغيير العالم. كما يجب تحويل المنابع الطبيعية أيضاً إلى الملكية الاجتماعية، فهذه الخطوة تعتبر أسهل من الناحية الستراتيجية. بالطبع ستبرز مشاكل كثيرة عندما تتم السيطرة على هذه المصادر والعثور على سوق لها. هذه الخطوات من شأنها السيطرة على فائض المجتمع. إن استلام الشركات الصناعية، التي تعد قسماً من تكامل الشركات العالمية، يعتمد على ميزان قدراتها ومحتواها المحلي وطاقاتها الفنية، وهل يمكنها الاستمرار بفعالياتها. ومن الواضح لو كان المصنع الذي تمت السيطرة عليه “مونتاج”، فبدون توفر الأبحاث والتصاميم والأجزاء المتعلقة بها، فلا نصل إلى أية نتيجة. وهناك مشاكل كثيرة مثل البيئة والحاجة إلى تبديل الكثير من الأدوات الاحتياطية. كما تطرح مسألة برامج التأمين الاجتماعي المناسبة التي لا ترتبط بالسوق، كما يجب رسم سياسة التعليم العام الذي يجب أن يكون من السعة بحيث لا يستثني أحداً من الطلاب. ومن جانب آخر، علينا الافتراض بوجود مجال لنشاط القطاع الخاص. فليس لدينا نيّة بغلق جميع المخازن والمطاعم المنتشرة في شارع “بلور ياكوبين” على سبيل المثال، ولكن من اللازم علينا مراعاة معايير السلامة والحد الأدنى من الأجور وظروف العمل.
وأسمح لي أن أطرح مسألة الضرائب بإعتبارها مسألة مبرمة. فهناك حاجة إلى منظومة عادلة للضرائب بحيث تتجاوز فكرة تجنب الضرائب العامة والضغط على الأغنياء فقط من أجل توفير الأموال للخزينة. وباعتبارها جزءاً من الثقافة التي ينادي بها الاشتراكيون، فيجب مخاطبة الناس بأنكم تريدون نوع خاص من المجتمع، فذلك يعني أن تدفعوا ضرائب أكثر. والمسألة الأخرى التي ينبغي التأكيد عليها هي الانفاق الفردي وإعادة النظر في الأمور التي نعتبرها مهمة في حياتنا. وفي الختام، وبما أن جوابي طويل، فهناك حاجة إلى التفكير أكثر على مختلف المستويات عند الشروع بالحركة صوب الاشتراكية، بمعنى ” تغيير بناء الدولة” دون المس بالديمقراطية وحق الاقتراع العام، بل أن يشمل هذا البناء الإرتفاع بطاقة الشعب من أجل المشاركة في اتخاذ القرارات بشأن حياتهم بشكل دائم وتعزيز هذا التوجه الديمقراطي.
سعید رهنما: السؤال الآخر مرتبط بالطبقات الاجتماعية. فأية طبقة أو طبقات تعد القوة المحركة للتغيير الاشتراكي؟ كان التركيز في الماضي على الطبقة العاملة، ولكن مم تتكون الطبقة العاملة، وهل تشمل العمال من ذوي الياقات البيض والطبقات المتوسطة الجديدة أم لا؟ وكيف ستكون العلاقة معها؟ خاصة وأن هذه القضية ترتدي أهمية خاصة.
سام گیندین: اعتقد أن التعريف المحدود للطبقة العاملة باعتبارها طبقة العمال الصناعيين كان أحد المشاكل العويصة التي واجهتنا. فهذا التعريف يقودنا إلى أخطاء ستراتيجية في الموقف تجاه موظفي الدولة وعمال البريد والفئات الأخرى التي تتلقى الأجور. إن “الطبقة العاملة” هي الطبقة التي لا تملك ملكية خاصة من أجل امرار معيشتها، ولذا تضطر إلى العمل من أجل استلام أجورها، والعمال هم أولئك الذين ليس لديهم سيطرة على قوة العمل. ولكن التعريف الواسع يجب أن لا يؤدي بنا إلى الافتراض بأن الطبقة العاملة متساوية. فعلى سبيل المثال، يشعر المعلمون أحياناً إنهم يمتهنون حرفة تجعلهم ينظرون إلى العاملين الآخرين في المدرسة نظرة فوقية ونظرة احتقار، أو يتحلون أحياناً أخرى بصفات تقدمية ويناقضون النظرة الأولى. والخطأ هنا أننا ننظر إلى العمال كمجموعة ثابتة بسبب عدم الاهتمام بقضايا التنظيم وتعاليم النضال.
لنتطرق إلى مثال يتعلق بالممرضين. لقد حاول “جين ماك آلوي”، وهو منظّم أمريكي بارز، أن يؤسس نقابة للعاملين في عدد من المستشفيات في ولاية نيفادا، التي سُنّت فيها قوانين تحد من نشاط النقابات. وبدأ هذا المنظم، وقد تلقى سابقاً دروساً على يد أحد المعلمين الشيوعيين الذي أشار له: “عندما تباشر بالتنظيم، فينبغي عليك تنظيم الطبقة”. ولذا وضع هذا المنظم جانباً تنظيم الممرضين في نقابة خاصة للممرضين كما هو متعارف عليه في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، ظناً منه أنه سينجح في جمع جميع الممرضين والعاملين في المستشفى في نقابة واحدة. وكان يعتقد أنه لو استثنى عمال النظافة الذين ينظفون أرضية المستشفى من عضوية النقابة، فإن ذلك سيؤدي إلى مشكلة صحية لا يسلم منها أحد. وفي مسعاه هذا، لم يستطع اقناع الممرضين والفنيين في المختبرات لعضوية نقابة تضم جميع العاملين فحسب، بل استطاع التوصل إلى أفضل الاتفاقيات الجماعية في كل مستشفيات نيفادا، في الولاية التي سُنّت فيها قوانين تفرض القيود على النشاط النقابي.
سعید رهنما: هل كان الهدف جمع كل العاملين في كل المستشفيات في نقابة واحدة (هاوس يونيون)؟ إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فلربما تتفقون معي بأن النقابات ذات المهن الواحدة لها مشاكلها الخاصة مقارنة بالنقابات الصناعية (Industrial Union).
إنني أفكر بإمكانية حصول ذلك في كندا ذات الإرث الكبير للنقابات الصناعية. فمن ناحية، أنا أتفق معكم، وقد أشرت إلى إنه في العديد من الدول النامية حيث يفتقد العمال إلى النقابات الصناعية، يضطر هؤلاء إلى الشروع بالنقابات ذات المهنة الواحدة.
سام گیندین:اسمح لي أن أوضح الموضوع. القضية لا تعني وجود نقابة في كل مستشفى. فكل نقابة في أية مستشفى هي كما كانت في السابق جزءاً من نقابة أكبر، مع الفارق أن العمال في سائر المستشفيات موزعين على نقابات مختلفة، فالممرضون في نقابة الممرضين، وعمال المطبخ في عمال الخدمات الخاصة بهم وهلمجرا. قضية النقابة في محل العمل، كجزء من نقابة وطنية أكبر كالتي يستدل عليها ماك آلوي، هي نموذج للنقابة الصناعية التي تضم العمال الماهرين وغير الماهرين في نقابة واحدة، فعلاوة على اقناع الممرضين، يجب أن يجري اقناع النقابة الأممية للعاملين في قطاع الخدمات
(SEIU)
التي كان يعمل لها. ومن المعلوم أن مثل هذا التقسيم معمول به في فروع أخرى. ففي تورنتو، يشارك معلمو المدارس الابتدائية والثانوية وعمال الخدمات وأمناء النقابات في الحضور إلى اجتماعات النقابة. فتجربتي، وبالاقتران مع التفاوض حول كيفية مواجهة الحملات الموجهة ضد التعليم وضرورة تعبئة المجتمع لصالحنا، تشير إلى أنه من الممكن تقارب هذه الفئات العمالية المتبعثرة بشكل أكثر جراء وحدة المصالح.
سعید رهنما: هذا الموضوع يرتدي أهمية بالغة، ويعد مسألة مثيرة في مجال التنظيم، مما يدفعنا إلى إجراء حديث خاص حوله. ليس هناك أي اختلاف حول ضرورة البحث عن تعريف أوسع للطبقة العاملة. ولكن الخلاف حول الأجور والمداخيل ومستويات المعيشة وأمور أخرى، مما يؤدي إلى أن يصبح التنظيم أكثر صعوبة. إن شريحة من العمال التي غدت تعرف الآن بالطبقة المتوسطة الجديدة، تلعب دوراً متعاظماً في السياسة اليوم، ولكن بنحو متناقض. فالكثير منهم، وخاصة في المراتب العليا، هم من أنصار الرأسمالية، وفي الوقت نفسه فإن كل العناصر التقدمية وذات الميول الاشتراكية تنتمي إلى هذه الطبقة. وأظن أن اليسار في مختلف بقاع العالم يتجاهل هذه الطبقة المتوسطة الجديدة، مما يدفعها إلى توجيه أنظارها صوب الليبراليين واليمينيين.
سام گیندین: بالطبع أن تنظيم قوة العمل، في إطارها الواسع، وتحويلها إلى طبقة موحدة تسعى إلى بناء الاشتراكية ولها القدرة على ذلك، تواجه موانع عديدة. وكما أشرتم، هناك مانع مهم هو أن عمال القطاع العام يعتبرون أنفسهم بمثابة “طبقة متوسطة”. وهنا أشير إلى ثلاثة نقاط تفاؤلية. الأولى، فمع استمرار الليبرالية الجديدة بعملية الخصخصة، أصبحت الخدمات الاجتماعية تجارية، وشنت حملة ضد الأجور وظروف العمل في القطاع العام، هذه السياسة من شأنها إزالة المكانة المميزة التي ظن العمال أنهم يتمتعون بها. هذه السياسة قائمة أساساً على تحويل هؤلاء العمال إلى “بروليتاريا” وبالتالي يجري التأكيد على المنافع المشتركة كعمال. ثانياً، وبسبب من كون العمال لا علاقة لهم بوزارة معينة، بل أن لديهم مواقف معارضة أزاء دولة منسجمة، هنا يبدأ الشعور بالتأكيد على أن الطريق الوحيد والممكن للمقاومة هو العمل المنسق لكل عمال القطاع العام؛ سواء أكانوا معلمين أم ممرضين أوعمال مجاري أو عمال نظافة أو عمال رعاية الأطفال. ثالثاً، العمال ليس “فقط العمال”، فهؤلاء يعيشون أيضاً في المجتمع، ويتعرضون للوعي على الدوام ويمضون الكثير من أوقاتهم في وسائل النقل العام، ويتعرضون إلى الإهمال في الرعاية الصحية وتدني التعليم ومخاطر تلوث البيئة ومشاكل أخرى. ولهؤلاء علاقة قريبة مع متاعب الآخرين في نضالهم من أجل توفير الخدمات الاجتماعية وتحسين ظروف العمل، وكل هذا جزء من الصراع الطبقي. إن هذه الأوضاع بمجموعها قد لا تؤدي حتماً إلى نشوء طبقة اجتماعية لها جذور في الطبقة العاملة، ولكن ذلك تأكيد جذري على إمكانية الدفاع عن حاجات ومطاليب المنظمات الاجتماعية وتوسيعها.
أورد لكم أحد الأمثلة على ما أقول. لنأخذ مثال نقابة المعلمين في شيكاغو، في مدينة تضم أعداداً كبيرة من المواطنين السود ومواطنين من أصول لاتينية. لقد بادر المسؤولون إلى زيادة عدد التلاميذ، في ظل تراجع المصادر المتاحة لدى المدارس بشدة، وشنوا حملة ضد المعلمين وحملتهم وزر القصور في استيعاب التلاميذ الجدد. ومن جهة أخرى عمد المتنفذون في الولاية إلى تغيير القانون، بحيث لم يعد من الممكن للنقابة إعلان الإضراب القانوني إلاّ بعد الحصول على نسبة 75% من آراء المعلمين. وقاد اتخاذ كل هذه الإجراءات عمدة المدينة “راهم عمانوئيل” الذي تولى أخيراً مدير مكتب الرئيس أوباما وأصبح وجه بارز في الحزب الديمقراطي. وهكذا توفرت كل الشروط للهجوم على النقابة.
لقد نجحت بؤرة من المعلمين الراديكاليين، الذين عملوا كنشطاء لسنوات في عام 2010 ، في أن تسيطر على نقابة المعلمين، وقررت أن مفتاح النجاح يكمن في التعبئة والتنظيم على مستوى المحلات ومواجهة دعاية الحكومة التي تعلن عن مسؤولية المعلمين والنقابة في تدهور العملية التعليمية. شملت هذه البؤرة العديد من الاشتراكيين الملتزمين بالتعبئة في محيط العمل وخارجه. كان هؤلاء على إدراك بوجوب عدم الاقتصار على المعلمين المناصرين لهم، بل من الواجب مد الجسور مع المعلمين المحافظين. وتم تشكيل تنظيمات في كل المدارس، وأعطي الإذن للمعلمين بالإجازة والتوقف عن العمل وممارسة دورهم كمنظمين وكي يتولوا مسؤولية التنسيق بين اللجان. وتحولت النقابة ذات الطابع التقليدي إلى منظمة تعمل في كل أنحاء المدينة و “تخوض حرباً ضد البلدية”. وهكذا أحرزوا النصر لأنهم لم يطرحوا مطاليب حول علاقاتهم الخاصة بعملهم، بل طرحوا مشكلة التعليم كعنوان لنضالهم وتنظيمهم، مما أدى إلى مشاركة مختلف الفئات من منحدرات سياسية وأيديولوجية مختلفة، وعملوا بشكل خلاّق.
سعید رهنما: في مقالة تحت عنوان” إعادة نظر النقابات، وطرح شعار الاشتراكية” التينشرت في العدد المتعلق بالقضية الستراتيجية في مجلة “سوشالیست رجیستر”، أنهيت بحثكم بقدر من الموضوعات الفلسفية، وكانت جذابة جداة بالنسبة لي. لقد أشرتم إلى “دانيال بن سعيد”***، وقلتم أن “الخيار الوجودي
( Existentialist )
لحياتنا يشكل طاقة يمكن للطبقة العاملة أن تستخدمها لتحقيق غايتها في بناء عالم جديد”.

دانيال بن سعيد 1946- 2010

دانيال بن سعيد 1946- 2010

سام گیندین: في البداية أؤكد مرة أخرى على نقطة معرفية هي أن التاريخ مشروط بالظروف ويستند عليها، وعلى هذا النحو يجب أن نفهمه. إن أصل “علم الغائية”
(Teleology)
هو أن لا توجد فكرة تقول أن الاشتراكية سوف تتحقق وسيتحول العمال إلى ثوريين. ولكن هناك نقطة فلسفية تقول في التجربة، لا يوجد ما يؤكد قدرتنا على الانتصار. القضية ليست تشاؤمية، بل هي المواجهة مع خيار. فعلى الرغم من تضاؤل احتمال الاشتراكية إلى حدود كبيرة، وهناك استدلال مقنع هو أن فرصة انتصار الاشتراكية في مرحلة حياتنا أو حتى خلال المائة سنة القادمة هي ضئيلة، فما العمل؟ بالنسبة لبعضنا، إن أبرز المعاني التي نجدها في حوزتنا هي أن نبقى متمسكين بحلمنا الاشتراكي.
سعید رهنما: حسناً جداً وأشكركم.
ــــــــــــــــــــــــــ
* سام گیندین، منظر، اقتصادي أقدم، ومن القادة السابقين لنقابة عمال صناعة السيارات في كندا
(CAW والآن (UNIFOR)
. استاذ جامعي أقدم وأحد رؤساء تحرير مجلة ” سوشیالیست رجیستر”.
**جورج لوكاش (1885-1971)، فيلسوف وكاتب وناقد ووزير مجري ماركسي. ولد في بودابست عاصمة المجر. بيعده معظم الدارسين مؤسس الماركسية الغربية في مقابل فلسفة الاتحاد السوفيتي. وكان نقده الأدبي مؤثرا في مدرسة الواقعية الأدبية وفي الرواية بشكل عام باعتبارها نوعا أدبيا. خدم لفترة وجيزة كوزير للثقافة في المجر بعد الثورة المجرية 1956 التي قامت على الرئيس ماتياش راكوشي.
***دانيال بن سعيد :
Daniel Bensaïd
ولد في طولوز من أب يهودي جزائري من وهران في ‏25مارس 1946 – 12 يناير. في أعقاب مذبحة 8 فبراير في باريس التي استهدفت الجزائريين فيها، انضم بن سعيد إلى اتحاد الطلبة الشيوعيين. نظرا لضيقه مما اعتبره جمودا فكريا في الحزب، أصبح جزءا من جناح يساري معارض داخل الاتحاد، وكان من ضمن المنشقين الذين فصلوا من الحزب عام 1966. عام 1966 بدأ بن سعيد دراسته في
École normale supérieure de Saint-Cloud
حيث ساهم بتأسيس
Jeunesse Communiste Révolutionnaire
التي تحولت بمرور الزمن إلى العصبة الشيوعية الثورية
(LCR)
.[2] قام، أسوة بدانيال كوهن، بالمشاركة بتأسيس حركة 22 مارس التي اشتركت في أحداث 25 مايو 1968 في فرنسا.لاحقا أصبح منظرا بارزا في LCR وفي الأمانة العامة الموحدة للأممية الرابعة، وأستاذ الفلسفة في جامعة باريس الثامنة. كان عضوا في المؤسسة الدولية للبحث والتعليم. بعيد موته وصفه طارق علي بأنه “مثقف فرنسا الماركسي الأول، الذي كان مطلوبا في البرامج الحوارية وكتابة المقالات والمراجعات في لو موند وليبراسيون.”[2] اشتهر بدراساته حول والتر بنيامين وكارل ماركس، وتحليله لما بعد الحداثة الفرنسية الذي نشر مؤخرا. توفي من السرطان الذي أصيب به كأثر جانبي للأدوية التي كان يتلقاها لعلاج أمراض أخرى.

About عادل حبه

عادل محمد حسن عبد الهادي حبه ولد في بغداد في محلة صبابيغ الآل في جانب الرصافة في 12 أيلول عام 1938 ميلادي. في عام 1944 تلقى دراسته الإبتدائية، الصف الأول والثاني، في المدرسة الهاشمية التابعة للمدرسة الجعفرية، والواقعة قرب جامع المصلوب في محلة الصدرية في وسط بغداد. إنتقل الى المدرسة الجعفرية الإبتدائية - الصف الثالث، الواقعة في محلة صبابيغ الآل، وأكمل دراسته في هذه المدرسة حتى حصوله على بكالوريا الصف السادس الإبتدائي إنتقل إلى الدراسة المتوسطة، وأكملها في مدرسة الرصافة المتوسطة في محلة السنك في بغداد نشط ضمن فتيان محلته في منظمة أنصار السلام العراقية السرية، كما ساهم بنشاط في أتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان ينشط بصورة سرية في ذلك العهد. أكمل الدراسة المتوسطة وإنتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الأعدادية المركزية، التي سرعان ما غادرها ليكمل دراسته الثانوية في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية جنوب بغداد. في نهاية عام 1955 ترشح إلى عضوية الحزب الشيوعي العراقي وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من عمره، وهو العمر الذي يحدده النظام الداخلي للحزب كشرط للعضوية فيه إعتقل في موقف السراي في بغداد أثناء مشاركته في الإضراب العام والمظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي للتضامن مع الشعب الجزائري وقادة جبهة التحرير الجزائرية، الذين أعتقلوا في الأجواء التونسية من قبل السلطات الفرنسية الإستعمارية في صيف عام 1956. دخل كلية الآداب والعلوم الكائنة في الأعظمية آنذاك، وشرع في تلقي دراسته في فرع الجيولوجيا في دورته الثالثة . أصبح مسؤولاً عن التنظيم السري لإتحاد الطلبة العراقي العام في كلية الآداب والعلوم ، إضافة إلى مسؤوليته عن منظمة الحزب الشيوعي العراقي الطلابية في الكلية ذاتها في أواخر عام 1956. كما تدرج في مهمته الحزبية ليصبح لاحقاً مسؤولاً عن تنظيمات الحزب الشيوعي في كليات بغداد آنذاك. شارك بنشاط في المظاهرات العاصفة التي إندلعت في سائر أنحاء العراق للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي البريطاني بعد تأميم قناة السويس في عام 1956. بعد انتصار ثورة تموز عام 1958، ساهم بنشاط في إتحاد الطلبة العراقي العام الذي تحول إلى العمل العلني، وإنتخب رئيساً للإتحاد في كلية العلوم- جامعة بغداد، وعضواً في أول مؤتمر لإتحاد الطلبة العراقي العام في العهد الجمهوري، والذي تحول أسمه إلى إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. وفي نفس الوقت أصبح مسؤول التنظيم الطلابي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد والذي شمل التنظيمات الطلابية في ثانويات بغداد وتنظيمات جامعة بغداد، التي أعلن عن تأسيسها بعد إنتصار الثورة مباشرة. أنهى دراسته الجامعية وحصل على شهادة البكالاريوس في الجيولوجيا في العام الدراسي 1959-1960. وعمل بعد التخرج مباشرة في دائرة التنقيب الجيولوجي التي كانت تابعة لوزارة الإقتصاد . حصل على بعثة دراسية لإكمال الدكتوراه في الجيولوجيا على نفقة وزارة التربية والتعليم العراقية في خريف عام 1960. تخلى عن البعثة نظراً لقرار الحزب بإيفاده إلى موسكو-الإتحاد السوفييتي للدراسة الإقتصادية والسياسية في أكاديمية العلوم الإجتماعية-المدرسة الحزبية العليا. وحصل على دبلوم الدولة العالي بدرجة تفوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة هناك. بعد نكبة 8 شباط عام 1963، قرر الحزب إرساله إلى طهران – إيران لإدارة المحطة السرية التي أنشأها الحزب هناك لإدارة شؤون العراقيين الهاربين من جحيم إنقلاب شباط المشؤوم، والسعي لإحياء منظمات الحزب في داخل العراق بعد الضربات التي تلقاها الحزب إثر الإنقلاب. إعتقل في حزيران عام 1964 من قبل أجهزة الأمن الإيرانية مع خمسة من رفاقه بعد أن تعقبت أجهزة الأمن عبور المراسلين بخفية عبر الحدود العراقية الإيرانية. وتعرض الجميع إلى التعذيب في أقبية أجهزة الأمن الإيرانية. وأحيل الجميع إلى المحكمة العسكرية في طهران. وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، إضافة إلى أحكام أخرى طالت رفاقه وتراوحت بين خمس سنوات وإلى سنتين، بتهمة العضوية في منظمة تروج للأفكار الإشتراكية. أنهى محكوميته في أيار عام 1971، وتم تحويله إلى السلطات العراقية عن طريق معبر المنذرية- خانقين في العراق. وإنتقل من سجن خانقين إلى سجن بعقوبة ثم موقف الأمن العامة في بغداد مقابل القصر الأبيض. وصادف تلك الفترة هجمة شرسة على الحزب الشيوعي، مما حدى بالحزب إلى الإبتعاد عن التدخل لإطلاق سراحه. وعمل الأهل على التوسط لدى المغدور محمد محجوب عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، والذي صفي في عام 1979 من قبل صدام حسين، وتم خروجه من المعتقل. عادت صلته بالحزب وبشكل سري بعد خروجه من المعتقل. وعمل بعدئذ كجيولوجي في مديرية المياه الجوفية ولمدة سنتين. وشارك في بحوث حول الموازنة المائية في حوض بدره وجصان، إضافة إلى عمله في البحث عن مكامن المياه الجوفية والإشراف على حفر الآبار في مناطق متعددة من العراق . عمل مع رفاق آخرين من قيادة الحزب وفي سرية تامة على إعادة الحياة لمنظمة بغداد بعد الضربات الشديدة التي تلقتها المنظمة في عام 1971. وتراوحت مسؤولياته بين منظمات مدينة الثورة والطلبة وريف بغداد. أختير في نفس العام كمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب إستقال من عمله في دائرة المياه الجوفية في خريف عام 1973، بعد أن كلفه الحزب بتمثيله في مجلة قضايا السلم والإشتراكية، المجلة الناطقة بإسم الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، في العاصمة الجيكوسلوفاكية براغ. وأصبح بعد فترة قليلة وفي المؤتمر الدوري للأحزاب الممثلة في المجلة عضواً في هيئة تحريرها. وخلال أربعة سنوات من العمل في هذا المجال ساهم في نشر عدد من المقالات فيها، والمساهمة في عدد من الندوات العلمية في براغ وعواصم أخرى. عاد إلى بغداد في خريف عام 1977، ليصبح أحد إثنين من ممثلي الحزب في الجبهة التي كانت قائمة مع حزب البعث، إلى جانب المرحوم الدكتور رحيم عجينة. وأختير إلى جانب ذلك لينسب عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية ويصبح عضواً في لجنة العلاقات الدولية للحزب. في ظل الهجوم الشرس الذي تعرض له الحزب، تم إعتقاله مرتين، الأول بسبب مشاركته في تحرير مسودة التقرير المثير للجنة المركزية في آذار عام 1978 وتحت ذريعة اللقاء بأحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني وأحد وزرائها( سلطان علي كشتمند) عند زيارته للعراق. أما الإعتقال الثاني فيتعلق بتهمة الصلة بالأحداث الإيرانية والثورة وبالمعارضين لحكم الشاه، هذه الثورة التي إندلعت ضد حكم الشاه بداية من عام 1978 والتي إنتهت بسقوط الشاه في شتاء عام 1979 والتي أثارت القلق لدي حكام العراق. إضطر إلى مغادرة البلاد في نهاية عام 1978 بقرار من الحزب تفادياً للحملة التي أشتدت ضد أعضاء الحزب وكوادره. وإستقر لفترة قصيرة في كل من دمشق واليمن الجنوبية، إلى أن إنتدبه الحزب لإدارة محطته في العاصمة الإيرانية طهران بعد إنتصار الثورة الشعبية الإيرانية في ربيع عام 1979. وخلال تلك الفترة تم تأمين الكثير من إحتياجات اللاجئين العراقيين في طهران أو في مدن إيرانية أخرى، إلى جانب تقديم العون لفصائل الإنصار الشيوعيين الذين شرعوا بالنشاط ضد الديكتاتورية على الأراضي العراقية وفي إقليم كردستان العراق. بعد قرابة السنة، وبعد تدهور الأوضاع الداخلية في إيران بسبب ممارسات المتطرفين الدينيين، تم إعتقاله لمدة سنة ونصف إلى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من قبل المرحوم حافظ الأسد والمرحوم ياسر عرفات، وتم تحويله إلى سوريا خلال الفترة من عام 1981 إلى 1991، تولى مسؤلية منظمة الحزب في سوريا واليمن وآخرها الإشراف على الإعلام المركزي للحزب وبضمنها جريدة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة. بعد الإنتفاضة الشعبية ضد الحكم الديكتاتوري في عام 1991، إنتقل إلى إقليم كردستان العراق. وفي بداية عام 1992، تسلل مع عدد من قادة الحزب وكوادره سراً إلى بغداد ضمن مسعى لإعادة الحياة إلى المنظمات الحزبية بعد الضربات المهلكة التي تلقتها خلال السنوات السابقة. وتسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية حتى نهاية عام 1992، بعد أن تم إستدعائه وكوادر أخرى من قبل قيادة الحزب بعد أن أصبح الخطر يهدد وجود هذه الكوادر في بغداد والمناطق الأخرى. إضطر إلى مغادرة العراق في نهاية عام 1992، ولجأ إلى المملكة المتحدة بعد إصابته بمرض عضال. تفرغ في السنوات الأخيرة إلى العمل الصحفي. ونشر العديد من المقالات والدراسات في جريدة طريق الشعب العراقية والثقافة الجديدة العراقية والحياة اللبنانية والشرق الأوسط والبيان الإماراتية والنور السورية و"كار" الإيرانية ومجلة قضايا السلم والإشتراكية، وتناولت مختلف الشؤون العراقية والإيرانية وبلدان أوربا الشرقية. كتب عدد من المقالات بإسم حميد محمد لإعتبارات إحترازية أثناء فترات العمل السري. يجيد اللغات العربية والإنجليزية والروسية والفارسية. متزوج وله ولد (سلام) وبنت(ياسمين) وحفيدان(هدى وعلي).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.