هل شارفت الرأسمالية على نهايتها؟ 10-13 حوار سعید رهنما مع کوین اندرسن*

qweenanderson

کوین اندرسن

سعید رهنما: على الرغم من التكاليف والتضحيات الجمّة، فقد أصاب الفشل كلاً من الستراتيجيات الثورية والستراتيجيات الاصلاحية التي اتبعها الاشتراكيون في مختلف بقاع العالم. وغالباً ما اضطر هؤلاء إلى تغيير مسارهم صوب السير على طريق الرأسمالية. من وجهة نظركم إلى أي حد يتحمل الاشتراكيون انفسهم وزر هذا الفشل، وما هي الدروس التي استخلصناها من هذه التجارب؟
کوین اندرسن: لقد كان لدينا صعود وهبوط. وفي الوضع الراهن، تقف الرأسمالية في مواجهة الحركات الاجتماعية بقدرات كبيرة جداً، إننا لو قارنا موقعها النسبي مع ما كانت عليه في عقد التسعينيات من القرن الماضي لوجدنا أنها ليست بتلك القوة. ولكن الرأسمالية مرت في العقد الثاني من القرن العشرين بموقف ضعيف، وتكرر هذا الضعف حتى بعد الحرب العالمية الثانية إلى حد ما. ومر اليسار هو الآخر بصعود ونزول أيضاً، ولم يتعرض للهزيمة الساحقة خلال كل تلك المراحل. وفي الأماكن التي تعرض فيها اليسار للفشل الذريع هو في مثال الاتحاد السوفييتي. ويمكن الرجوع إلى ما أورده لينين في مؤلفه ” الدفاتر الفلسفية – دفتر هيغل” حين قال: إنني أنظر إلى هذه الهزائم بمثابة ظواهر عكسية على تلك الهزائم. فالثورات التي حدثت تحولت بسرعة إلى شيء مغاير لهدف المشاركين فيها. وبدون شك، يتحمل اليسار وِزر هذه الهزائم الثقيلة، ويتحمل حتى الاشتراكيين المتمرسين في عهد ماركس جزءاً من هذا الفشل عندما أبدوا الدعم للديكتاتورية البونوبارتية في فرنسا. لقد طالب بعض زعماء اليسار، وعلى الأغلب بدون وعي، بتخلي الفريق الحاكم الموجود عن السلطة كي يحلّو محلهم. وعلى النطاق الأممي، فقد انطوت الثورة الروسية على أكبر الآمال، وعلى أكبر الهزائم لنا في الوقت نفسه. ولكن من أجل وصف هذا الحال، يجب توضيح مسألتين. فالثوريون الروس واجهوا أعتى القوى المعارضة لهم، مما يفسر لجوءهم إلى الإرهاب (بالطبع دون أي تبرير لذلك). ثانياً، ينغبي الأخذ بنظر الاعتبار أن الثوريين الليبراليين الديمقراطيين لم يكونوا بعيدين عن العنف. فقد تحولت ثورة 1789 الفرنسية في مرحلة الإرهاب الأكبر إلى نظام استبدادي للغاية، ثم تحولت إلى نوع معتدل من الدولة الاستبدادية في عهد نابليون الأول، مع احتفاضه ببعض الجوانب الثورية الأولى، ولكنه وضع على الهامش الأهداف الأعمق كإلغاء العبودية.
ويقترن كل تغيير راديكالي اجتماعي على الدوام بالكثير من التناقضات، وهذه الحالة تمثل جزءاً من التجربة الإنسانية. ويحب الألمان ترديد المثل التالي: “حيثما يوجد ضوء يوجد ظل أيضاً، وأينما يوجد هناك ضوء فهناك أيضا ظل”. وعلى أي حال فهناك أناس، ومن ضمنهم من اليسار المناهض للستالينية، يعتبر أن مصير الثورة الروسية له صلة بالمقاطعة والعدوان والحصار الأمبريالي فحسب، وبذلك فهم يرتكبون خطأً جسيماً. وقد لجأ اليعاقبة الليبرليين أيضاً إلى هذه الاستدلالات كي يبرروا توسلهم بالإرهاب. ولكن مثل هذا الاستدلال غير كاف، شأنه في ذلك شأن الاستدلال القائل بالتخلف الاقتصادي في روسيا. إن الانتقاد الذي يوجهه اليسار الماركسي إلى نفسه ينبغي أن يكون انتقاداً لا رحمة فيه، ويقترن ذلك بتوضيح الأسباب التي أدت إلى صعود أفراد مثل ستالين وماو وغيرهم.
سعید رهنما: يمكن الرجوع إلى هذه القضية مرة أخرى، ولكنني أود طرح السؤال الثاني. إن الثورة الاجتماعية الماركسية قائمة على “الحركة الواعية والمستقلة للأكثرية الساحقة” في عملية طويلة الأمد ، خلافاً للثورة البلانكية القائمة على الأقلية التي تقود الجماهير غير المستعدة. من وجهة نظركم كيف يمكن بلوغ ثورة ماركسية وما هي مستلزمات هذه العملية؟
کوین اندرسن: ينبغي أن ندقق أكثر في معنى الفكرة حول المفهوم الماركسي للثورة مقابل المفهوم البلانكي من ناحية أخرى. فكما تعلمون، فإن ماركس كان أكثر أيجابية من الثوريين الفرنسيين في حديثه عن بلانكي، حيث أثنى عليه كثيراً. ولقد استُخدم مصطلح ” البلانكية” في المعجم الماركسي لاحقاً، وكما أشرتم إلى أن ماركس ميّز بين الخطوة الفردية للطليعة وبين الحركة الواعية للأكثرية الساحقة. ويختلف المفهوم الماركسي عن مفهوم لاسال** الذي آمن بالحركات الجماهيرية، ولكن بالطبقة العاملة فقط، واعتبر الفلاحين بشكل عام فئة متخلفة ورجعية، وتبنت هذه النظرة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية ومنهم كاوتسكي.

فرديناند لاسال 1825-1864
وهنا اسمح لي أن أوضح قضية ملتبسة تدّعي أن ماركس اعتبر الفلاحين قوة غير ثورية ينبغي عزلها. لقد اعتبر ماركس الفلاحين قوة محافظة في إطار الانقلاب البونابرتي في عام 1851، ولكن ما جرى هو تفسير خاطئ لوجهة نظره الشاملة حول الفلاحين في مرحلة الرأسمالية الحديثة. وفي الحقيقة إن ماركس في مؤلفه “نقد برنامج غوته” (1875) شنّ حملة على لاسال منتقداً وجهة نظره حول عزل الفلاحين، كما أنه عبّر عن دعمه بحماس لمؤلف أنجلز “الحروب الفلاحية في ألمانيا” (1852)، وأكد على أنه يرتبط بالزمن المعاصر، وأعتبر ماركس الفلاحين فئة ثورية مهمة.
كما أن تعبير” الأكثرية الساحقة” أيضاً، سواء أكان مبنياً على الوعي الاجتماعي أو على القدرة الكامنة الثورية، فهو غير دقيق للغاية. وإضافة إلى ذلك اعتبر ماركس الطبقة العاملة مؤلفة من عدة شرائح. ولهذا لا اعتقد في هذا الإطار أن مفهوم 99% مقابل 1% (المتداول) هو مقبول .
سعید رهنما: إنني عن وعي أميّز بين نوعي الثورة، لأنني على اعتقاد بأن جميع الثورات التي جرت بأسم ماركس هي نوع من ثورات الطليعة وبلانكية وثورات سياسية وليست ثورات اجتماعية. وعلاوة على ذلك، فإن عدم وجود نشاط للأكثرية، سواء الطبقة العاملة أو عناصر من غير الطبقة العاملة، فإن ذلك يصبح أشبه بما شهدناه وسنواجهه. وهناك أمثلة أخرى، كتلك التي حصلت في بلادنا (ايران)، فإن الجماهير غير المستعدة وقعت تحت تأثير القوى الرجعية، وعادت على البلاد بنتائج كارثية انتم على إطلاع بها. اعتقد من الواجب الاستعداد للثورة الاجتماعية، وأن ندقق هل تنخرط الأكثرية الواعية في الثورة وليس الأقلية التي تقود الجماهير غير المستعدة، وتستلم السلطة على حين غرة.
کوین اندرسن: أتفق معكم من حيث الأساس، ولكنني أظن أن مصطلح “الأكثرية” هو مصطلح عام، ومن اللازم أن نتحدث عن الطبقات الاجتماعية والمجاميع الاجتماعية. لا شك أن الثورة هي عملية، ليس فقط كونها تحتاج إلى زمن طويل كي تنضج الحركة الجماهيرية وتتكامل، بل لأنها تمر بفترات صعود ونزول خلال مسارها. نحن نعيش في وضع متفاوت حالياً، فحتى بداية عقد الثمانينيات، ساد الاعتقاد في الحركات الجماهيرية في بقاع كثيرة من العالم أن هناك إمكانية واقعية للهيمنة المطلقة على الرأسمالية. ولكن بعد عقد الثمانينيات، وخاصة بعد عام 1980 تغير الوضع. أنظر إلى الشعار المتداول الآن حول ” العالم الآخر الممكن”؛ فلا نعثر في هذا الشعار على أي مظهر إيجابي. فمن ناحية، أصبحنا أشبه بالشخصيات الرئيسية في القصص التقليدية الفرنسية، حيث فقدما كل أوهامنا خلال الثلاثين سنة الماضية. إن هذه النتيجة تثبت انهيار غالبية أشكال الشيوعية الدولتية في الفترة بين 1989-1991. ولكن اليسار بهذه الأوهام فقد الثقة بنفسه حول إمكانية بناء عالم جديد؛ بسبب قدرة الرأسمالية، ومن المحتمل قبل ذلك فقدان الثقة بقدراته. وكان من نتيجته هو ما آلت إليه الثورة الروسية والصينية، ولا نتحدث عن مصير الثورة الايرانية، مما خلق لدينا قدراً من التردد. كنت على تماس مع اليسار الإيراني منذ عام 1978، وأستطيع أن أجزم بأنه لم يكن اليسار خالياً من الميول الاستبدادية. فلو استلم اليسار السلطة في إيران، فإنني لست مطمئناً عن نتيجة ذلك. وعلى هذا النحو، فإنني لست على يقين بإمكانية اسقاط الرأسمالية، والأهم من ذلك أننا لا نثق بقدرتنا على الذهاب إلى أبعد من ذلك.
اليوم، كما هو الحال في عام 1900، يبدو لي أن من غير الممكن قهر الرأسمالية. ولكن المصاعب الآن تبدو أكثر مما كانت عليه في عام 1900، ففي ذلك العهد لم تكن لدينا تجربة سلبية في استلام السلطة بأسم الاشتراكية كما هو حالنا اليوم. وهناك إحباط كبير يقترن بتجربة الاشتراكية الديمقراطية في بلدان كالسويد وألمانيا. وعلى الرغم من إهدافها المحدودة قياساً باليسار الثوري، فإنها لم تستطع تحقيق أهدافها.
سعید رهنما: بالضبط، ولهذا السبب أشرت في أول سؤال لي إلى فشل الستراتيجية الثورية والستراتيجية الإصلاحية. فقد سارت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية على سكة اليمين، وأنخرط البعض في سياسة الليبرالية الجديدة. إلاّ أن السؤال الأصلي الملح هو ما هي العوامل التي أدت إلى هذا الإخفاق. لا شك أن هناك عامل قوة الرأسمالية، ولكن في الوقت نفسه هناك العامل النظري والتطبيقي لحركتنا.
کوین اندرسن: منذ قيام الثورة الروسية، وعلى الأقل منذ بروز الستالينية ولحد الآن، يمكننا أن نشير إلى أن هناك عجز ديمقراطي في حركتنا. لقد وجّه ماركس وأغلب الاشتراكيين في عهده انتقاداتهم إلى الليبرالية الديمقراطية، علماً أنهم كانوا يميزون بين الليبرالية الديمقراطية وبين الاستبداد المحافظ. ولكن الكثير من اليساريين الماركسيين تناسوا هذا التمايز. فنحن نجد اليوم أن بعض اليسار الماركسي يناصر أحمدي نجاد والأسد وصدام حسين وآخرين غيرهم، بما فيهم رجال العصابات في مناطق اوكرينا الشرقية. هذه الظاهرة تعود بنا إلى حال البونابارتية في أواسط القرن التاسع عشر، حيث بادر فريق من اليسار بحماية ذلك النمط من الاستبداد. لقد اعتبر ماركس نفسه جزءاً من الحركة الديمقراطية. انتم تشيرون إلى الثورة الاجتماعية، في حين اهتم ماركس أيضاً بالثورة السياسية. ولحد الآن تهيمن الأنظمة الاستبدادية على جميع بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، ومن الواجب علينا أن ندعم الثورات الديمقراطية، كما فعل ماركس في حينه. لقد عاش ماركس في عالم لم يكن وقتها أي مفهوم دقيق للديمقراطية. وفي تلك المرحلة، كانت الولايات المتحدة هي الأقرب من بين الدول الكبرى الأخرى من النظام الديمقراطي، ولكن النقيصة الكبرى في نظامها هي العبودية في قطاع مهم من الاقتصاد وفي المجتمع؛ وحتى انجلتره التي كانت تتمتع بحريات ليبرالية كثيرة، فقد كانت المِلكية معيار وشرط المشاركة في الانتخابات، وبذلك حُرم العمال من المشاركة في الانتخابات، أما الدول الأخرى فقد حكمتها ديكتاتوريات مَلَكية استبدادية. وعندما كان ماركس يدعم الثورة، فقد كان أحياناً لا يحدد نوع الثورة التي يتحدث عنها، لأنه اعتبر أن الثورة عملية ذات عدة أوجه، فإذا ما أحرزت النصر فهي ثورة ذات بعد اجتماعي. بالطبع ميّز ماركس بين ثورة عام 1848 وبين كومونة باريس في عام 1871، علماً أن الكومونة كانت ضد النظام الاستبدادي، وكانت الديمقراطية جزءاً من جدول عملها.
سعید رهنما: لا شك، إن جميع الثورات كانت ثورات سياسية يتولى البيروقراطيون السلطة ومهمة تحقيق الثورة الاجتماعية. وهنا أود طرح السؤال الثالث. لقد اعتبر ماركس “أن العنف هو عتلة الثورة”، وقد استثنى من ذلك الدول التي يتمتع مواطنيها “بحق الاقتراع العام”، حيث “يستطيع العمال الوصول إلى أهدافهم عبر الطريق السلمي”. حالياً، في أكثرية البلدان يتمتع المواطنون بحق الاقتراع العام، فإلى أي حد وفي ظل أية ظروف يمكن الانتقال إلى الاشتراكية عبر الطريق السلمي.
کوین اندرسن: لو ننظر إلى فرنسا في عام 1968، لوجدنا أن الحركة كانت غير عنفية إلى حد بعيد. فقد تم إشغال المؤسسات الرئيسية، باستثناء الجيش والشرطة، من قبل جماهير ذات المزاح الثوري. ولا أعتقد أنه تم إطلاق أية رصاصة. وقد لعب الحزب الشيوعي دوراً هاماً في إقناع العمال بالقبول بالانتخابات الجديدة وزيادة الأجور والتخلي عن النشاطات الجارية، وبذلك فشلت الحركة.
وكما أشرتم في مقالتكم حول إمكانية بلوغ العمال أهدافهم بالوسائل السلمية نقلاً عن ماركس، فقد تحدث ماركس عن إجراء التغييرات عن طريق الانتخابات. ولكن عند الحديث عن إمكانية الطريق السلمي، أضاف ماركس قيداً آخراً بالارتباط مع مقاومة البعض الذين لهم مصلحة بعودة الأوضاع السابقة، بحيث تضطر الحركة السلمية بالتحول إلى حركة عنفية. ويعطي ماركس مثلاً على ذلك في الحرب الأهلية في أمريكا، حيث جرى قمع المتمردين بقوة المجلس والقانون. ويذكّر ماركس بالتغييرات التي جرت في أعقاب الحرب الأهلية في أمريكا، وخاصة تحرير العبيد بدون دفع غرامات إلى طبقة أرباب العبيد التي أضمحلت عملياً، واعتبر هذه التغييرات بمثابة ثورة. ولكن ما حدث لم يكن من صلب إرادة الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن، فقد كان برنامجه محافظاً جداً إلى حد أنه أراد تحرير العبيد بصورة تدريجية مع دفع غرامات إلى أرباب العبيد. ولكن ضغط الأحداث والأوضاع التي استجدت، وخاصة الذهنية الثورية للأمريكان من أصول أفريقية الذين عانوا خلال فترة طويلة من ظلم أرباب العبيد، أديا في النهاية إلى هذا التغيير الثوري.
وبشكل عام ، فإنني أظن وكما أشار ماركس إلى ذلك، أن هناك إمكانية للانتقال إلى الاشتراكية بالوسائل السلمية في ظل سلطة قانونية طويلة الأمد وعبر عملية ديمقراطية. أما اللجوء إلى الوسيلة الثانية، فيرتبط بتجارب القرن العشرين مما يحتاج إلى قيد إضافي. ففي القرن التاسع عشر لم تمتلك الولايات المتحدة جيشاً نظامياً، ناهيك عن الأجهزة الأمنية الوطنية كـ “أف.بي.آي، و سي. آي أي.، و أن.أس.آي ومثيلاتها”. أما اليوم فقد أصبحت الدولة الأمنية الوطنية صفة ملازمة للرأسمالية الحديثة، بحيث يعمد أفراد من أمثالي، ممن يتبنون الماركسية – الإنسانية، إلى طرح شعار إصلاح الرأسمالية. فهذه القوة لا تنزاح ببساطة من الميدان؛ ومن البديهي أنها تصمم على المقاومة ولديها آليات كثيرة من القوة يمكنها الاستفادة منها. فحتى لو استطاعت الحركة الثورية احتلال المصانع ووسائل النقل وأجهزة الإعلام والمدارس وغيرها كما جرى في فرنسا عام 1968 ، فإن قوى القمع كالجيش والشرطة تستطيع أن تخمد مثل هذه الانتفاضة، إلاّ إذا انهارت هذه الأجهزة من داخلها.
ونستطيع القول، أنه منذ أن شرع ماركس بتدوين مؤلفاته، فقد جرت عملية مزدوجة؛ فمن ناحية ونتيجة لتعاظم الحركة الاجتماعية الشعبية في سنوات الأربعينيات والخمسينيات في أغلب بقاع العالم ودمقرطة المجتمعات، اتسعت حريات التعبير واكتسب المواطنون الكثير من الحقوق الأخرى. وفي الجانب الآخر، فإننا نشهد زيادة في القدرة على المراقبة والتحول إلى الأنظمة البوليسية والاستفادة من التكنولوجيا على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، تستخدم شرطة لوس انجلس أجهزة ” الاشعة اللاذعة”
(sting ray)،
وهي وسيلة شبه خفية تستطيع مراقبة كل التلفونات وجمع كل المعلومات حول المتظاهرين، إضافة إلى مراقبة المشاهدين في مساحة واسعة.

سعید رهنما: مع العولمة المتزايدة وأممية كل عجلات الرأسمالية، ما هي الفرص والموانع الجديدة التي تواجه المدافعين عن الاشتراكية؟ وهل من الممكن في ظل العولمة بناء الاشتراكية في بلد واحد من حيث الجوهر؟
کوین اندرسن: لا يمكن للاشتراكية أن تقوم في بلد واحد، باستثناء عدد محدود من الدول الأكثر تطوراً. ولا شك أنه من غير الممكن تحقيق الاشتراكية في بلدان صغيرة مثل فنزويلا. وفي روسيا أيضاً، على الرغم من سعتها، فلا يمكن تحقيق ذلك بسب الضعف في تقدمها الاقتصادي.
إن ما أفرزته العولمة هي أممية النضالات. وكمثال على ذلك ، فقد تم القبض على طفل سارق في المكسيك، مما أدى إلى اندلاع المظاهرات في كاليفورنيا. إن كل ما يحدث في كل بلد سرعان ما يترك أصداءاً في العالم. ونشاهد اليوم أشكالاً جديدة من التضامن. أنظر إلى ثورات الربيع العربي في عام 2011، وكيف سرت إلى بلدان أخرى. فلم تحدث مثل هذه الأمور منذ عام 1848 وإلى الآن، بما في ذلك عدد الأنظمة التي انهارت، منذ عام 1968 وحتى الآن. ولكن في الوقت نفسه، يلاحظ وجود موانع أكثر تواجه الحركات الراديكالية. فالرأسمالية متحركة، والقمع هو الآخر متحرك. هي ذي التحولات المتناقضة الجارية في العالم. لا أعتقد أن الدولة – الأمة قد ولّى زمانها، ولا أظن اليوم أن الرأسمالية العالمية متميزة عن الراسمالية الوطنية الموجودة لدينا، وإلاّ فسوف لا نشهد أية منافسة بين الولايات المتحدة والصين وأوربا وروسيا. وإضافة إلى ذلك، فإنني اعتقد أن اتباع اشكال من القومية التقدمية هو كما كان في السابق يعتبر منحى ذو قيمة ـ عندها سوف أكون في صف الأقلية من بين اليساريين. إن أبرز نموذج للحركة القومية حالياً هي الحركة الفلسطينية، ومن الممكن الإشارة إلى الأكراد أيضاً. ولكن شريحة من اليسار العالمي تدين كل أشكال القومية. إلاّ أن ” زاپاتیست‌های چیاپاس” في المكسيك أبطال عصرنا، يضفون على أنفسهم صفة الحركة التحررية القومية لأمليانو زاباتا*** ويتعرض ممثلي لحركة جنوب المكسيك للسكان الأصليين

أمليانو زاڀاتا
للقمع والعسف. إن الفسطينيين والأكراد وأنصار زاباتا يتمتعون بنوع من الوعي القومي الذي ينطوي بدون شك على محتوى ثوري. بالطبع نحن نعيش في مرحلة تختلف عن مراحل العقد الخامس والسادس من القرن العشرين، حين انتشرت على نطاق واسع أعداد كثيرة من الحركات القومية التقدمية في بقاع العالم المختلفة، ولكن يجب أن لا نتحدث عن العولمة كواقع منجز، فإذا وضعنا الحركات القومية على جانب، فيبدو لنا اليوم أن هناك رأسمالية عالمية واحدة أو آليات رأسمالية واحدة، ولهذا يجب أن تتحول كل الحركات إلى حركات عالمية وليست محلية أو قومية. بالطبع نحن نعيش مرحلة جديدة.
سعید رهنما: تبرز هنا نقطتان؛ بدون شك هناك عناصر لها قيمة وتقدمية في الحركات القومية. ولكن أظن أن الحركات القومية في عقد الخمسينيات والستينيات كانت لها علاقة بـ”البرجوازية الوطنية”، هذه البرجوازية التي لم يعد لها مكان الآن تقريباً بفضل الأممية المتواصلة للرأسمال، ولا نجد أي بلد متحرر من سلطة الرأسمال الكبير وبأشكال متنوعة. من الممكن العثور على رأسمال وطني صغير أو متوسط في مختلف البلدان، ولكنها من الناحية الاقتصادي والسياسية لا تلقى الدعم والحماية من أية حركة قومية أصيلة. النقطة الثانية، من الصحيح القول أن هناك منافسة بين الرأسمال الكبير للاقتصاديات الكبرى في العالم، ولكن في الوقت نفسه تمتلك الرأسمالية مؤسسات تجارة ومالية أممية، يتم عن طريقها فرض القواعد والقرارات الليبرالية الجديدة. ولم يكن لهذه الآليات أي وجود في عهد ماركس أو في مرحلة الثورة الروسية. وهذا ما يخلق تعقيدات جمّة أمام كل حركة تسعى للسير صوب الاشتراكية في بلد واحد.
کوین اندرسون: لا شك أن النقطة الثانية من شأنها أن تضعف الاشتراكية الديمقراطية. وكما يُشار، فإن بعض أعضاء هذه المؤسسات ينتمون إلى الدول الاشتراكية الديمقراطية، ولا يمكن التمييز بينهم وبين أعضاء الجناح اليميني. إننا نتابع عمل صندوق النقد الدولي في العقود الأخيرة، ونحن الآن شهود على خطوات الاتحاد الأوربي في خنق اليونان. كل ذلك يشكل تأكيداً على واقع نعيشه هو عدم إمكانية نجاح النموذج البلشفي، وكذلك النموذج الاشتراكي الديمقراطي. لقد طرأ ركود اقتصادي في عقد السبعينيات. وحدث ذلك قبل مجيء ثاتشر والليبرالية الجديدة، واتبعت في الكثير من هذه البلدان الوجهة الكينزية، ولكنها فقدت أنفاسها من الناحية الاقتصادية.
سعید رهنما: إنكم على حق. فقد انحدرت الحكومات الاشتراكية الديمقراطية صوب اليمين بسبب فقدانها للراديكالية وبسبب الضغط المسلط عليها من قبل السلطة العالمية لليبرالية الجديدة. وكمثال على ذلك، ما جرى قبل بضع سنوات حيث بادرت شركة “مودي” إلى تخفيض المرتبة الأئتمانية لحكومة الاشتراكية الديمقراطية في السويد وخلقت لها الكثير من المشاكل الجدية، ولكنها الآن تحتل أعلى مرتبة ائتمانية
(AAA).
هي ذي الآليات المقتدرة للرأسمالية العالمية.

کوین اندرسن: هذا الموضوع بالغ الأهمية. فهناك طريق آخر شهده العالم وهو ما يطلق عليه الفرنسيون
” les trente glorieuse”
( ثلاثون سنة مهيبة)، وهي الفترة الممتدة بين عام 1945 وحتى عام 1975. فبعد الحرب وبعد جفاف المصادر الرأسمالية والمادية الهائلة إثر الحرب في أوربا الغربية، أصبح من الممكن انعاش الاقتصاد عن طريق فرض أجور متدنية، ولكن بفعل الضغط الذي مارسه العمال واليسار على الحكومات تحول ذلك إلى ما عرف بـ “دولة الرفاه”.

سعید رهنما: نصل الآن إلى عتبة سؤال آخر، من وجهة نظركم ماهي خصائص ومؤشرات ” المرحلة الأولى” للمجتمع الذي يلي الرأسمالية، الاشتراكية؟ وكيف يمكن مقارنتها بما تم تجربته في الاتحاد السوفييتي والصين؟
کوین اندرسن: لنضع جانباً النماذج السلبية الموحشة لنظام ” پل پوت” في كمبوديا أو في كوريا الشمالية، إن ما أقدمت عليه الثورات التي جرت في الفترة منذ عام 1918 ولحد الآن هو سيطرة الدولة على الاقتصاد مع إجراء إصلاحات اجتماعية وتقديم الخدمات التي تعود بالمنفعة على العمال. ولكن حتى في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في عهد لينين، كان العمال يعملون من أجل استلام الأجور في ظل سلطة الدولة، كي تستطيع مواجهة تداعيات الحرب الأهلية والعدوان الخارجي. وهذا وضع يختلف كلياً عن ما اختمر في ذهن ماركس. فكما تعرفون، تحدث ماركس في “برنامج غوته” عن المرحلة الأولى من الشيوعية حيث يستلم العمال نوع من “الكوبونات”، بما يعني حذف ظاهرة اللامساواة بين المهن. وبدلاً عن المساواة في الأجور، جرى الحديث عن إلغاء الأجور كلياً، حيث يحصل كل من له علاقة بالعمل على منحة. ويتحدث ماركس عن شدة التفاوت، وهذا هو وجه التمايز الوحيد ( ويمكن العثور على البحوث في هذا الموضوع في مؤلفات پیتر هیودیس) . وتعود هذه المسألة إلى التفاوت الشديد المرتبي والطبقي الموروث من الرأسمالية، كالتفاوت بين الأطباء وعمال النظافة. إن كل من الجراح وعامل التنظيف داخل المجاري يؤديان عملاً منهكاً، ويؤديان عملاً ملحاً للمجتمع. ولكن هناك تفاوت كبير في مكانة الأثنين. ويقول المدافعون عن الأطباء أنهم ينقذون حياة الناس، ولكن بدون منظومة للمجاري تتعرض حياة الناس إلى المخاطر أيضاً.
لم تقترب حتى أفضل نماذج المجتمعات الساعية إلى الغلبة على الرأسمال، ومن ضمنها كومونة باريس والثورة الروسية من الصورة التي رسمها ماركس في “نقد برنامج غوته” حول “المرحلة الأولى” للشيوعية، ناهيك عن “المرحلة العليا” القائمة على مبدأ ” لكل حسب حاجته”.
سعید رهنما: لا شك أن هناك تفاوت بين ما تحدث به ماركس حول مراحل المجتمع الذي يعقب الرأسمالية وبين ما أورده لينين والآخرون حول نفس الموضوع. لقد أراد ماركس أن يلغي العمل المجرد حتى في المرحلة الأولى، وربما كان لينين والاشتراكية الديمقراطية الألمانية أكثر واقعية في هذا الصدد ـ ففي الواقع أنه من ضرب الخيال أن يكون التحول الاشتراكي قادراً مباشرة على أن يساوي بين الأجور، ناهيك عن القدرة على إلغاء نظام الأجور. ففي مثالكم حول الجراح وعامل النظافة، فإن الجراح يحتاج إلى 20 سنة من التعليم وحيازة المهنة. هذا الواقع لا يقلل من أهمية عمل عمال النظافة. وعلى أي مشروع تقدمي في تصنيف المهن أن يأخذ بنظر الاعتبار العمل الشاق الذي يؤديه عمال النظافة والضرر الذي يلحق بالبيئة في حالة غياب مثل هذه المهن، مع الأخذ بنظر الاعتبار التفاوت في تحديد المكافئات. أعتقد إننا حتى بعيدين جداً عن المرحلة الأولى التي تعقب الرأسمالية في تحديد الأجور. ولهذا اقترحت مرحلة تمهيدية في رحم الرأسمالية من أجل الاستعداد للتحول الجذري، وأطلقت عليه أسم الاشتراكية الديمقراطية الراديكالية.
کوین اندرسون:بدون شك أن هذه القضية غامضة جداً. لقد اتخذ ماركس موقفاً داعماً انتقادياً من ابراهام لينكولن، باعتباره ممثل الطبقة الرأسمالية الشمالية في مقابل فئة أرباب العبيد في الجنوب. ودعى ماركس وأنجلز في “البيان الشيوعي” إلى تطبيق نظام مجانية التعليم في المدارس العامة وتطبيق معايير أخرى، والتي أضحت ببساطة جزءاً من الحياة الاعتيادية في الديمقراطيات الليبرالية الرأسمالية في الوقت الراهن.
سعید رهنما: صحيج. لقد قلت بأن عشرة “معايير” في البيان الشيوعي هي إصلاحات راديكالية.
کوین اندرسون: من الواضح إن الهدف النهائي لماركس هو الشيوعية، وقد شرح هذا الهدف في العديد من كتاباته، وكيف يمكن الربط بين الجانبين. إننا لا نستطيع مجرد الحديث عن نقاوة المفهوم الاشتراكي، فيجب خوض النضال العملي من أجل ذلك. فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة اليوم، يجري نمطان من النضالات الحياتية، فهناك حركة “حياة السود لها قيمة” التي نشاهدها في المدارس والمحلات. إنها حركة جماهيرية هي الأوسع مقارنة بالحركة المناهضة للحرب في العراق. أما الحركة الثانية فتدعو إلى زيادة الحد الأدنى من الأجور لكل ساعة إلى 15 دولاراً، ونقول إن هذا الحد ضرورياً ولكنه غير كاف.
سعید رهنما: أية طبقة أو طبقات اجتماعية هي القوة المحركة للثورة الاشتراكية؟ من الواضح إن الطبقة العاملة تقع في محور الاهتمام. ولكن ماهي مكونات الطبقة العاملة، وهل تشمل العمال من ذوي الياقات البيض والطبقات المتوسطة الجديدة، أم لا؟
کوین اندرسن: لهذا السؤال ابعاد عديدة. البعد الأول يرتبط بمسألة أية طبقة تخلق القيمة، علاوة على بعد الوعي الاجتماعي للمجموعات أو الطبقات الاجتماعية ومسائل أخرى. في هذا الصدد علينا أن لا نأخذ بنظر الاعتبار مجرد الطبقات، بل أيضاً المجموعات الاجتماعية، وهو أسلوب مؤمن به. إن السُنّة التي انحدرت منها هي سُنّة الماركسية – الإنسانية التي تعود جذورها إلى سي.أل.آر.جيمز، وقبله إلى رايا دونايفسكايا، الذي يؤمن بالقوى المتعددة للثورة. فعلاوة على الطبقة العاملة، يُشار إلى الحركات الاجتماعية الجديدة كحركات النساء والشباب والاقليات القومية والأثنية التي تتعرض للقمع مثل السود في الولايات المتحدة والأكراد في الشرق الأوسط.
سعید رهنما: لقد أشرتم إلى ذلك في مقالتكم ” كارل ماركس وتقاطع الهوية”
(Karl Marx and Intersectionality ).

کوین اندرسن: نعم، إن هذه المجموعات التي لا تنتمي إلى الطبقة العاملة هي على الأقل ضمن الطبقة المتوسطة. وهناك الشباب الناشط سياسياً، وأغلبهم من الجامعيين الذين ينحدرون عادة من الشرائح الممتازة في المجتمع. إذن نحن أمام حركة متعددة الطبقات. فحركة السود يمكن أن تضم طيفاً من أعلى مراتب المجتمع إلى أفقرها. إن الشرطة توقف سيارات المليونيرية السود الفارهة التي يقودها السود إلى حد أن أريك هولدر(أسود) النائب العام السابق في الولايات المتحدة لم يستطع أن يحصل على سيارة أجرة في مركز منهاتن. إن الكثير من الحركات تتميز بطاقة راديكالية أو ثورية، وهي حركات تضم عناصر تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة. إننا نلاحظ أيضاً تقلصاً في أعداد الطبقة العاملة في البلدان الصناعية المتطورة. فكل ما نرتديه من ملابس هي من صنع الصين أو الهند التي تنتج هذه السلع بأجور متدنية. وفي الغرب واليابان، وقد أشرتم في حديثكم إلى العمال من ذوي الياقات البيض أو عمال الخدمات، حيث يشكلون الشريحة المهمة من العمال، والكثير منهم من الأقليات والنساء. إننا نميز، حسب التقليد الماركسي، بين الطبقة العاملة والشغيلة من ناحية، ومن ناحية أخرى بين مفهوم أوسع يمثل الفلاحين والعمال من ذوي الياقات البيض وآخرين. نحن في الغرب واليابان، لدينا طبقة متوسطة جديدة، وهي تتمتع بقدر من الطاقة الكامنة الراديكالية. ويمكن أن تصبح الطبقات المتوسطة التقليدية كاساتذة الجامعات والأطباء والوكلاء أكثر راديكالية في مراحل معينة.
سعید رهنما: إنني سعيد باشارتكم إلى هذا الموضوع. القضية هي أن الغالبية العظمى من اليسار قد وجهت أنظارها صوب الطبقة العاملة الصناعية، ولم تعير أهمية للطبقات المتوسطة الجديدة في أي وقت من الأوقات. وكما تعلمون، اقتبس ماركس قولاً من جيمز ميل في أواسط القرن التاسع عشر، وقد شخّص أهمية هذه الطبقة كونها تسيطر على وقتها،المقصود العمال الصناعيين، وقال إنه عن طريق عملهم ” ينمو أولاد المعرفة….وينتشرون” و “وتتكامل القدرات الإنسانية”. وفي الوقت الذي يشير فيه ماركس إلى شريحة من الطبقة الرأسمالية، إلاّ أنه أشار أيضاً إلى المدراء والمعلمين والفنانين وأمثالهم، أي أؤلئك الذين نطلق عليهم الآن الطبقة المتوسطة الجديدة. فعلاوة على دور هؤلاء الأخصائيين في التكامل الإنساني، فإنهم اليوم ومن الناحية السياسية يعتبرون من الطبقة المتوسطة الجديدة لهم دور في غاية الأهمية. ولا شك أنهم يحتلون مكانة مبهمة ومتناقضة، حيث يقف قسم من الذين ينحدرون من هذه الطبقة إلى جانب الرأسمال، ويقف آخرون إلى جانب العمل، وإلى جانب الحركات الاجتماعية التقدمية وإلى جانب الحركة النسائية ويعارضون التمييز العنصري.
کوین اندرسن: تعال ولو للحظة، نلقي نظرة على على تناقضاتنا نحن اليساريون، بقدر ما يتعلق الأمر بموقفنا من مثل هذه المجموعات. ويعتبر أندره گرز أن العمال من ذوي الياقات البيض جزءاً من مراتب الإداريين، في حين يعتبرهم آخرون بمثابة الطبقة العاملة الجديدة. لقد تعرضت هذه الفئات إلى الاغتراب والاستغلال، بمعنى أن الشركات تكسب الأرباح من ابتكاراتهم، وعلى الرغم من أنهم يحصلون على مكافئات، إلا أنهم ليسوا مالكين لوسائل الانتاج. إنهم يحتلون مكاناً طبقياً خاصاً. ويشبه عمال الخدمات موظفي البنوك فهم يحصلون على الحدود الدنيا من الأجور، ولكن من الصعب أن ينتسب هؤلاء العمال إلى النقابات. لقد سعت ألمانيا إلى تنظيم موظفي البنوك بالعودة على الأقل إلى عقد العشرينيات من القرن الماضي. في هذ الصدد، من الضروري الإشارة إلى منزلة العمل الفكري مقابل العمل اليدوي، كما أكد عليه ماكس ويبر**** في تبيان مصاعب حصول مثل هذه

ماكس ويبر
المجاميع على الوعي الثوري المناهض للرأسمالية. ولكن هناك إمكانيات معاكسة. فنحن رأينا ما حدث في فرنسا عام 1968، حيث نزل الكثير من أعضاء هذه المجاميع إلى الشوارع، وتصرفوا على شاكلة عمال الصناعة في احتلالهم للمصانع، وراحوا يقومون باحتلال أماكن عملهم. وبدون شك فمن أجل تجذير عمال الخدمات، الذين يتميزون بموقع اقتصادي أدنى بشكل عام، إلاّ أنهم في الوقت نفسه يتميزون بطاقة ثورية كامنة ربما أكثر أحياناً.
سعید رهنما: بالضبط، لأن القسم الأعظم منهم قد تعرض للضرر وبدرجات متفاوتة من الرأسمالية، وهناك تشابه بين هذه المجاميع. ولكن السؤال الاساسي هو حول كيفية تعبئة كل هذه المجاميع. فتنظيم هؤلاء اعقد من تنظيم عمال الصناعة التي كان يطلق عليهم في السابق “البروليتاريا”، أي في وقت كانت توجد مصانع عملاقة وتضم أعداداً كبيرة من العمال.
کوین اندرسن: أظن أن النقابات لم يكن لها أي تأثير هنا. إن الكثير من عمال الخدمات هم من النساء، وإن أحد أسباب استيائهم هو تعرضهم للتحرش الجنسي في مواقع العمل. وقد واجهت النقابات مصاعب جدية في التعامل مع هذه المشاكل، وبشكل خاص في البلدان النامية حيث توجد مجموعة صغيرة من العمال الصناعيين، ويجب توجيه الأنظار صوب المجاميع الأخرى والبحث في وسائل الصلة بهم. كما يجب عند تناول الطبقات الجديدة أن نتوجه إلى القضية الجنسية والأثنية.
سعید رهنما: الآن انتقل إلى السؤال الأخير. ما هي الخطوات التي يجب أن يخطوها المدافعون عن الاشتراكية من أجل الاقتراب من الهدف المطلوب في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي؟
کوین اندرسن: أظن أننا نعيش في وضع أفضل قياساً بـ خمس عشرة أو عشرين سنة مضت، عندما تراجعت جاذبية الاشتراكية. أتذكر وقتها أن ريجارد زوتي، الفليسوف اليساري والاشتراكي المعروف، كتب مقالة أشار فيها إلى أن المستثمرين ضروريين في كل مجتمع، وضرب مثالاً على ذلك شخص دونالد ترامب*****!!!! الآن وقياساً بتلك المرحلة فنحن نشهد ارتفاع الوعي الاجتماعي وأصبحت لمفردة الاشتراكية مكانة أفضل. إن حكومة يلتسين لم تحقق أية مكتسبات للشعب الروسي، أو أن تقدم نموذجاً أكثر جاذبية من حكومة فلاديسلاف هافل في جمهورية الجيك، حيث لم تتحقق أحلام السوق الحر. لقد تحدث أنصار تيارات يمين الوسط عن الحلم الطوباوي لما يسمى بنظام السوق الحر، في حين تحدث يساريوهم أيضاً عن نظام السوق الاجتماعي.
ومن الواضح إن صياغة فلسفية وسياسية لأهدافنا تعد أمراً في غاية الأهمية. إن الكثير من الأجيال الشابة التي تنشط ضمن حركة إعادة بناء العالم أو ضمن حركة العدالة العالمية، ليس لديها أي وعي عن المساعي السابقة من أجل الاشتراكية، ولم يمروا بتعليم نظري كاف، وعلينا أن نلعب دوراً في تعليمهم. ويجب أن لا نتجاهل تجربة الشيوعية – الدولة في الاتحاد السوفييتي أو في الصين الماوية، بل أن نقر بواقعيتها. وإن نماذج أكثر ديمقراطية لدولة الاستبداد، والتي سعت إلى إرساء دولة اشتراكية ديمقراطية وبناء دولة الرفاه المستقرة في ظل الرأسمالية، هي نماذج خادعة، لأنه من غير الممكن إرساء الرأسمال على هذا الأساس لفترة طويلة. ومن الواجب اليوم الغور في التنظير حول نوع الشيوعية الذي دار في ذهن ماركس والأفراد الأكثر ذكاءاً وفطنة من أمثال روزا لوكسمبورغ. ثانياً، وكما جرى البحث في السؤال السابق، فمن الضروري أن يكون لدينا تصوراً واضحاً حول القوى والمجاميع المختلفة التي تمتلك طاقة ثورية كامنة. لقد قدّم اليسار تحليلات صحيحة حول النظام الرأسمالي العالمي والاختلافات النظرية المتعلقة به، واسباب الركود وغيرها من القضايا، ولكن ما نفتقده هو التحليل الواقعي والعملي للمجاميع والقوى الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي في القرن الحادي والعشرين، وما هي الطاقة الكامنة في ثوريتهم وكيفية الربط بين قضايا الطبقة والعولمة مع ما يطلق عليها بسياسة الهوية؛ أي الربط بقضايا مثل الجنس والعنصر والاتجاهات الجنسية والعمر والإعاقة الجسمية ومحل السكن ومحل الأقليات القومية والأثنية وغيرها من القضايا.
إننا ما زلنا في مرحلة تحتل فيها سياسة الهوية اليد الطولى في الحركة الاجتماعية في الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي تتصاعد فيه الانتقادات ضد الرأسمالية من جديد، ولكن كما أعتقد مازال هناك قصور في التحليل. ففي الولايات المتحدة وفي ظل وجود حركة “حياة السود لها قيمة”، يتحدث أفراد الشعب عن ضرورة التغيير الجذري لنظام التمييز العنصري. ولكنهم يتحدثون بدرجة أقل عن العلاقة بين التمييز العنصري وبين الرأسمالية. بالطبع لا أعني أن هناك فهم أقل، بل بالاستناد إلى هذا المفهوم يمكن أيضاح العلاقة بين الأشكال المتتابعة لسلطة التمييز العنصري التي تميّز كل التاريخ الأمريكي وبين المراحل المختلفة للرأسمالية في الولايات المتحدة، كما أشرت في مقالة حديثة لي بالاستناد إلى سُنّة الماركسية – الإنسانية. فعند البحث في القضية العنصرية في أمريكا، أشرت إلى ضرورة البحث في الأنظمة التاريخية، وفي الأشكال المختلفة للرأسمالية وأشكال التمييز العنصري والسلطة العنصرية المرتبطة بها:
1-عمل العبيد السود في مزارع الجنوب، في الوقت الذي لم تشرع الولايات المتحدة بعد في ولوج مرحلة الصناعة وكانت في تبعية زراعية لبريطانيا.
2-بعد الحرب الأهلية، تعرّض عمال الزراعة السود شبه العبيد الذين كانوا يحصلون على حصة من الانتاج في مزارع الجنوب إلى ملاحقات الكوكلس كلان وأشكال من القهر والعنف. ومع مرور الزمن، شرع هؤلاء بالهجرة الجماعية إلى الشمال الصناعي وتحولوا رسمياً إلى عمال أحرار في الصناعة أو في قطاع الخدمات، وتحولت الولايات المتحدة إلى أهم بلد صناعي رأسمالي في العالم.
3- وفي حدود عام 1975، ومع استمرار الركود الاقتصادي وبالارتباط مع الانكفاء في الصناعة وانتشار البطالة في صفوف السود، شهدنا وقوع جمهرة واسعة منهم في غياهب السجون. وفي الوقت نفسه، ظهرت طبقة متوسطة ومرفهة من المواطنين السود، وكان أوباما وهولدر من ضمن النماذج التي حالفها التوفيق.
وفي كل مقطع من هذه المراحل، جرت مساع، اقترنت بالنجاح إلى حد ما، أدت إلى توحيد العمال السود والبيض بعيداً عن الحواجز العنصرية. وكانت أحد أكثر مظاهر هذا الاتحاد تأثيرا هو ما جرى خلال الركود العظيم في العقد الثالث من القرن العشرين، حيث تقدمت النقابات العمالية التي تضم أعضاء من مختلف الأجناس في مصانع الانتاج الكبرى لصناعة السيارات وصناعة الفولاذ وغيرها من فروع الصناعة الثقيلة. ولكن لم تختف مظاهر التمييز العنصري في ذلك الوقت وإلى الآن، وخاض العمال السود في بعض الأحيان نضالاً مشتركاً مع العمال البيض الراديكاليين ضد بيروقراطية النقابات الجديدة، إضافة إلى نضالهم المستمر ضد كل أشكال التسلط العنصري. ولعل الأثر الكلاسيكي لجارلز دنبي ( سيمون أونز) المعنون ” القلب الغاضب: يوميات عامل أسود” الصادر عام 1978، والبحث الأخير من مؤلف جاكلين جونز المعنون ” خدعة موحشة” الذي حصل على جائزة بوليتزر في التاريخ، قد انطويا على وصف دقيق لأشكال التمييز العنصري في الولايات المتحدة. ففي تلك الفترة أيضاً، تحول المؤرخ وعالم الاجتماع الأسود الشهير دبليو. آي. ب. دوبوا إلى مواقع الماركسية: كما انعكس ذلك في مؤلفه المعنون ” إعادة بناء السود” الصادر في عام 1935. إن حركة ” حياة السود لها قيمة” اليوم تشكل مثالاً آخراً على التضامن على مدار مراحل النضال ضد التمييز العنصري، لأنها حركة يشارك فيها الشباب السود المحرومين في المحلات مع الشباب البيض والسود في أعرق الجامعات في الولايات المتحدة. ولكن كما أشرت آنفاً، يجب توسيع البعد المعادي للرأسمالية في هذا النضال، سواء على النطاق النظري أو العملي على حد سواء. فهل من الممكن قطع جذور التمييز العنصري بدون اجتثاث الرأسمالية؟ هو ذا السؤال المطروح بإلحاح أكثر اليوم.
في بقاع أخرى من العالم يلاحظ هناك مشاكل مشابهة. ففي فرنسا على سبيل المثال، نلاحظ مجزرة “شارلي أبدو” التي نفذها الفرنسيون المستاؤون من أصول شمالي أفريقيا، وهم أؤلئك الذين يعيشون في ظروف مشابهة لـ” غيتو” السود في الولايات المتحدة. في السابق تمتع الحزب الشيوعي الفرنسي بنفوذ واسع في الأحياء التي يقطنها العرب، ولكن بسبب عدم إيلائه أهمية تذكر للاختلافات القومية والمذهبية فلم يعد يتمتع بذاك النفوذ. إنهم ليسوا من صنف الأصوليين الإسلاميين، رغم أن من نفذ عمليات القتل هم من الأصوليين. ويتمتع هؤلاء بوعي اجتماعي وقومي يؤهلهم للتوجه صوب اليسار، رغم أن التيار المذهبي المحافظ له نفوذ كبير بين هذه الفئة. ولكن العامل الحاسم هنا هو موقف التقدميين البيض الفرنسيين. فإذا ما استمروا على التزام الصمت على قمع حرية التعبير، ولا يقلقون من نشر الصور الكاريكاتورية للنبي في وسائل الإعلام ، فإن ذلك بمثابة توجيه الإهانات القومية والمذهبية ضد الجماعات المهمشة، وعندئذ يصبح الأفق ملبداً بالغيوم: بمعنى سيستمر الدعم المتواصل للأصولية من جهة، والنمو المتواصل لنفوذ حزب الجبهة القومية الفرنسي. وتسعى بعض القوى اليسارية الخروج من هذا المأزق أمام التضامن، ومن ضمنهم أديسون سيابس، الناشر الماركسي الذي نشر العديد من الكتب باللغة الانجليزية حول العناصر القومية والثورة ، ومن ضمنها الكتاب المعنون ” ماركس على الهامش”. أنها ليست كتب نظرية فحسب، بل كتب جريئة تتسم بالمصداقية حول التمييز العنصري لدى الفرنسيين وقمع الاقليات على يد الشرطة.
يجب أن يكون لدينا حضوراً بين هذه الحركات. وإنني أقدم الدعم الشامل لكل الحركات الشعبية، ولكنني على اعتقاد أن نكون على وعي من العناصر الرجعية في هذه الحركات، ونعبر بصراحة عن خلافنا معها. كما إن البحث في موقف أية حركة من حقوق المرأة هو محك ومعيار يساعدان على تبيان جوهر أية حركة أكانت محافظة أم لا. ولكن من اللازم أن نطالع هذه الأوضاع بشكل انتقائي وتاريخي وديالكتيكي.
سعید رهنما: النقطة التي أشرت إليها مهمة جداً، وهي تواجهنا في بلدان الشرق الأوسط. إن أنواع من الأصولية لا تنمو في الشرق الأوسط فحسب، بل حتى في العالم الغربي، وتعتبر المواجهة مع هذه القوى الاجتماعية أصعب للغاية. وللأسف لا يرى فريق من اليسار هذا الخطر، فبعضهم يدعم أحمدي نجاد وقد وجَهتُ الانتقاد في مقالات لي لأفراد مثل جيمس بتراس وجيجك وبعض كتاب مواقع التواصل الاجتماعي.
کوین اندرسن: يمكن أن نضيف إلى قائمتكم أسماء من قدم الحماية لبوتين في حصاره لشرق أوكراينا واحتلال القرم. إن بوتين لم يلق الدعم من قبل وسط واسع من اليسار فحسب، بل أنه لقي الدعم من قبل قوى رجعية مثل الجبهة القومية الفرنسية أيضاً. وهذا يعود بنا إلى النقطة التي شرعنا بها حديثنا. إننا إذا ركزنا، عند السعي لبناء مجتمع من نوع جديد، على الجانب الإيجابي لمستقبلنا، وعلى الإنسانية الاشتراكية، عند ذاك لا نقع في فخ عدم انتقاد الأشكال الرجعية لمجرد معارضتها للأمبريالية، أو حتى إننا نمد لها يد الدعم. ويطرح سؤال على أدعياء الاشتراكية الذين يدافعون عن أمثال أحمدي نجاد أو لا يوجهون الانتقاد لهم، ما هو المجتمع الذي تبغونه؟ ومن أجل تشخيص ماهية الاشتراكية كما أظن، فمن الضروري أن نشخص بدقة أي شيء هي الاشتراكية، والعودة من جديد إلى تجربة القرن العشرين، وخاصة أصل وطبيعة روسيا الستالينية. إن هذا التوجه من شأنه أن يضعنا على سُنة ماركس الذي كتب الكثير في نقد اشكال الاشتراكية في عهده والتي لا تتسق مع حاجات ذلك العهد.
سعید رهنما: الحق معكم، شكراً.
ـــــــــــــــــــــــ
* کوین اندرسن، منظّر وعضو المنظمة الماركسية الانسانية الأممية، استاذ العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية والمطالعات النسوية في جامعة سانتا باربارا في كاليفورنيا، مؤلف العديد من الكتب والمقالات في مجال آراء ماركس والماركسية وقضايا دولية وشرق اوسطية.
** فرديناند لاسال هو أحد مؤسسي مذهب الاشتراكية الألمانية. ولد عام 1825م، وكانت حركته تنادي بمبدأ التضامن مع النظام الإقطاعي الحاكم، وترى إن تحرير العمال يتم عبر تحقيق برامج عمل طوباوية خيالية، وتوفي عام 1864م.
*** إيمليانو زاباتا 1879- 1919، كان ثورياً مكسيكياً.
**** ماكسيميليان كارل إميل فيبر : ‏ 1864 – 1920. كان عالمًا ألمانيًا في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، وهو من أتى بتعريف البيروقراطية، وعمله الأكثر شهرة هو كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، حيث يعتبر هذا أهم أعماله المؤسسة في علم الاجتماع الديني، وأشار فيه إلى أن الدين هو عامل غير حصري في تطور الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقية. وفي عمله الشهير أيضا “السياسة كمهنة” عرّف الدولة: بأنها الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية. وأصبح هذا التعريف محورياً في دراسة علم السياسة. درس فيبر جميع الأديان وكان يرى أن الأخلاق البروستنتانتية أخلاق مثالية ومنها استقى النمودج المثالي للبيروقراطية والذي يتميز بالعقلانية والرشادة ، ولكن تطبيقه في الواقع صعب، ولو طبق في التنظيم لوصل إلى أعلى درجات الرشادة.
****** دونالد ترامب ميلياردير وأحد مرشحي الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة القادمة في الولايات المتحدة، والذي أثار زوبعة في أول خطاب له في حملة الترشيح للانتخابات حول منع دخول أي مسلم إلى الولايات المتحدة.(ع.ح.)

About عادل حبه

عادل محمد حسن عبد الهادي حبه ولد في بغداد في محلة صبابيغ الآل في جانب الرصافة في 12 أيلول عام 1938 ميلادي. في عام 1944 تلقى دراسته الإبتدائية، الصف الأول والثاني، في المدرسة الهاشمية التابعة للمدرسة الجعفرية، والواقعة قرب جامع المصلوب في محلة الصدرية في وسط بغداد. إنتقل الى المدرسة الجعفرية الإبتدائية - الصف الثالث، الواقعة في محلة صبابيغ الآل، وأكمل دراسته في هذه المدرسة حتى حصوله على بكالوريا الصف السادس الإبتدائي إنتقل إلى الدراسة المتوسطة، وأكملها في مدرسة الرصافة المتوسطة في محلة السنك في بغداد نشط ضمن فتيان محلته في منظمة أنصار السلام العراقية السرية، كما ساهم بنشاط في أتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان ينشط بصورة سرية في ذلك العهد. أكمل الدراسة المتوسطة وإنتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الأعدادية المركزية، التي سرعان ما غادرها ليكمل دراسته الثانوية في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية جنوب بغداد. في نهاية عام 1955 ترشح إلى عضوية الحزب الشيوعي العراقي وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من عمره، وهو العمر الذي يحدده النظام الداخلي للحزب كشرط للعضوية فيه إعتقل في موقف السراي في بغداد أثناء مشاركته في الإضراب العام والمظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي للتضامن مع الشعب الجزائري وقادة جبهة التحرير الجزائرية، الذين أعتقلوا في الأجواء التونسية من قبل السلطات الفرنسية الإستعمارية في صيف عام 1956. دخل كلية الآداب والعلوم الكائنة في الأعظمية آنذاك، وشرع في تلقي دراسته في فرع الجيولوجيا في دورته الثالثة . أصبح مسؤولاً عن التنظيم السري لإتحاد الطلبة العراقي العام في كلية الآداب والعلوم ، إضافة إلى مسؤوليته عن منظمة الحزب الشيوعي العراقي الطلابية في الكلية ذاتها في أواخر عام 1956. كما تدرج في مهمته الحزبية ليصبح لاحقاً مسؤولاً عن تنظيمات الحزب الشيوعي في كليات بغداد آنذاك. شارك بنشاط في المظاهرات العاصفة التي إندلعت في سائر أنحاء العراق للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي البريطاني بعد تأميم قناة السويس في عام 1956. بعد انتصار ثورة تموز عام 1958، ساهم بنشاط في إتحاد الطلبة العراقي العام الذي تحول إلى العمل العلني، وإنتخب رئيساً للإتحاد في كلية العلوم- جامعة بغداد، وعضواً في أول مؤتمر لإتحاد الطلبة العراقي العام في العهد الجمهوري، والذي تحول أسمه إلى إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. وفي نفس الوقت أصبح مسؤول التنظيم الطلابي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد والذي شمل التنظيمات الطلابية في ثانويات بغداد وتنظيمات جامعة بغداد، التي أعلن عن تأسيسها بعد إنتصار الثورة مباشرة. أنهى دراسته الجامعية وحصل على شهادة البكالاريوس في الجيولوجيا في العام الدراسي 1959-1960. وعمل بعد التخرج مباشرة في دائرة التنقيب الجيولوجي التي كانت تابعة لوزارة الإقتصاد . حصل على بعثة دراسية لإكمال الدكتوراه في الجيولوجيا على نفقة وزارة التربية والتعليم العراقية في خريف عام 1960. تخلى عن البعثة نظراً لقرار الحزب بإيفاده إلى موسكو-الإتحاد السوفييتي للدراسة الإقتصادية والسياسية في أكاديمية العلوم الإجتماعية-المدرسة الحزبية العليا. وحصل على دبلوم الدولة العالي بدرجة تفوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة هناك. بعد نكبة 8 شباط عام 1963، قرر الحزب إرساله إلى طهران – إيران لإدارة المحطة السرية التي أنشأها الحزب هناك لإدارة شؤون العراقيين الهاربين من جحيم إنقلاب شباط المشؤوم، والسعي لإحياء منظمات الحزب في داخل العراق بعد الضربات التي تلقاها الحزب إثر الإنقلاب. إعتقل في حزيران عام 1964 من قبل أجهزة الأمن الإيرانية مع خمسة من رفاقه بعد أن تعقبت أجهزة الأمن عبور المراسلين بخفية عبر الحدود العراقية الإيرانية. وتعرض الجميع إلى التعذيب في أقبية أجهزة الأمن الإيرانية. وأحيل الجميع إلى المحكمة العسكرية في طهران. وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، إضافة إلى أحكام أخرى طالت رفاقه وتراوحت بين خمس سنوات وإلى سنتين، بتهمة العضوية في منظمة تروج للأفكار الإشتراكية. أنهى محكوميته في أيار عام 1971، وتم تحويله إلى السلطات العراقية عن طريق معبر المنذرية- خانقين في العراق. وإنتقل من سجن خانقين إلى سجن بعقوبة ثم موقف الأمن العامة في بغداد مقابل القصر الأبيض. وصادف تلك الفترة هجمة شرسة على الحزب الشيوعي، مما حدى بالحزب إلى الإبتعاد عن التدخل لإطلاق سراحه. وعمل الأهل على التوسط لدى المغدور محمد محجوب عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، والذي صفي في عام 1979 من قبل صدام حسين، وتم خروجه من المعتقل. عادت صلته بالحزب وبشكل سري بعد خروجه من المعتقل. وعمل بعدئذ كجيولوجي في مديرية المياه الجوفية ولمدة سنتين. وشارك في بحوث حول الموازنة المائية في حوض بدره وجصان، إضافة إلى عمله في البحث عن مكامن المياه الجوفية والإشراف على حفر الآبار في مناطق متعددة من العراق . عمل مع رفاق آخرين من قيادة الحزب وفي سرية تامة على إعادة الحياة لمنظمة بغداد بعد الضربات الشديدة التي تلقتها المنظمة في عام 1971. وتراوحت مسؤولياته بين منظمات مدينة الثورة والطلبة وريف بغداد. أختير في نفس العام كمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب إستقال من عمله في دائرة المياه الجوفية في خريف عام 1973، بعد أن كلفه الحزب بتمثيله في مجلة قضايا السلم والإشتراكية، المجلة الناطقة بإسم الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، في العاصمة الجيكوسلوفاكية براغ. وأصبح بعد فترة قليلة وفي المؤتمر الدوري للأحزاب الممثلة في المجلة عضواً في هيئة تحريرها. وخلال أربعة سنوات من العمل في هذا المجال ساهم في نشر عدد من المقالات فيها، والمساهمة في عدد من الندوات العلمية في براغ وعواصم أخرى. عاد إلى بغداد في خريف عام 1977، ليصبح أحد إثنين من ممثلي الحزب في الجبهة التي كانت قائمة مع حزب البعث، إلى جانب المرحوم الدكتور رحيم عجينة. وأختير إلى جانب ذلك لينسب عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية ويصبح عضواً في لجنة العلاقات الدولية للحزب. في ظل الهجوم الشرس الذي تعرض له الحزب، تم إعتقاله مرتين، الأول بسبب مشاركته في تحرير مسودة التقرير المثير للجنة المركزية في آذار عام 1978 وتحت ذريعة اللقاء بأحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني وأحد وزرائها( سلطان علي كشتمند) عند زيارته للعراق. أما الإعتقال الثاني فيتعلق بتهمة الصلة بالأحداث الإيرانية والثورة وبالمعارضين لحكم الشاه، هذه الثورة التي إندلعت ضد حكم الشاه بداية من عام 1978 والتي إنتهت بسقوط الشاه في شتاء عام 1979 والتي أثارت القلق لدي حكام العراق. إضطر إلى مغادرة البلاد في نهاية عام 1978 بقرار من الحزب تفادياً للحملة التي أشتدت ضد أعضاء الحزب وكوادره. وإستقر لفترة قصيرة في كل من دمشق واليمن الجنوبية، إلى أن إنتدبه الحزب لإدارة محطته في العاصمة الإيرانية طهران بعد إنتصار الثورة الشعبية الإيرانية في ربيع عام 1979. وخلال تلك الفترة تم تأمين الكثير من إحتياجات اللاجئين العراقيين في طهران أو في مدن إيرانية أخرى، إلى جانب تقديم العون لفصائل الإنصار الشيوعيين الذين شرعوا بالنشاط ضد الديكتاتورية على الأراضي العراقية وفي إقليم كردستان العراق. بعد قرابة السنة، وبعد تدهور الأوضاع الداخلية في إيران بسبب ممارسات المتطرفين الدينيين، تم إعتقاله لمدة سنة ونصف إلى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من قبل المرحوم حافظ الأسد والمرحوم ياسر عرفات، وتم تحويله إلى سوريا خلال الفترة من عام 1981 إلى 1991، تولى مسؤلية منظمة الحزب في سوريا واليمن وآخرها الإشراف على الإعلام المركزي للحزب وبضمنها جريدة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة. بعد الإنتفاضة الشعبية ضد الحكم الديكتاتوري في عام 1991، إنتقل إلى إقليم كردستان العراق. وفي بداية عام 1992، تسلل مع عدد من قادة الحزب وكوادره سراً إلى بغداد ضمن مسعى لإعادة الحياة إلى المنظمات الحزبية بعد الضربات المهلكة التي تلقتها خلال السنوات السابقة. وتسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية حتى نهاية عام 1992، بعد أن تم إستدعائه وكوادر أخرى من قبل قيادة الحزب بعد أن أصبح الخطر يهدد وجود هذه الكوادر في بغداد والمناطق الأخرى. إضطر إلى مغادرة العراق في نهاية عام 1992، ولجأ إلى المملكة المتحدة بعد إصابته بمرض عضال. تفرغ في السنوات الأخيرة إلى العمل الصحفي. ونشر العديد من المقالات والدراسات في جريدة طريق الشعب العراقية والثقافة الجديدة العراقية والحياة اللبنانية والشرق الأوسط والبيان الإماراتية والنور السورية و"كار" الإيرانية ومجلة قضايا السلم والإشتراكية، وتناولت مختلف الشؤون العراقية والإيرانية وبلدان أوربا الشرقية. كتب عدد من المقالات بإسم حميد محمد لإعتبارات إحترازية أثناء فترات العمل السري. يجيد اللغات العربية والإنجليزية والروسية والفارسية. متزوج وله ولد (سلام) وبنت(ياسمين) وحفيدان(هدى وعلي).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.