5 – 13
لیو پانیچ
سعید رهنما: على الرغم من التكاليف والتضحيات الجمة، فقد أصاب الفشل كلاً من الستراتيجيات الثورية والستراتيجيات الاصلاحية التي اتبعها الاشتراكيون في مختلف بقاع العالم. وغالباً ما اضطر هؤلاء إلى تغيير مسارهم صوب السير على طريق الرأسمالية. من وجهة نظركم إلى أي حد يتحمل الاشتراكيون انفسهم وزر هذا الفشل، وما هي الدروس التي استخلصناها من هذه التجارب؟
لیو پانیچ: من أين يمكن أن نبدأ؟ من الأفضل أن نبدأ بتلك المجموعة من الدول الرأسمالية التي استطاعت فيها الطبقة العاملة أن تشكل أحزابها ونقاباتها وأن تطرح مطاليبها بحرية وبشكل قانوني على الشعب، وأن يستطيع العمال والعاملات، ومن ضمنهم المهاجرين، أن يختاروا ممثليهم. هذا الوضع يختلف عن الدول التي يضطر فيها ممثلو العمال إلى العمل بصورة سرية وغير قانونية من أجل السير قدماً بحركاتهم. ففي الدول التي يحكمها الليبراليون الديمقراطيون، والذي لعبت الحركة العمالية دوراً مشهوداً في استقرار مثل هذا النظام، كنّا نتصور إنه عندما نحقق مثل هذه الإصلاحات، فستبقى هذه الإصلاحات أزلية على مدى الدهر دون أي تغيير. هناك مقالة شهيرة كتبها تي. اچ. مارشال تحت عنوان “المواطنة والطبقة الاجتماعية”، أشار فيها إلى المراحل المتعاقية للإصلاح الذي يصب لصالح الطبقة العاملة، حيث طرح على أفضل وجه هذه الرؤيا. فقد أشار إلى أنه بعد كسب الحقوق المدنية ( توفر إمكانية تشكيل النقابات العمالية، وتم إقرار الحقوق السياسية، حق الاقتراع للرجل والمرأة)، وفي النهاية الحصول على الحقوق الاجتماعية (دولة الرفاه). لقد طرح هذه الموضوعات بشكل وكأنها الهدف الذي لا يمكن اجتنابه. نحن الآن نعيش في القرن الحادي والعشرين، ونشهد في ظل حكم الليبراليين الجدد المنافسة المتصاعدة للرأسمالية، وفقدان هوية الطبقة العاملة، التي جرت إلى حد كبير بفعل بروقرطة النقابات وتراجع الطابع الراديكالي للأحزاب الاشتراكية مما أدى إلى ضياع الكثير من الإصلاحات الاجتماعية التي تم كسبها في الفترة السابقة. إنني أعتقد بإن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه المدافعون عن هذا الفهم للإصلاح التدريحي في رحم الرأسمالية هو أنهم افترضوا أن ما تحقق في المرحلة السابقة جاء إقراره من قبل الحكومة، وليس عن طريق التعبئة ونشر الوعي والدعوة للتضامن الطبقي باستمرار وبإرشاد من قبل الأعضاء الناشطين في أحزاب الطبقة العاملة والنقابات، مما رفع القدرة المجتمعية للطبقة العاملة بين العمال والعاملات، إضافة إلى المهاجرين الجدد. لقد تحوّلت النقابات الآن إلى أجهزة للمساومة، وأنشغل المحامون بتقديم الشكاوى ضد أرباب العمل فحسب، واكتفت شركات التأمين بتمثيل العمال. وتحوّلت الأحزاب أيضاً إلى مجرد أجهزة لخوض الانتخابات مستخدمة إعلانات محطات التلفزة للارتفاع بوعي العمال.
سعید رهنما: من المناسب التمييز بين الدول الليبرالية الديمقراطية وبين الدول التي تفتقد إلى الديمقراطية، حيث لم يستطع الاشتراكيون مزاولة النشاط القانوني، وكان عليهم العمل بشكل سري وثوري ويلجأون إلى الاستلهام من الثورة الروسية ثم الثورة الصينية. فالأخطاء التي ارتكبوها عادت عليهم بالهزائم المريعة.
لیو پانیچ: ليس هناك أدنى شك بارتكاب أخطاء كثيرة، ولكن قبل كل شيء أود القول بأنه من غير الصحيح من وجهة نظري الاعتقاد بأن الشعب بعد الثورة البلشفية، لو لم ترتكب كل هذه الأخطاء ولا حتى الجرائم ، لاستطاعت روسية الوصول إلى ما وصلت إليه السويد على سبيل المثال. فما أشرتم إليه هو عين الصواب، فالظروف كانت مختلفة بحيث تطفو على السطح ستراتيجيات مختلفة. من المؤكد أن هناك في جعبة المجاميع السياسية خيارات كثيرة، على خلاف الدول التي يستطيع فيها العمال تشكيل نقاباتهم بحرية، وينتخبون ممثليهم بحرية، وتستجيب الحكومة لنتائج هذه المشاركة. فالثورة البلشفية حدثت في بلد لا يتوفر فيها هذا الخيار. ولهذا السبب لم أتفق مع أقراني التروتسكيين الذين كانوا يعلنون صراحة أن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية تهادن الرأسمالية، وفي الوقت نفسه كانوا يوجهون أقسى الانتقادات للستالينية والاتحاد السوفياتي بهدف إحياء تراث وشكل الحزب البلشفي بزعامة لينين وأحياء الروح الثورية التي سبقت الفترة الستالينية. إن ما لم يدركه هؤلاء هو أن الشروط لأحياء هذا النوع من الحزب أو ستراتيجية البلاشفة لم يعد لها وجود. فهذ النزعة البلشفية كانت لها مدياتها في ظروف عام 1917، ليس في الشرق وحده، بل إلى حد ما في الغرب حيث عمّت الإضرابات الشاملة وغيرها من أشكال النضال بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن هذه الأنواع والأساليب لم تعد مناسبة في عقد السبعينيات من القرن الماضي. فالتعصب وضيق الأفق والتهميش والمشاكسات الخفية بين أعضاء هذه المجاميع لم يكتب لها الانتشار لأن أعضاء هذه المجاميع ولدوا وهم من أشد المتعصبين. لقد أصبحوا متعصبين لأنهم استخدموا اللغة البلشفية، ودارت في أدمغتهم الستراتيجية البلشفية في وقت تغيّرت فيها الأوضاع ، ولذا تعرضوا إلى التهميش.
سعید رهنما: في الحقيقة فإنه حتى في الدول التي فرضت الشروط السياسية والاقتصادية على الاشتراكيين خيار الثورة والانتفاضة في الظاهر، فإن المواجهة بدون طرح بديل واقعي هي الكارثة بعينها. وأورد في هذا الصدد تجربتي الشخصية حيث انخرطت في العملية الثورية دون التفكير بالبديل عن النظام القديم وعواقب ذلك؟
لیو پانیچ: نعم، هذه حكاية قديمة في الثورات. ينبغي أن نتذكر بأن الثورة الفرنسية أوصلت نابليون إلى سدة الحكم الذي ختمها بإعادة الملكية من جديد. كما ينبغي أن نتذكر ثورة عام 1848 التي واجهت الفشل، وأجبر جيل من الثوريين، الذين على غراركم وغرار رفاقكم، على أن يقضوا بقية أعمارهم في المنفى ولم يستطيعوا العودة إلى أوطانهم. ولكن هل هذا يعني أنه كان على ثوريي 1789 و 1848 الجلوس في بيوتهم؟ إن هذه الانتفاضات كانت انفجارات اجتماعية، وعلى الرغم من وجود قادة لها، فلم يتحرك هؤلاء الزعماء في خضم الانفجارات الاجتماعية على أساس الإرادوية الثورية الصرفة. وبالطبع فإن مثل الانفجارات الاجتماعية قد تنطوي على نتائج سياسية غير مرغوب بها. أنظر إلى مصر اليوم. ونأمل أن يستطيع الجيل القادم في مصر النظر إلى الوراء ويدرك أن شخص مثل السيسي، بالرغم من كونه عسكرياً علمانياً، إلاّ أنه لا يتمتع بأية صفة من الصفات الناصرية المعادية للأمبريالية في دول العالم الثالث، ويسعى السيسي إلى أطفاء الروح الثورية التي أطاحت بنظام مبارك القديم، وبذلك يلعب دوراً رجعياً معادياً. ولا يمكنني أن أبدي وجهة نظري تجاه إيران، بالارتباط مع الدور الذي لعبه الشاه في دعم أمريكا لتعزيز مواقع الرأسمالية في العالم. فهل كان هناك طريق آخر سوى اللجوء إلى الحركات الثورية التي حدثت في عام 1979 كي يتم الإطاحة بالشاه. من الواضح أن الوضع في كل بلد قد يختلف. وإذا ما ألقينا نظرة على الثورة الكوبية، فمن المحتمل أن كاسترو كان على حق عندما واختار الكفاح المسلح خلافاً لتوصية قادة الحزب الشيوعي الكوبي، ثم أصبحوا لاحقاً جزءاً من النظام الجديد.
سعید رهنما: القضية لا تتحدد في حدوث أو عدم حدوث الثورة، لأن هناك مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية التي من الممكن في مرحلة خاصة في بلد معين أن تؤدي إلى ثورة سياسية. ولكن هل أن ثورة لا تتمتع بدعم الأكثرية الواعية ( حسب مفهوم ماركس في مقابل المفهوم البلانكي) قادرة على تحقيق أهدافها؟ إن القسم الأعظم من اليسار الثوري إضطر إلى السير على خطى المفهوم البلانكي مع كل نتائجه وتبعاته.
لیو پانیچ: إننا الآن نعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فإذا كنّا مؤمنين بالمادية التاريخية، فعلينا أن نقف على مسافة من أنواع التكتيكات وحتى المفاهيم الستراتيجية التي تبناها الناس في منتصف القرن التاسع عشر ، وحتى أكثرهم إبداعاً وأكثرهم التزاماً. كما يجب أن ننتبه إلى أن الأفكار الفوضوية قد راجت على نطاق واسع في العقدين الأخيرين؛ وأضحت أفكاراً تلهم بأشكال مختلفة موجات الاحتجاج ضد العولمة إلى جانب الاحتجاجات الأخرى. فالكثير من الشبيبة الآن يعلنون صراحة على أنهم فوضويين أو متأثرين بالأفكار الفوضوية. وهذا هو تعبير واعي، وقائم على تجاربهم ، لردود أفعالهم تجاه الأحزاب الطليعية، إضافة إلى الأحزاب التي تشارك في الانتخابات. ولكن يمكن أن تدوم احتجاجاتهم طوال العمر، وسنستمر نحن أيضاً بالاعتراض على سلوكهم، إلاّ إذا بادرت القوى السياسية المنظمة ، بحيث تكون قادرة على التحرك صوب الدولة وتغييرها. والآن كيف يمكننا أن نخلق “الأكثرية” وفي ظل أية ظروف، وما هو العدد الكافي كي نتمتع بدعم “الأكثرية الواعية” كي يمكننا الاستفادة من العبارة المبهمة لماركس والتي أشرت إليها مقابل فكرة بلانكي. إنني لم أكن يوماً من الأيام لينينياً، وكنت على الدوام أوجّه الانتقاد للأحزاب الطليعية وكل أنواع المنظمات الحزبية المبنية على المركزية الديمقراطية. ولكن يجب البدء بكوادر ملتزمة لبناء نوع من المنظمات السياسية تستطيع أن ترتفع بوعي الشعب لفهم أهمية تغيير الدولة والمشاركة في عملية التغيير وحمايتها، واتخاذ خطوات صوب التغيير الهيكلي للمجتمع. إذن هل من الممكن القول أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي كان يمثل “الأقلية” في حين أن الحزب الاشتراكي الألماني كان يمثل “الأكثرية”؟ لقد كان الحزب الألماني شاملاً وقام أعضاءه بالدفاع عن الحزب بشكل واسع، علاوة على أنه بادر إلى تأسيس النقابات العمالية وناضل من أجل احقاق حقوقها، وشق طريقه إلى الحكومة بواسطة آرائهم. وفي الحرب العالمية الأولى دعم الحزب القيصر الألماني، كي يتجنب اتهام النظام القديم له بالخيانة، وهذا لا يعني أنه وجميع أعضائه خانوا الأيمان بالاشتراكية. إنهم في الواقع كانوا قلقين من تعاظم الشعور القومي المتشدد في صفوف أعضائه، كما كانوا قلقين من مواجهة تعلق أعضاء الحزب بالنقابات التي عملت على رفع أجورهم؛ هذه النقابات التي كانت ترفض الثورة كما أشارت إلى ذلك روزا لوكسمبورغ بشكل واضح في كتيبها “الأضراب الجماهيري”، رغم حديثهم عن الاشتراكية في الاجتماعات الحزبية. ويجب التذكير بأن الحزب الروسي كان يضم في صفوفه مليون عضو تقريباً، لذا كان حزباً واسعاً ولايضطر إلى الانتقال إلى العمل السري. وكما توقعت روزا لوكسمبورغ، فإن النظام القيصري في روسيا إنهار خلال الحرب العالمية الأولى، وظهرت بسرعة على السطح الكثير من السوفيتات المحلية، ولم يكن بمستطاع كيرنسكي إرساء نظام برلماني، وانتقلت السلطة إلى الشارع ليصطحبها البلاشفة الذين كانوا يتمتعون بقدرة تنظيمية كافية. ولكن لروزا لوكسمبورغ كل الحق عندما حذرت البلاشفة من أنهم يزيلون كل الشروط أمام الطبقة العاملة في تعاظم قدرتها وتوسيع نفوذها بعد أن أقدم البلاشفة على حظر نشاط الأحزاب الأخرى التي كانت تتمتع بتأييد الكثير من أوساط الطبقة العاملة. ففي حالة فرض الحظر على نشاط الأحزاب الأخرى التي تتمتع بالدعم من العمال، فكيف سيتم معرفة من الذي يدعم الأحزاب الرجعية، هل على أساس طراز ملابسهم التي يرتدونها؟ وفي الحقيقة أن بعض بذور الستالينية قد زرعت في تلك الفترة. ولنا أن أشير إلى أنه في تلك الأيام المثيرة التي سقط مبارك في مصر، لم يكن لأي بلشفي وجود في شوارع مصر كي يقتحم أبواب السلطة، ولذا لم نر أية نتيجة مهمة تذكر على اثر هذا السقوط.
سعید رهنما: سعيد جداً بإشارتكم إلى التجربة الألمانية، لأنها تشير بوضوح إلى هزيمة كل من الستراتيجية الأصلاحية والثورية على حد سواء. فكما تعلمون انه بعد سقوط الامبراطورية الألمانية، استطاع حزب العمل الاشتراكي الألماني السيطرة على الحكم لأإن ضم في صفوفه مفكرين كبار، وانتسب أكثر من مليون عضو فعال إلى صفوفه. ولكن بسبب الاختلافات الداخلية، لحقت الهزيمة بالثورة. وقد اتهم اليسار المتطرف السبارتاكيون/ الشيوعيون والاشتراكيون المعتدلون في الجناح اليساري بالوقوف إلى جانب الجيش والقوى الرجعية، كما اتهم الجناح اليميني في الاشتراكية الديمقراطية الجناح اليساري بالتسرع في إعلان الجمهورية الاشتراكية والدعوة إلى الثورة. اعتقد أن هناك عناصر من الواقعية الدرامية في ادعاءات كلا الطرفين.
لیو پانیچ: هذه الأحكام خاصة جداَ.
سعید رهنما: النقطة التي أود الإشارة إليها هي أنه ليست بالضرورة أن تؤدي أية لحظة ثورية إلى نتائج لصالح الاشتراكيين. ويكتسب هذا الأمر مصداقية خاصة في عالم اليوم مع بروز أنواع مختلفة من الأصوليين الرجعيين على الساحة. لقد اقتبست في كتابي “الأشتراكية المتجددة” قولاً مأثوراً لريموند ويليامز جاء فيه:”عندما يصل الشعب إلى نقطة يجد أنه من غير الممكن تحمل عبأ التناقضات قياساً بكلفة إنهائها، فسيتحرك صوب الثورة”. فبدون شك عندما لا يوحد أمامك أي خيار آخر سوى الثورة، فستندلع الثورة بالتأكيد. ولكن ولشديد الأسف، إننا لو تمعنا في كل الثورات السياسية، فنرى إن كلفة وضع نهاية مفاجئة للتناقض أعلى كلفة. ولدينا الكثير من الأمثلة على ذلك، ولكن أكتفي بالإشارة إلى تجربتنا.
لیو پانیچ: أتفق معكم تمام الاتفاق، وأظن أن على كل الذين يتمتعون بالمصداقية أن يكونوا على بصيرة من تكاليف ومخاطر مثل هذه الثورات، كما عليهم أن يدركوا بأن الكثير من أفراد الشعب لا يميلون إلى المشاركة فيها، جراء شعورهم الغريزي بالثمن الباهض الذي يكلفهم مثل هذا التغيير. وأظن في مثل هذه الحالات إن نكون على حس مرهف كي لا نطرد هؤلاء بدعوى أنهم رجعيون. ولكن في لحظات تعرض النظام للسقوط ، ويحصل اصطفاف للقوى الاجتماعية، ومن ضمنها القوى الرجعية في تجربتكم، بحيث تشارك في عملية اسقاط النظام، فيغدو من الصعب جداً تفادي المواجهة معها. وفي الحقيقة إن ذلك له صلة بالأوضاع والأحوال في كل بلد، ولكن المهمة التي تقع على عاتقنا هي توسيع ثورة الشعب إلى درجة يمكن عندها توفير إمكانية التحول الاشتراكي.
سعید رهنما: دعني أطرح السؤال اللاحق، ففي الوقت الذي اعتبر ماركس العنف عتلة الثورة، إلاّ أنه استثنى من ذلك الدول التي يتمتع العمال فيها بحق الاقتراع، حيث يلجأون إلى الأساليب السلمية لتحقيق أهدافهم. ويتمتع المواطنون الآن في غالبية بلدان العالم بهذا الحق، فإلى أي حد وفي ظل أية ظروف يمكن الانتقال بالطرق السلمية؟
لیو پانیچ: الماركسية ليست نظرية ثابتة حول الثورة، إنها قدمت أكبر عون لنا كي نفهم بشكل أفضل جوهر الرأسمالية. ولقد حلل ماركس بشكل رائع، لكونه صحفياً، بعض اللحظات الثورية خاصة في فرنسا. ولكنني اعتقد وجوب البحث المنطقي في هذه الحالات بالاستناد إلى هذا الاقتباس أو ذاك من أقوال ماركس الذي يجب أن لا نتوقف عنه. وباعتبارنا ماديين تاريخيين، فيعني ذلك أن نفهم الظروف المتباينة التي يجري في ظلها البحث. فعندما استعرض ماركس هولندا وبريطانيا والولايات المتحدة في ذلك الوقت، فكيف كان بإمكانه التنبؤ بتحول أي من هذه البلدان إلى الديمقراطية الليبرالية بعد عام 1945. فمن المعلوم أنه بعد عام 1945 فقط، تمتع العديد من البلدان بحق الاقتراع العام المضمون وانتخابات مستقرة خاضعة للرقابة.
سعید رهنما: القضية هي أنه إذا استطاع العمال وأكثرية أفراد الشعب أن يرسلوا ممثليهم الحقيقيين إلى البرلمان، فيبدو أنه لم تعد هناك أية ضرورة للثورة السياسية المفاجئة.
لیو پانیچ: على شرط أن يعلن الحزب الذي يمثلهم عن استعداده للمساءلة والعزل، وأن يضمن أن هؤلاء الممثلين هم كوادر ومنظمون، وليسوا سياسيين مهنيين تتحدد مهنتهم الأصلية في ” التمثيل في البرلمان” على مر العهود. وإذا ما كان لي دور في هذه البحوث، فإنه يدور حول هذه النقطة. إننا نشاهد الآن، وبعد قرن كامل من النشاط البرلماني، بأن الممثلين المنتخبين من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية قد اندمجوا في هياكل الدولة، ونسوا دورهم القائم على أن يعبروا عن إرادة ناخبيهم. ولقد تنبأ روبرتو ميشلز بذلك قبل قرن كامل في كتابه المعنون “الأحزاب السياسية: القانون الجديد للأوليغارشية”، هذا الكتاب الذي لا يتضمن مفاهيم اشتراكية، ثورية كانت أم إصلاحية. ينبغي أن نكون على قناعة أن باستطاعتنا أن نوسع قدرات الشعب كي تكون لدينا ديمقراطية ذاتية. فلم يعد يكفي القول ما هي حصيلة جلوس “ممثلين حقيقيين” للعمال على مقاعد البرلمان، فالمهم هو نوع الديمقراطية السائدة في البلاد. لقد ظهرت بعض الحركات السائرة على هذه الخطى في العقود الثلاثة الماضية. فحزب الخضر في ألمانيا الذي طُرد أعضاؤه من الحزب الاشتراكي الألماني عام 1970، على اعتقاد بضرورة عزل وتغيير ممثلي البرلمان وما شاكل ذلك. وعلى هذا المنوال، قام حزب العمال في البرازيل، وأكد على أن الوظيفة الأساسية للأفراد الذين يجلسون على مقاعد البرلمان يجب أن تبقى ذات طابع تنظيمي.
سعید رهنما: بالطبع، وأود أن أضيف إلى ذلك، أن حزب الخضر الألماني تخلى عن الترتيبات التنظيمية التي سادت في السبعينيات بعد أن اتسعت عضويته ونفوذه، ولكن الحق معكم بأنه من الضروري أن لا ينتابنا الوهم حول الممثلين الحاليين في الديمقراطيات الليبرالية. والقضية هي كيف يستطيع الاشتراكيون والتقدميون الاستفادة من الآليات الديمقراطية كي يحققوا أهدافهم، وكيف يستطيعون تغيير هذه المؤسسات. لقد أشرت في أحد مؤلفاتي حول فشل الماركسية التقليدية في عرض المؤسسات الضرورية للاشتراكية الديمقراطية، هذه المسألة التي ترتدي أهمية خاصة.
لیو پانیچ: أشعر بالانزعاج عندما يلصق البعض بي صفة الماركسية الكلاسيكية أو الأرثدوكسية، إنني احتفظت بايماني بالاشتراكية، وعلى اعتقاد بأن بعض جوانب الماركسية حول الرأسمالية قد ساعدتنا على إدراك جوهر الرأسمالية، إضافة إلى القسم الأعظم من نظرية ماركس حول فائض القيمة. في سنوات شبابي، كتبت مقالة أشرت فيها إلى نواقص الماركسية بصدد تحديد وتبيان المؤسسات الضرورية للانتقال إلى الاشتراكية. وبحثت في اصطلاحات ماركس وأنجلز حول “ديكتاتورية البروليتاريا” و “تحطيم الدولة” ومثيلاتها من الاصطلاحات التي لم تجيب على أغلب الأسئلة المعقدة. إنني أعتقد أنه من الضروري على جيلنا والجيل القادم المؤمن بالمستقبل الاشتراكي عبوراً بالرأسمالية، أن يسعوا إلى إيجاد المؤسسات الضرورية، وتوسيع التحليل الماركسي في ميدان المؤسسات بهدف تحسين محدوديات المؤسسات الرأسمالية، سواء أكانت مؤسسات على شكل شركات أم مؤسسات تابعة للدولة، ومؤسسات الطبقة العاملة والعاملين فيها الآن أو المؤسسات الجديدة التي تتكون في معمعان النضالات الثورية.
سعید رهنما:بسبب النفوذ الذي تمتعت به اللينينية، فقد قام القسم الأعظم من التنظيم ذي الطراز اللينيني على التحليلات المتعلقة بالمؤسسات الاشتراكية.
لیو پانیچ: بالطبع يجب أن نتحلى بذهن متفتح. وكما أشرت سابقاً، لم أكن لينينياً طوال حياتي. ولكن عليّ أن اعترف إن القسم الأعظم من الملتزمين ، وأكثرهم وعياً والكوادر المؤثرة والكثير من أفضل المنظمين قد ظهروا في المنظمات اللينينية. وأظن أنه من الممكن أن يتكرر ذلك في هذه الأيام. وعلى أي حال، وكما أشرت آنفاً، فإن التزام هؤلاء بالنموذج البلشفي يعتمد غالباً على نتائج جهودهم، مقارنة بالفترة التي كانوا منظمي الطبقة العاملة لا يقدمون سوى نتائج يسيرة أحياناً. لقد كان أبي اشتراكي ديمقراطي وناشط نقابي أيضاً، وأصبح في أحدى الفترات الرئيس المنتخب للنقابة. لقد كان شاهداً على أقدام الزعماء الشيوعيين في النقابة على إثارة المشاكل تنفيذا لتوجيهات “الخط الحزبي”. كما كنت شاهداً على عمتي التي انخرطت في الحزب وكانت تتمتع بحس أعمق عن الاستغلال من أبي، وحتى أعمق من اتحاد مشترك المنافع الكندية CCF ( طليعة الاشتراكية الديمقراطية الحزب الديمقراطي الجديد NDP). وبدون شك، هناك عيوب في كلا الحزبين، وينبغي استخلاص الدروس منهما كي نمتنع عن هذه الممارسات.أعتقد إننا يجب أن نتوسع في هذا التفكير الستراتيجي لبناء المؤسسات ، كما يجب أن يعتمد ذلك على معرفة مزايا ومحدوديات كلا النوعين من المنظمات، دون أن نستنسخها، وذلك لأن المسيرة التاريخية قد تجاوزتهما. ولذا يجب إرساء مؤسسات بشكل خلاق، وأن ندرك التفاوت في المؤسسات تبعاً للظروف التاريخية.
سعید رهنما: هذا الأمر يحتل أهمية فائقة في ظل ظروف العولمة الجارية في الوقت الراهن. في السابق، سعى اليسار إلى خلق مؤسسات على المستوى المحلي بأمل استقرار الاشتراكية في البلاد. أما الآن، ففي الوقت الذي خلقت العولمة فرصاً جديدة، إلاّ أنها أقامت موانع جديدة أيضاً. ولذا فإن السؤال القديم حول إمكانية بناء الاشتراكية في بلد منفرد يرتدي المزيد من الأهمية.
لیو پانیچ: هذه القضية تثير لديّ اليوم القلق الشديد. فمن ناحية ينبغي القول أنه بعد فشل الثورة الألمانية الذي عرّض الثورة الروسية إلى الحصار، فقد برهن ستالين بإجراءاته أنه من غير الممكن انتصار الاشتراكية في بلد واحد على انفراد على الإطلاق. ولدينا اليوم انتاج عالمي، وأصبحنا تابعين للرأسمال المالي المتعدد القوميات وغيرها من خصوصيات الرأسمالية العالمية. ومما يقلقني هو حجم الثمن الذي يتحمله أي شعب يسعى إلى التحولات الاشتراكية. لنأخذ اليونان على سبيل المثال، حيث حصل سيريزا، هذا الحزب الذي أثمن دوره، على أكثرية الأصوات في استطلاعات الرأي وشكّل الحكومة. لقد جرى انتخاب سيريزا عبر انتخابات ديمقراطية على أساس الوعود التي قدمها للناخب اليوناني، وإذا لم يف سيريزا بوعوده الانتخابية المتعلقة بإلغاء الاتفاقية المفروضة على اليونان من قبل ترويكا الاتحاد الأوربي والبنك المركزي الأوربي وصندوق النقد الدولي، فقد يؤدي ذلك إلى طرد اليونان من منطقة اليورو وحتى الاتحاد الأوربي، وسيتعرض الشعب اليوناني إلى أضرار أكثر. وإذا ما اضطر اليونانيون على نشر “الدراهما” على نطاق واسع، فسيتعرض الاقتصاد اليوناني إلى التضخم الحاد، ولا يستطيع استيراد البضائع التي هو بأمس الحاجة إليها، إضافة إلى المشاكل الأخرى. لقد طرحت هذه المشكلة على الجميع في اليونان، رغم إني كنت قلقاً من استغلال اليمين ذلك ضد سيريزا. ومن ناحية أخرى ماذا يمكننا أن نقول، فهل عليهم القبول بالتقشف المميت الذي فرض عليهم؟؟ وتبقى المسألة الواقعية هي الحاجة إلى ميزان القوى في أوربا الشمالية يبدي ضغوطه على تلك الدول كي تلتقط سيريزا أنفاسها، ومن ضمنها الرقابة على الرأسمال وعلى الواردات. وفي الوقت نفسه، فإنني لا اعتقد بإمكان بناء الاشتراكية في بلد واحد، وأعتقد إن الحل هو التوسع الاقتصادي في الداخل بشكل أكثر.
سعید رهنما: بدون شك، ينبغي على أي حزب تقدمي راديكالي أن لا يستسلم للرأسمال، ولكن في الوقت نفسه هناك واقع صعب يجب على الاشتراكيين مواجهته. ففي ندوة اليسار التي عقدت من أجل البحث غي موضوع سيريزا وكوبك سوليدار ( الحزب اليساري في ولاية كوبك الكندية)، سمعت أنكم أجبتم على سؤال حول الإصلاحات البنيوية، وقلتم إن سيريزا وكوبك سوليدار غير قادرين على إجراء إصلاحات بنيوية، لأن الظروف غير مهيئة الآن. إنني أقارن هذا الموقف المسؤول باللقاء الصحفي لـ”آلن وودز” حول سيريزا الذي انتقد سيرزا معتبراً أي اقتراب لسيريزا من السلطة يقلل من راديكاليتها، ويوصي بأن على الحزب أن يتحرر من كل المنظومة ويعلن الحرب على الترويكا. بالطبع من السهولة إطلاق الشعارات الراديكالية، ولكن إذا ما تأخرت اليونان عن دفع مستحقات ديونها، فسوف لا تتمكن من تصدير أجبانها، ولا تستطيع البواخر اليونانية الرسو في الموانىء الأجنبية وقد تتعرض إلى خطر المصادرة.
لیو پانیچ: طبيعي، فلا يمكننا أن نغدو إرادويين بالكامل، عندئذ سنكون في عزلة عن الواقع. إن المؤشر الأصلي في عدم قدرتنا على إدانة سيريزا أو أن نفرض على سيريزا بعض الحلول هو أن أكثرية أفراد الشعب الذين صوتوا لسيريزا يعارضون خروج اليونان من الاتحاد الأوربي. فلو أعلن الحزب رأيه بالخروج، فسوف لا يكون بإمكانه الحصول على هذه النسبة المئوية من الآراء. ومع ذلك يبقى الهدف في الواقع هو استرداد الرأسمال من الرأسمال، استرداد النظام البنكي اليوناني وتحويله إلى خدمات للمنفعة العامة وجزء من نظام التخطيط الاقتصادي الديمقراطي. ولكن يبقى السؤال الآن، أي هدف هذا الذي يدور في ذهننا، مع الأخذ بنظر الاعتبار إن توازن القوى لا يسمح لحد الآن الإقدام على خطوة راديكالية. والقضية المهمة هي أن نتمتع بالمصداقية أمام الناس ونصارحهم. وفي الحقيقة فعندما يشرع الشعب بانتخاب ممثليه، ويدرك هؤلاء الممثلين أن توازن القوى ليس في صالحهم، فإن عدم التحرك يضفي العقلانية، ويتخلون عن تعبئة الشعب صوب الاشتراكية. هذه الحالة هي التي كانت سائدة في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. واعتقد أن من المهم أن يبادر ممثلو الشعب المنتخبين إلى توضيح الهدف الاشتراكي بشكل صريح. ولكنني أفهم أنه لو أقدم هؤلاء على هذه الخطوة، فإن القوى التي تحافظ على الوضع الموجود ستضعهم في الزاوية، وسوف لا تجري الانتخابات بسهولة.
سعید رهنما: الآن أود الاستمرار في السؤال عن الاشتراكية نفسها. ما هي وجهة نظركم حول ملامح وخصائص ما يسمى بالمرحلة الأولى للمجتمع الذي يلي الرأسمالية؟ وما هي اختلافات هذا المجتمع عن التجربة الروسية والصينية من حيث التأميم والاشتراكية الصارمة للاقتصاد والإلغاء المطلق للقطاع الخاص وسيطرة الدولة على جميع مرافق الحياة وغيره؟
لیو پانیچ: عندما عاد استاذي وزميلي رالف ميلبند من زيارته للاتحاد السوفييتي، قال:” ماذا تظن سبب عدم وجود مقاهي هناك؟؟؟ لأن المقاهي هي المكان المفضل للتخطيط للثورات”. من الواضح أن المقاهي إذا ما وجدت في مجتمع اشتراكي فستكون حافلة بالحياة. إن مرافق العمل ذات الإدارة الذاتية هي مجرد خلايا لانتاج السلع وتوفير الخدمات، ويمكن أن تتوفر إلى جانبها خلايا للتوزيع تعتمد على السوق. فعلى سبيل المثال منظومة من الحلاقين قائمة على السوق. ولكننا لا نريد صحفاً يتخذ السوق قرارات بشأنها، بل أن تتوفر الظروف كي ينتج الناس توليد المطبوعات وإدارتها بالاشتراك مع العمال، وأمثلة أخرى من هذا القبيل. ولا أعتقد أن هناك حاجة للتذكير بأننا على فهم لكل هذه الأمور. إن التأميم اصطلاح موحش تحملنا أعبائه،لإن الأصل في ذلك هو أن “المؤسسات المؤممة” تقع تحت اختيار القطاع العام والدولة الموجودة. ولكن الدولة والقطاع العام هما موجودان بيروقراطيان، لأنهما رأسماليان. إن كل أهداف تغيير الدولة تقوم بالأساس على تشجيع اللامركزية والمبادرة وأمور من هذا القبيل. باعتقادي أن ما له الأولوية في الإصلاح الهيكلي، ولا أدري المدة اللازمة لذلك كي نصل إلى الهدف، في الظروف الرأسمالية المعاصرة هو تحويل المؤسسات المالية إلى القطاع العام الذي يرتدي أهمية بالغة. وتستفيد سيريزا من اصطلاح قائم على هذه الفكرة، ولكنها تعلن بوضوح إن المقصود هو الملكية الاشتراكية.
سعید رهنما: ولكن خلافاً لادعاء الفوضويين، فإن الدولة تبقى المؤسسة الاجتماعية.
لیو پانیچ: إنني أشير إلى جميع المؤسسات التمثيلية وأدارة شؤون المجتمع، وإذا أردتم فلنطلق عليها مفردة الدولة، وليست هناك أية إشكالية في ذلك. ولكن المشكلة هي أننا نريد تغيير الدولة لا أن نستورثها. إنني أتفق مع ضرورة انتقال ملكية البنوك إلى القطاع العام، وكذا الحال بالنسبة للشركات الصناعية المهمة. وأقولها ببساطة نحن بحاجة إلى رقابة عمالية، حيث يصبح بإمكان العمال اتخاذ القرارات في مرافق عملهم. كما يجب أيضاً وجود أنماط من الرقابة الاجتماعية ودرجة التمثيل من أجل اتخاذ القرارات في أعلى المستويات بشكل يتجاوز مرافق العمل. وفي هذا المفهوم، يلعب العمال دور الحكّام في القرارات حول ما ينبغي التعامل مع مصادر هذه المرافق. وهكذا فإن العملية هي اعقد بكثير مما تصوره ماركس عند الكتابة حول كومونة باريس.
سعید رهنما: إنني سعيد بإشارتكم إلى هذا الموضوع. فكما تعلمون في اثناء الثورة الإيرانية عام 1979، وبقدر ما يتعلق بمجالس العمال، فقد أقمنا مجالس في كل المصانع والمرافق الانتاجية الأساسية، وفرضت هذه المجالس رقابتها على جميع الأمور. ففي اتحاد مجالس هيئة توسيع وإعادة بناء الصناعة الذي يضم أكثر من مائة فرع صناعي، وكما أتذكر، كنا ننتقل من مجلس إلى آخر ونعين مدراء مفوضين جدد، وعملنا على تقوية المجالس. لقد كانت لدينا أوهام كثيرة، ولكننا أدركنا بأن تلك الإجراءات عابرة، ليس بسبب ماهية النظام فحسب، بل بسبب ضعف المجالس وسوء جوهر المجالس والرقابة العمالية. فمن الممكن أن تخضع الوحدات المحلية الصغيرة إلى الرقابة العمالية الكاملة، ولكن في الصناعات الستراتيجية الوطنية أو المناطقية مثل شركات النفط والفولاذ أو الشركات الخدمية مثل النقل والكهرباء والماء، فلا يمكن أن يتولى العمال والموظفين مهمة اتخاذ القرارات في هذه المرافق الاقتصادية. كثيرون تحدثوا عن الإدارة الذاتية دون أن يفصحوا عن وجهة نظرهم حولها وبشكل صريح.
لیو پانیچ: نعم، لقد قرأت مقالتكم حول هذا الموضوع. وينبغي أيضاً أن نستخلص الدروس من المشاكل اليوغسلافية في هذا الصدد.
سعید رهنما: إن سؤالي التالي يتعلق بالطبقة. فأية طبقة أو طبقات تعتبر القوة المحركة للثورة الاشتراكية؟ في مراحل تاريخية سابقة، جرى التأكيد على الطبقة العاملة، ولكن ممّ تتشكل الطبقة، وهل تشمل العمال من ذوي الياقات البيض والطبقات المتوسطة الجديدة؟
لیو پانیچ: نعم، يجب أن نعرّف القوى الداعمة للاشتراكية على الدوام ضمن إطار أوسع، حيث تشمل الطبقة العاملة بمفهومها الواسع والمتنوع جداً، ولا ينبغي أن نتصور فقط عمال الصناعة، رغم إن هذا المفهوم هو الذي ساد في الأحزاب الاشتراكية التقليدية أحياناً. لقد كان من الخطأ التركيز المجرد على عمال الصناعة، الذين كانوا يشكلون أقلية على الدوام، ولا يشمل هذا المفهوم المعلمين وحتى عمال الخدمات ومن ضمنهم الحلاقين. لو كان لدى هذه الأحزاب نظرة أوسع ضمن مسؤولياتهم قائمة على الفئات التي ينبغي رفع وعيها السياسي وتعبئتها، فستتحول هذه الأحزاب إلى أحزاب جماهيرية أكثر. ويحتاج ذلك إلى بذل الجهود كي يقتنع المعلمون والآخرون بغض النظر عن مستواهم التعليمي، أن يصبحوا جزءاً من الطبقة العاملة. بالطبع إن ذلك ليس من السهولة بمكان، لأن المعلمين يعتبرون أنفسهم أعلى مرتبة، أو أن الحلاقين يعتبرون أنفسهم أرباب عمل. وهذا يحتاج إلى تغيير في نظرة الشعب تجاه ذلك، وهو أمر ممكن. ولكن من الواضح أنه لا يمكن اعتبار جميع هؤلاء في عداد الطبقة العاملة، خاصة المدراء والمدراء المفوضين. نحن بحاجة إلى خريطة طبقية أكبر بكثير وتتجاوز عمال الصناعة. كما سادت أيضاً فرضية خاطئة هي أن جميع عمال الصناعة ثوريين. في حين يمكن لعمال الصناعة أن يعبروا عن هويتهم على شكل كاثوليكي أو قومي متطرف أو اسلامي. فالقضية إذن تتعلق بالتوازن بين المكانة الموضوعية في العلاقات الاجتماعية وكل أشكال الإمكانيات الذاتية. يمكن للبعض أن يتمتع بميول اشتراكية، لأنهم يتعرضون للاستغلال والتهميش، رغم أن هذه العوامل لا تشكل العوامل الحاسمة في الخيار.
سعید رهنما: المسألة الاساسية هي حاجتنا إلى نظرية جديدة للتحليل الطبقي، خاصة فيما يتعلق بالطبقة المتوسطة الجديدة والموظفين المأجورين. فالطبقة العاملة بمفهومها التقليدي تتراجع اليوم من حيث حجمها وعددها، ومن ناحية أخرى هناك زيادة كبيرة في عدد شغيلة الفكر والعاملين في هذا المجال، لأن المنتجين للمعلومات هم أكثر الآن من المنتجين للمواد، في حين أن كلا الفئتان تحتلان مواقع متشابهة في ميدان العلاقات الانتاجية، إلاّ أنهما يختلفان من حيث الدخل والمكانة والمطاليب والآمال والمصالح.
لیو پانیچ: نعم، بما أن الحياة أصبحت أكثر سلعية، فقد أصبح العمل المربوط بهذه الحياة أكثر سلعية. وليس هناك أي معنى للمفهوم القائل بأن السلعة هي ذلك الشيء الثقيل بحيث أذا وقع على قدميك فسيلحق الضرر بها. إن كل المنتجات “غير المادية” التي نحصل عليها من وسائل الاتصالات اليوم (عن طريق شبكة مادية واسعة) هي سلع: وتحولت جميع الخدمات التعليمية والصحية إلى سلع. لذا فإن الأفراد الذين ينتجونها هم جزء من الكيان الذي يقدم الدعم لنا. ومن الطبيعي أن يزداد عددهم ويتعرضون إلى عملية التحول إلى بروليتاريا، بمعنى أن قدرتهم في محيط العمل في تراجع ملحوظ. فمن المعلوم أن المحاسب والمهندس واستاذ الجامعة كانت لديهم قدرات كثيرة في محيط العمل، وكانوا يتمتعون بالرقابة على عملية العمل. وبما أن قدراتهم هذه قد تراجعت، فإن التفاوت يتراجع بين شغيلة الفكر وحتى عمال الخدمات مثل عمال النظافة، إضافة إلى عمال الانتاج الصناعي. إن كل ما نستطيع قوله هو أن هناك بشكل موضوعي فرصة كبيرة للعمل المشترك من أجل إحراز النصر على العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
سعید رهنما: لا يوجد هنا أي اختلاف نظري. إننا أمام تعريف واسع جداً للطبقة العاملة، طبقة بالغة التمايز والتصنيف مما يتطلب من الاشتراكيين أن يعترفوا رسمياً بهذا التمايز وأن يرسموا سياساتهم بشكل يمكّنهم من تمثيل أنصار أكثر. وكما تعلمون فإن شرائح من الطبقة المتوسطة، من الناحية الأيديولوجية، تقف إلى جانب الطبقة العاملة، ومن ضمنهم غالبية المثقفين، ولكن هناك أعداد كبيرة أيضاً تقف إلى جانب الرأسمالية ومن الممكن كسبهم ببساطة. نحن نحتاج إلى رسم سياسة لجذبهم، وإذا ما ركزنا فقط على مطاليب العمال، فسنصل إلى حالة تشبه حال فنزويلا اليوم.
لیو پانیچ: إنني غير متأكد حول إنطباق ذلك على المثل الفنزويلي، وأميل إلى النظر صوب القوى الفعلية التي تدعم ثورة فنزويلا. ولكن من جديد هل ينبغي النظر إلى الطبقة المتوسطة بشكل مستقل عن الطبقة العاملة. أظن أنه من الضروري النظر بشكل متزايد إلى الطبقة العاملة التي تشمل أيضاً عمال الخدمات وشغيلة الفكر، لا باعتبارهم طبقة متوسطة. وبما أننا توسعنا بالتعليم العالي، فهناك فرصة عظيمة لأفراد الشعب من أجل كسب المهارات،بحيث يدركوا أن دعم المشروع الاشتراكي يجلب المنافع لهم.
سعید رهنما: لنأتي على السؤال الأخير، ما هي الخطوات العملية للمدافعين عن الاشتراكية كي يقتربوا من البديل المطلوب في مواجهة المنظومة الرأسمالية العالمية؟ لقد أشرتم في مقدمة مقالتكم المعنونة ” القضية الستراتيجية” المنشورة في مجلة ” سوشیالیست رجیستر” إلى أهمية التنظيم. فأي نوع من التنظيم هذا الذي تقصدونه؟
لیو پانیچ: هناك حاجة إلى التنظيم في كل مكان، ولنبدأ من النقطة التي بدأها ماركس، أي بالتربية الاشتراكية. في الحقيقة لم تعد للثقافة الاشتراكية مكان في هذه المرحلة، وهذه كارثة، حيث تخلت الأحزاب الاشتراكية والشيوعية عن لعب هذا الدور. لقد أشرت إلى أن ابي كان يعمل في مصنع تفصيل الفرو وخياطته، إلاّ أن معلوماته السياسية حول قوانين منظومة رابرتس تفوق معلومات طلبة الصف الرابع في الجامعة. فقد تعلم كل ذلك في الحركة النقابية وفي الحركة الاشتراكية. وهذا لا يعني أن تتقدم طلائع الأفكار اللينينية وتفرض أفكارها ها على الناس. فالهدف هو توسيع قدرات الشعب، بحيث لا يمكن قمعها في أي مجتمع رأسمالي. بالطيع على الاشتراكيين أن يطرحوا المطاليب ذات العلاقة والجاذبية حول الدولة والرأسمال، وجذب أنظار الشعب الذي يمكن أن يتحلوا بالنفرة من السلعية. فمن الممكن الحديث عن سلعية النقل والتعليم والصحة، وليس الاكتفاء بظروف العمل والدخل. وأعتقد أن هذه المطاليب تجد لها معنى في صفوف الشعب بشكل متزايد. كما يجب أن نتحلى بالمصداقية أمام الشعب. إنني أوجه الانتقاد الشديد إلى بعض النزعات في الاشتراكية الديمقراطية التي تعارض الضرائب وتتنافس حولها مع الليبراليين الجدد. فلو تحدثنا بشكل مجرد عن جباية الضرائب من الأغنياء من منطلق الحاجة للحصول على الأموال منهم، فإن ذلك لا يعود بالفائدة على العمال كي يفهموا أنهم من الضروري أن يدفعوا الضرائب مقابل الخدمات الاجتماعية بسبب سلعية الخدمات. واذا ما جرى الاستمرار باللعب على نغمة معارضة الضرائب، فإن ذلك سيضعف عملية التربية السياسية للشعب ويحرمه من القدرة على التغيير والاستعداد للتغيير الاشتراكي.
وكما أشار ماركس فإن ذلك يحتاج إلى فترة طويلة، إلى 15 أو 20 أو 50 سنة؛ فإذا ما قلنا للشعب إننا على عتبة الثورة، في حين أن الشعب على إدراك بأن الظروف غيرمؤاتية لها، فسيذهبون إلى أسرّة نومهم أو يختبئون في مكان ما. إنني غالباً ما أتنبأ بالكارثة التي تحل في تبني فكرة كون الرأسمالية قد شارفت على نهايتها، وقد مرت خمس عشر أزمة حتى الآن دون أن تنهار الرأسمالية. وعلى هذا المنوال يعلن أنصار البيئة اليوم إننا سنواجه كارثة بيئية خلال الخمس أو العشر سنوات القادمة. إنني لا أتحدى جدية القائلين بأزمة البيئة التي تواجهنا، إلاّ أن هؤلاء الأفراد لا يقدمون أية خدمة من خلال هذه التصريحات. إنهم يضعون الأساس للإيمان بالقضاء والقدر، في حين إننا نحتاج إلى زمن طويل كي نتمكن من القدرة على تغيير العالم، وإذا ما كررنا تلقين الشعب بذلك فلا تحين الفرصة كي نقحمهم بهذه العملية. إنني اتفق معكم في الحاجة إلى آفاق ستراتيجية طويلة الأمد لا آفاق ستراتيجية قصير الأمد.
سعید رهنما: ولهذا السبب أؤكد في الوقت نفسه على عدم وضع الهدف الكبير للاشتراكية عرض الحائط، بل يجب أن نفكر في مواجهة التحديات الرأسمالية العالمية. وللأسف، وبما أننا أمام مسيرة طويلة في مرحلة الرأسمالية، فعلينا أن نخطط وننظم كي نستطيع أن نخطو خطوات باتجاه مرحلة ما بعد الرأسمالية. ولهذا اقترح المرحلة التمهيدية للانتقال.
لیو پانیچ: نعم، ولكني اعتقد أننا يجب أن لا نتحمل مسؤولية تحسين الرأسمالية في أي بلد بذريعة عدم توفر الظروف للاشتراكية. اتفق مع الحاجة إلى آفاق طويلة الأمد للاشتراكية، وليس من نوع الآفاق الطويلة الأمد التي تدعو إلى أن نلقي هذه المهمة على الآخرين وأن نتولى مسؤولية تحسين الرأسمالية.
سعید رهنما: كلام كامل الصحة، ومع الشكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*لیو پانیچ، (Leo Panitch) منظّر معاصر بارز، عمل كرئيس تحرير مجلة ” سوشیالیست رجیستر” لمدة ثلاثة عقود. ويشغل الآن كرسي البحوث في مادة الاقتصاد السياسي التطبيقي في جامعة يورك في تورنتو، واستاد البحوث الممتازة في جامعة يورك في تورنتو. صاحب الكثير من الكتب والمقالات في مجال الاقتصاد السياسي. آخر كتاب له بالاشتراك مع سام گیندین بعنوان “كيف خلقت الرأسمالية العالمية” و “الاقتصاد السياسي للأمبراطورية الأمريكية”. حائز على جائزة كتاب ” دویچر. في المملكة المتحدة، وجائزة كتاب ” دیویدسون” في كندا.
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :