أحمد معاذ الخطيب الحسني
هل ستشرق الشمس من موسكو؟
أعترفُ أني ارتكبتُ خطأ سياسياً فيما مضى، وهو ظني أن هناك دولة ما ستنقذ بلدنا! ليس لأننا محرومون من الأصدقاء، بل لأن الأنظمة الكبرى في السياسات الدولية لديها فقط مصالح وخطوط حمراء، وهذا ما يهمها! وتتحرك الأنظمة الصغيرة ضمن هوامش قد تضيق أو تتسع ولكنها لا تستطيع تجاوز مسارات الدول الكبرى.. وقبل ذلك وبعده فإن مهمة إنقاذ الأوطان تقع على عاتق أبناء البلد أنفسهم.
وأعترف أيضاً أن حيرة الناس وتوترهم بل صدْمتَهم بكثير مما يجري واقع مُر، ومن حقهم أن يعرفوا ماذا يجري؟ وكيف يجري؟ رغم أنه يصعبُ أحياناً شرحُ بعض الأمور، كما أن الوقت لن يسعف لشرح كل شيء.
السؤال عن زيارة موسكو مشروع بل واجب، ولكني مضطر للتمهيد من أجل شرحها من وجهة نظري التي لا أدعي الصواب المحض فيها، ولكن من المدهش أن العديدين يحملون تصورات تخالف الواقع تماماً، ومنها على سبيل المثال ما يشاع عن توافق دولي على تقسيم سورية!
أكد لي المبعوث الروسي بوغدانوف ثم الأميركي روبشتاين أن بلديهما لا يسعيان إلى تقسيم سورية، ليس هذا فقط، بل ترفض حكومتاهما ذلك! ومن الطبيعي أن الكلام قد لا يكون حجة قطعية، ولكن مصالح الدولتين حقيقة لا تتوافق مع تقسيم سورية! وسأكون دقيقاً في ذكر الحقائق لأقول: إن المعارضة السورية بكل أطرافها السياسية والعسكرية ومن طورها السلمي الذي كان يدوي بندائه الرائع : واحد.. واحد .. الشعب السوري واحد، ووصولاً إلى بياناتها في طورها المقاتل، ومن آخرها: ميثاق الشرف الثوري الذي وقعته الجبهة الإسلامية ثم مبادرة : (واعتصموا)، كلهم قد أكدوا على وحدة سورية أرضاً وشعباً! فمن يريد التقسيم إذاً؟
لابد أنه النظام! ولكن وللأمانة فإن النظام ما زال يقاتل في كل الأراضي التي بقي فيها وكان يسعه الانسحاب ليتموضع بشكل شرس في أراضٍ يختارها لحصته من التقسيم، وفوق ذلك مازال يقدم الرواتب إلى الموظفين من الحسكة وحتى إدلب، ويمد بالكهرباء وشبكات الاتصالات!! ومن يريد التقسيم لا يفعل ذلك، وقد يكون التقسيم آخر سهم تطلقه الأسرة الحاكمة إذا استعصت الأمور عليها، ولكن ذلك لا تبدو مؤشراته واضحة حتى الآن.
هل تسعى تركية أو السعودية وحتى الأردن إلى التقسيم؟ ويمكن التأكيد بالنفي وأنه ليس من مصلحة أحد منهم حصول ذلك! وحتى الكورد المتهمون دائماً بالسعي الخفي للتقسيم يعارض أغلبهم ذلك، ومطالب الأكثرية منهم هي في حقوق ثقافية وسياسية ضمن وطن واحد!
إذاً … فمن هي القوى الخفية التي تسعى إلى ذلك؟
هناك قوتان واضحتان : قوة فاعلةٌ شرسةٌ، وقوةٌ ساذجةٌ تُفعَّلُ بسهولة لتساعد في الواقعة عن حسن نية!
ليس الأمر لغزاً بحال، والقوة الشرسة هي عصابات (مافيات) تجارية عالمية متموضعة في مراكز القرار الدولية، وثقل تلك المافيات ينبع من تحالفات لرجال أعمال وسياسيين بلا ضمير، وأصحاب شركاتِ نفط واتصالات ومخدرات ورقيق أبيض وأسلحة وإعادة إعمار، وهم مثل حيتان القرش المفترسة، مشرَّعة الأنياب دائماً لتمزيق الشعوب ولا تتورع عن شرب دماء ملايين الأبرياء من أجل مصالحها الاستراتيجية.
أصابع تلك المافيات متشابكة مع السياسات وتتقاطع معها بطريقة ليس هناك أمكر منها، وتستغل الظروف، بحيث لا يمكنك في بعض الحالات إلا أن تصبح جزءاً من مخططاتها الشيطانية، وسأذكر مثالاً للتبسيط : خلال موقعي السابق زارني رجال أعمال تحدثوا عن ضرورة إنشاء شبكات اتصالات في شمال سورية! خدمة للسوريين المساكين! المحرومين من الاتصالات، وكنت أهزُّ برأسي مبتسماً أمام وجوه لم أكن أرى داخلها إلا عيون الذئاب الكاسرة، وكنت أقول لهم: ما تزال الشبكة الحكومية تقدم خِدماتها! وكانوا يقولون إن الاتصالات ضعيفة جداً في تلك المناطق، فقلت لهم : نعم لأن الكهرباء تغيب في ساعات كثيرة، وعندما تأتي يحصل اختناق في الاتصالات! وكان بعضهم يجيب: يمكن أن نمد شبكة كهرباء إذا أُعْطينا موافقة من قبلكم بذلك!!!!!
ظاهر الأمور إنساني محض، وباطنهُ بداية تفكيك لبنية الدولة التحتية، باحتلالها قطعة بعد قطعة، وعلى يد من؟ بواسطة مافيات تجارية تتبرقع بالوطنية وتتمسح بالثورة، وهي جزء من مافيات كبرى ستجد رجلَ أعمالٍ مزيفاً هنا، أو مسؤولين حكوميين مرتشين في كل الأنظمة هناك، يسوقون الأمور بحيث لا يكون هناك مناصٌ عن الخضوع لهم في النهاية.
وهكذا تباع كمياتٌ كبيرة من النفط السوري، وغابات الساحل، والآثار، حتى أبناؤنا وبناتنا بل وطننا كله.. في أسواق نخاسة دولية مرعبة.
أما القوة الأخرى الناعمة فهي الرأي العام! ومما يؤلم حقاً هذه المساعدات الهائلة التي يقدمها الكثيرون عن حسن نية لمن يحفرون قبورنا! وأضرب مثالاً مؤلماً عن ذلك: ما نشره باحث غربي وقبله غيره عن خرائط لتقسيم سورية!!
تناقل الآلاف ذلك وبدؤوا يتهيئون لهذا الأمر في اللاشعور، بل أصبح العديدون بدون أن يشعروا أداة لتمكينه وإرسائه في المجتمع السوري كله!!
أريد أن أقول لكل سوري يحب بلده، هذه الخرائط جرائم وطنية وأخلاقية وجنائية بحق بلدك وأهلك.. وإذا أردتَ نشر مثلِ هذا الخبر فضعْ عقيدتك فوقه، وقُلْ بكل شراسة : لا للتقسيم .. لا لا للأصابع الخبيثة في بلدنا .. فلوكان التقسيم قدراً نازلاً من السماء لوجبتْ محاربتُه بقدرٍ آخرَ من أقدار الله، ولن نستسلم له، ومَن أفشلَ التقسيم الفرنسي في فترة الاحتلال سيُفشله في الاحتلال العالمي الجديد.
مراكز الأبحاث – أيها السوريون – تلاحق أنفاسنا، وتَقيس تفاعلنا وقوتنا وضعفنا، وتدرس بتأنٍّ الرأي العامّ فينا، وتبحث عن النفوس الضعيفة فينا لتكون حواملها في تغيير اتجاهاتنا ومواقفنا، لذلك قد تكون بعض الكلمات في غير محلها وبالتراكم أقرب إلى الجريمة الوطنية منها إلى إبداء رأي مجرد.
رغم كل جراحنا فلا بد أن نبقى وبشراسة في معركة وجودية لإنقاذ أهلنا وبلدنا، وما ذكرتهُ فيما سبق إنما هو شرح للمنطق الذي تجري فيه الأمور أكثر مما هو مقصود لذاته.
من المنطلق نفسه أقول : أمام الساحل السوري كميات هائلة من النفط والغاز، ووجود بلد قوي لن يسمح للدول الإقليمية والمافيات العالمية أن تدخل مياهنا الإقليمية ولا ما يليها من المياه الدولية! وقد يكون هناك نظام من اللصوص يسرق، ولكن الأمر يبقى أقل سوءاً من فوضى عارمة.
إذاً فلتكن سورية ضعيفة، ولتمهَّدْ كل الظروف لاقتتال أبنائها، ودمار طاقاتها البشرية وجيشها الذي بذل كل أبناء سورية دمهم ومالهم لبنائه، ولتكن الأدوات لذلك شعباً مشرداً، ونظاماً متوحشاً، ومعارضة بعضُها محنّط لم تجتمع لقصف شعبنا بالسلاح الكيميائي، ولكنها اجتمعت مرتين في نفس اليوم لمحاسبة من ذهبوا إلى موسكو .. وفوق ذلك وعود مزيفة بالدعم الذي لم يتفق أصحابه على شكله بعد أربع سنوات من بحار الدماء.
كانت الثورة سلمية محضة ودفَعها صلَف النظام واعتداؤه على الناس إلى السلاح، ودخلت أصابع كثيرة متوافقة الآراء أحياناً ومتعارضة في أحيان أكثر، لتوجه وتقطع وتمنع الفصائل والكتائب والألوية وفق مصالحها، وزجَّت دول أخرى بكل ثقلها وراء نظام أباح لها سورية مستعمَرةً تجول فيها، وهكذا علق وطننا في عنق زجاجة تضيق عليه كل يوم.
كان ينتظرُ من مؤسسة موقرة أن تساعدَ الشعب في أزمته، وتنقذه من أنياب النظام، وماعدا بضعة أشخاص منهم فإن التفكير المحنط والجدال العقيم والعقلية الحزبية الانتهازية هو فكرها الأوحد لذا فقد زادت الطين بلاً، وأذكر للتاريخ أن أول اجتماع ترأسته (وهذا أمر شهده الجميع) قلت لهم : إنني لا أستطيع أن أقود الائتلاف وحدي، وأريد هيئة سياسية تنفيذية معي! وأفشل الزملاء الموقرون إحداث أية هيئة سياسية ست مرات!!!! وفي السابعة رضُوا بتشكيل : هيئة سياسية استشارية مؤقتة! أي منزوعة الدسم والصلاحيات .. ليبقى الحبل على الغارب وتتحرك كل عصابة حزبية بلا ضابط ولا قانون ..
وفوق ذلك أشاعوا أن هناك من يتفرد بالقرار ولا يشاور من حوله.
ما تزال هناك معطيات كثيرة، ولكن نعود إلى موسكو .. فهل ستشرق منها الشمس؟
دُعيتُ مرات لزيارة موسكو واعتذرت، وتمنيتُ أن يكون من استلموا المِقودَ قد انتبهوا للأخطاء السابقة، وجعلتْهم مأساةُ شعبنا يُحسون بضرورة التغيير السياسي والفكري.
أشهرٌ مضت، والحال ليس كما هو بل يزداد تفاقماً، وكان كثيرون من الإخوة من كل التوجهات السياسية يدفعون باتجاه البحث عن نافذة لإنقاذ بلدِنا من نهاية مريرة يتداعى إليها.
كنا نحاول العمل الهادىء، بالتواصل مع إخوة في الداخل وتيارات مختلفة، والتناصح، والاتصال مع بعض الأطراف الدولية، ثم محاولة إيجاد قواسم وطنية تَلُمُّ الشعب السوري كله، وكانت كلمة عيد الفطر السابق، وفيها طُرِحَ أن هناك مجموعةً يمكن أن تتحرك وتعمل للحل السياسي … وانتظرنا … ثم جاء نداء إيقاف إطلاق النار في عيد الأضحى، ولكن كل الأمور كانت أضعف مما هو مطلوب، وصحيح أنها أعطت أملاً اجتماعياً، ولكنها لم تكن كافية لأي إقلاع جذري نحو الإنقاذ.
هناك أمر مهم جداً في السياسة : اِحذر أن تموتَ قضيتُك، وإن لم تحركها أنت فلن يحركها أحد .. وتكررت الدعوة لزيارة موسكو وغيرها، ومع مجموعة من الإخوة قررْنا كسر الجمود، ومخطئ من ظن أنها نزوة فردية، فلنا أشهر نتشاور حولها، ونفكر في أبعادها ومآلاتها ومحاذيرها وفوائدها وأضرارها، وقد أخبرْنا بها قبلاً بعض الفصائل العسكرية من الثوار، وبعد ذلك كله قررنا أن نذهب، واخترنا وفداً نوعياً فيه أكبر ضابطين في صفوف الثورة، وهما لواءان : أحدهما رئيس هيئة الإمداد والتموين، والآخر رئيس الأكاديمة العسكرية الوطنية، ومعنا سفير للمعارضة، ودبلوماسي سابق مختص بالقانون الدولي.
اجتمعنا يومين وترأس أحدَ الاجتماعات من قبل الروس المفوضُ بغدانوف مبعوث الرئيس الروسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقية، وهو دبلوماسي بارع ويتقن العربية بطلاقة، وفي اليوم التالي اجتمعنا بوزير الخارجية الاتحادي سيرغي لافروف.
الاجتماعان كانا ناجحين إلى درجة كبيرة، ولم يكن معنا أحد من غير السوريين أو من النظام، وقد كنا واضحين تماماً معهم من أننا نُصر على استقلال القرار السياسي السوري، واستقلال سورية ورفض تقسيمها، ووحدة الأراضي والشعب السوري، ورفض التدخلات الإقليمية والدولية، ونحن ضد الانجرار إلى أي حرب طائفية، ونحن حريصون على ترابط النسيج الاجتماعي السوري، وأننا نريد علاقات نِدية متوازنة مع كافة الدول، وقد كان للروس دور في بناء بعض مؤسساتنا الاقتصادية والعسكرية والتي هي ملك للشعب السوري، ونرحب بمساعدة أي طرف في مهمتنا لإنقاذ سورية.
ذكرنا للوزير لافروف أن الحرية ليست هي من يصنع الإرهاب، بل الظلم هو من يُولِّدُه، وأنَّ المسار السياسي لحل الأزمة يجب أن يسير بالتوازي مع موضوع مقاومة الإرهاب الذي تُدندن عليه الدول، ونحن نرفُضه من الأطراف كافة ، وقلنا له صراحة وبكل موضوعية : قد يكون قسمٌ من الشعب السوري مع بشار الأسد، وقسم ضده (ولكنه المسؤول الأول عما جرى) وبالتالي فإنه لا يمكن بأية طريقة قبول أن يكون جزءاً من مستقبل سورية السياسي، وصحيح أن هذا لا يتم خلال يوم وليلة، ويحتاج إلى ترتيبات ما، ولكنه أمر أساسي بالنسبة لمصلحة سورية.
لم يعترض الروس على كل ما قلناه، وأخبرونا أنهم يفكرون في عقد مؤتمر يضم بعض الشخصيات من المعارضة السورية، ويهمهم أن يكون هناك توافق على خطوط أساسية، وطلبْنا منهم أن يسعَوا بالتفاهم مع الأميركان ويتوافقوا على صيغة – وليسموها جنيف 3 إن شاؤوا – لفتح نوافذ حل سياسي تفاوضي. ووعد الوزير لافروف بطرح الأمر مع وزير الخارجية كيري الذي كان سيلتقي به يومها ساعاتٍ في الصين، ولم يصلنا بشكل رسمي ما اتفقا عليه بخصوص هذا المؤتمر.
يحق للسوريون أن يسألوا : من أنتم ؟ وجوابنا: أننا مواطنون سوريون نعيش الألم كل لحظة ومن حقنا أن نبحث عن مخرج إنقاذي لبلدنا، بعد أن استوفت كل الأطراف وقتاً في محاور لم نرَ من ورائها أي نجاحات حاسمة، فالوضع العسكري معلَّق (بسبب إرادات دولية وإقليمية، تغلغلت في صفوف الثوار وأرجعت العديد من قواتهم من بعض المناطق الاستراتيجية) واستمراره هو المزيد من النزيف لسورية كلها، والأهم من ذلك كله نزيف شعب يُدفع إلى الموت.
كما أن المعارضة السياسية قد أُعطيتْ فرصتها، وكل ما صنعته حصل تحت أنظار الناس، وذهبت مع وفد النظام إلى جنيف 2 بالقوة القاهرة لكليهما، وللأمانة فقد كان أداؤها أفضل من أداء النظام، ولكن الصلَف سيطر على الوضع، ولم يكن هناك من نتيجة وراء ذلك.
يسألنا البعض: ولماذا لا تشكِّلون تياراً سياسياً لعملِكم ؟ وجوابنا هو أن التيار موجود، ولكنه بلا اسم لأن ما يهمنا هو النتائج، وقد يكون هناك ضرورة خلال وقت قريب إلى وجود اسم معلن ووقتها سيحصل ذلك.
سأل إخوة آخرون : وماذا إن كان الروس يتلاعبون بكم؟ ونقول : إننا ننطلق من محددات واضحة، ولدينا إصرار عنيد عليها، وسورية شعباً وأرضاً ومدنية وحضارة هي الهدف الذي سنبذل حياتنا بل دمنا من أجل إنقاذه، وكل ما نراه تفريطاً ببلدنا أو محاولة لإعادة إنتاج النظام المتوحش فلن نكون جزءاً منه بل سنتصدى له قدر ما نطيق ونطالب جميع السوريين بأن يكونوا معنا في ذلك.
آخرون قالوا : إن الروس قد انتهت قوتهم وليس لديهم أية فعالية الآن! وهذا الظن غير صحيح، فبعدما خرجت روسية من حوض المتوسط وليبية والعراق، فإنها أكثر تمسكاً ببقائها في سورية وستكون شرسة جداً في الخروج منها، وهذا ما تفهمه القوى الدولية، ولا تريد الآن إثارة نزاعات قاتلة، وإن حصل، فالشعب السوري وحدَه هو من سيدفع ثمن صراعات دولية متجددة في سورية.
سؤال آخر: وماذا معكم من القوة كي تتفاعل معكم الدول؟ والجواب : يوجد معنا قوتان : ناعمة ولكنها فعالة، وخشنة وهي قوية، أما الناعمة فهي الرأي العام السوري بكل ألوانه، من الموالي للثورة إلى الموالي للنظام، ومن الإسلامي إلى العلماني، وبكل ألوان الشعب السوري الدينية والثقافية والقومية، فقد صار واضحاً للجميع ما بُيّتَ لسورية، وأن النظام بسوء تصرفه قد جرّنا إلى ما نحن فيه، وأن السوريين لم يبقَ فيهم بيت لم يدخله تابوت أويجرِ فيه عزاء، وأنه لم تبق أسرة في كل سورية نجت من اليتم أو الثكل أو التشريد، وإننا ما لم نجد صيغة نتعايش فيها فستنهار سورية ونهوي جميعاً بلا عودة.
وإن الوعي بالخطر المحدق واستعادة زمام الأمور، وتفعيل وتنظيم الشعب لنفسه هو رأسمال سورية الأول، ويجب أن نضع أيدينا جميعاً بأيدي بعضنا؛ كي لا تضيع بلادنا ولا تُهدَر تلك الدماء الزكية التي سُكِبت في سبيل الحرية، وكي يعود قرار السوريين إليهم بدون وصاية ولا استبداد.
أما القوة الخشنة فهي حاجة كل الأطراف التي لها علاقة بما يجري في سورية إلى مخرج، كل الأطراف بلا استثناء – بما فيها إيران المحتل الحقيقي لسورية – فهي تنحدر بتسارعات مختلفة إلى طاحونة مفزعة لن ينجو منها أحد في النهاية، والدولة الوحيدة التي يظن البعض أنها ليست قلقة لأن أمنها مضمون دولياً، لا يمكن أن تبقى هكذا حتى النهاية، فالحريق سيخرج إن بقي هكذا عن السيطرة، وسيكون من مصلحتها حتى هي وجود أمن واستقرار في سورية.
نعم نحن السوريين لا يمكننا التحرك من دون حلفاء وأصدقاء، ومن دون تشاور وتواصل، ولكن الكل لديهم مشاغلهم ومشاكلهم، وفي السياسة مصالحهم، ولن تنزل علينا مائدة من السماء، ولن يقتلع أحدٌ شوكنا إلا إذا اقتلعناه بأيدينا، محتفظين باستقلالنا، واضعين في قلوبنا وأعيننا شيئاً واحداً: إنقاذ بلدنا.
نحن نبحث عن التقاطعات بين مصالح الدول، والعمل عليها سيوجد مساحة تؤمِّن حداً أدنى للإقلاع الوطني، وكما أنه لم يُنزل الله داء إلا وجعل له دواء، فكذلك ليس هناك دولة إلا وهناك إلى عقلها وسياستها مفتاح يجب أن نبحث عنه.
التفاوض السياسي أمر طرحناهُ منذ سنتين وحوربْنا من أطراف عديدة لم تعِ الموضوع وقتها، وسكِرت بالوعود، واليوم صارت مأساة السوريين فوق التصور والاحتمال، ومأساة السجناء والأسيرات والمشردين في دول العالم والمخيمات الإقليمية لم يسبق أن كتب مثلها التاريخ الحديث، أما انهيار القطاع الصحي والتعليمي والحكومي، فشَيء فوق الوصف، وكذلك خراب المؤسسات (التي هي ملك للشعب)، وما تمكن الإحاطة به المآسي الاجتماعية الشاملة، وضياع الهوية، والأفدح من كل ذلك الكوادر البشرية الفائقة التي استُشهدت كلها من أجل حريتنا واستقلالنا، أوتشردت في العالم كله، ولا يعلم أحد كيف ستعود.
ستكتب الكثير من المواقع والصحف افتراضاتٍ ما، بعضها صحيح، وبعضها ليس كذلك، وأريد أن أقول للجميع : إننا لن نكون مطيةً لأية دولة، وفي نفس الوقت سنتواصل مع الجميع، ونعتقد أن التفاوض السياسي هو الأنجح والأقل خسائر، ونمد الأيدي إلى كل أبناء سورية الذين يبحثون عن العدل والحرية، ونعتقد أن الكثيرين منهم ما زالوا لا يستطيعون أن يتخذوا الموقف المناسب، ولكن ستتغير المعطيات، ويسد كل منا ثغرة في جسم تتناوشه الرماح.
لا نبحث عن مواقع سياسية، ونرفض الأدوار التجميلية، وليس الحل بمشاركة صورية في حكومة انتقالية وهْمية كما تُشيع بعض الجهات الإعلامية كل فترة، بل بحل توافقي حقيقي، ترافقه عدالة انتقالية، وأريد أن أذكر أمراً خاصاً، ذكرته مراراً وأكرره: لستُ أمانع من اللقاء مع أي مسؤولٍ من النظام، وسبَق أني دعوت حتى بشار الأسد عندما تقلدت منصب رئيس المعارضة السورية إلى مناظرة تلفزيونية علنية عبر الفضائيات، لنجد حلاً لمأساة سورية فتم التعالي على ذلك. ودعَونا مسؤولين آخرين على وسائل الإعلام ولا أعلم مم يخافون.
النظام اليوم ليس نظام الأمس، وربما يستطيع أن يتابع قليلاً ولكنه خاسر في النهاية، وستخسر سورية المزيد من زهَرات شبابها؛ لذا فالتفاوض هو خير الطرق، ولست أشترط أي شرط سياسي، ولا أطلب أي شيء خاص، بل سأكرر ما ذكرته منذ سنتين : من أجل إيجاد أرضية تلم كل أبناء سورية، وتمهد للحل السياسي، ورفعاً للعناء عن شعبنا وأهلنا، فقد بادرنا مرات رغم كل الحرب علينا وكبادرة حسن نية إلى طرح التفاوض مَخرجاً للإنقاذ، ونريد خطوةَ حُسنِ نية من النظام ستكون بوابة تفاعلنا في التفاوض السياسي، وهي خطوة إنسانية محضة، تتمثل في تمديد جوازات السفر للمواطنين السوريين بدل تركهم لعصابات البحر وأمواج الظلام ومافيات التهريب والتزوير، والأهم من كل ذلك إطلاق سراح النساء والأطفال من سجون النظام، وعلى رأسهم الدكتورة رانية عباسي وأطفالها الستة، وكل الحالات المشابهة.
أيام الضباب في موسكو ممتدة في هذه الأوقات، ولكننا لم نكن نبحث عن الشمس بل عن التقاطعات السياسية، أما فجرُنا القادم فلستُ أجد له أصدقَ من قولة القاضي الزبيري ليوم الاستقلال:
يومٌ من الدهرِ لم تصنعْ أشعتَهُ شمسُ الضحى.. بل صنعناهُ بأيدينا
وبعزيمتكم أيها السوريون وتمسككم باستقلال بلدكم وحريته وكرامته، سنصنع شمس استقلال سورية العظيمة في مستقبلها الجديد.
أحمد معاذ الخطيب
11 تشرين الثاني 2014