لا بد لمن تابع معركة الساحل من ملاحظة أمر عظيم الأهمية، هو سرعة انهيار جيش الشبيحة، والطريقة التي اعتمدها في الفرار من أرض المعركة، واتسمت بقدر مباغت من الفوضى، وسادها ذعر جلي يشبه في مظاهره ما يحدث عند وقوع زلزال أو حدث لا سبيل إلى مقاومته. ما إن بدأ الهجوم، حتى ترك الشبيحة أسلحتهم ومواقعهم ولاذوا بالفرار، دون أن يظهروا أدنى قدر من الرغبة في القتال أو تبدر منهم أية بادرة تؤكد تصميمهم على التمسك بمواقعهم وصد المهاجمين، الأمر الذي فاجأ هؤلاء وجعلهم يتقدمون في مناطق الشبيحة دون مقاومة تذكر، ويغنمون كثيرا من الأسلحة والذخائر، وسط حيرة وخوف أهالي القرى، الذين مروا في لحظة خوف ثم ارتاحت نفوسهم عندما عوملوا بإنسانية وانكشفت أكاذيب النظام حول عزم الجيش الحر على إبادتهم، وقدرة الشبيحة على حمايتهم.
هذه المفاجأة هي التي تفسر سقوط عدد كبير من القرى والمواقع الجبلية الاستراتيجية في أيدي المهاجمين، الذين كانوا يريدون اقتحام عدد قليل من التلال المشرفة على المنطقة الجبلية والسهل الساحلي الواقع وراءها، لكن فرار الشبيحة من معظم التلال القريبة، التي لم تتعرض لأي هجوم، ومن عدد كبير من القرى التي وراءها هو الذي أغراهم بمواصلة التقدم، خصوصا وأن خسائرهم كانت محدودة ودون أي توقع، وأنهم لم يواجهوا مقاومة تذكر، رغم أن المدافعين كانوا يرابطون على رؤوس تلال مرتفعة مارسوا منها قصفا يوميا للقرى الواقعة تحتها، التي انتشر الجيش الحر فيها أو رابط قربها.
وكانت قد سبقت هذا الانهيار الجماعي لمعنويات شبيحة النظام مظاهر تؤكد ما بلغته من تهافت، سواء في القصير أو حمص، حيث قاتل عشرات آلاف الجنود مدعومين بمرتزقة حزب الله المدججين بأحدث الأسلحة ضد مئات قليلة من محاصرين مزودين بأسلحة بسيطة، فلم يفلحوا في كسر شوكتهم إلا بعد أسابيع، أحجموا خلالها عن شن أية هجمات أرضية بالمشاة، رغم تفوقهم العددي الكاسح، واكتفوا بالقصف من بعيد، ثم احتفلوا بسقوط القصير بعد صمود استمر ثلاثة أسابيع ونيف، كأنهم انتصروا على جيش وليس على مقاتلين محاصرين. ثم وقعت الواقعة في خان العسل وانهار خلال ثلاثة أيام حصن منيع من حصون النظام ضم مئات الضباط والجنود وعشرات الدبابات والمدافع ومئات الصواريخ. هنا أيضا فر كبار الضباط قبل صغار الجند، واستسلم كثيرون منهم دون قتال، وسقط حصن قاتل طيلة سنتين أغلق خلالهما بوابة حلب الغربية أمام الجيش الحر وأبقاها مفتوحة أمام إمدادات الجيش النظامي الذي كان يطوق المدينة، ووجد نفسه مطوقا فيها بعد سقوط الخان. بعد ذلك بأيام، وقعت مفاجأة من العيار الثقيل هي سقوط مطار «منغ» العسكري، الذي يعتبر واحدا من أكبر مطارات النظام وأكثرها تحصينا وتسليحا. هنا أيضا، فر الضباط قبل العساكر، بعد أن فجرت عربة مدرعة قرب مقر قيادته، فكان سقوطه لحظة إضافية كشفت المدى الذي بلغه انهيار معنويات جيش السلطة وحجم الضرر الذي أصابه نتيجة تحويله إلى مسلحين يقودهم ضباط أمن ويتحكم بقراراتهم شبيحة وقطاع طرق ينضوون فيما يسمى «جيش الدفاع الوطني»، الذي ليس جيشا، ولم يعد يحسن غير الهرب، وليس وطنيا أو من الوطن في شيء.
بالعودة إلى الساحل؛ ثمة ظاهرة مهمة هي أن الجيش السلطوي لم ينجح إلى الآن، وبعد مرور أيام على المعركة، في تنظيم أي هجوم معاكس أو حماية ما بيده من قرى أخذت تتساقط واحدة بعد أخرى، في علامة جديدة وخطيرة على حجم الانهيار المعنوي، الذي صار ملحوظا في كل مكان، من حلب إلى اللاذقية، ومن درعا إلى دير الزور، وكانت بداياته قد لوحظت قبل أشهر، لكن دخول حزب الله كبحه بعض الشيء، وها هو يأخذ الآن صورة عامة يؤكدها بصورة خاصة فرار الضباط القادة، أي ضباط الحلقة التي تمسك الجيش بقبضة من حديد، وتسير متوسطي الرتب من الضباط، وتراقب الجنود، الذين يظهر اليوم أن معظمهم مكره بقوة السلاح على الدفاع عن النظام.
ثمة ما يشير في هذه الحالات جميعها إلى ظاهرة طال انتظارها هي انهيار معنويات جيش لطالما قيل إنه متماسك وخاضع لعملية ضبط وربط محكمة تحصنه ضد التفكك. نحن اليوم أمام جيش بدأت وحداته الكبيرة والمتماسكة تتفكك، لذلك شرع يتخلى عن مواقعه وأسلحته، ويقلع عن القتال بل ويستسلم بأعداد كبيرة دون قتال أو بعد القليل منه. هل هذه بداية نهاية نظام الأسد، الذي تفككه اليوم مقاومة الشعب وبسالة مقاتليه، ويدفعه إلى الفرار تصميم السوريات والسوريين على مواصلة معركة الحرية رغم ما عرفته من معارك طاحنة وتسببت به من دمار طاول كل بيت وأسرة في الوطن المنكوب بنظامه القاتل؟. هل نحن أمام التحول النوعي الذي طال انتظاره؟. لنراقب ما يحدث فهو مهم وخطير إلى أبعد الحدود، سواء بما يحمله من مفاجآت أم بنتائجه!.