هل ‘حد السرقة’ أمر إلهي أم مفهوم بشري؟

بقلم د. توفيق حميد/
“وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا” هي آية يستخدمها الأصوليون لتبرير بتر يدي من يسرق، ويستخدمها غيرهم من التكفيريين لتكفير المجتمعات والحكومات التي تطورت مع الحضارة الإنسانية لترفض هذا النوع من العقوبات البدنية.
والعجيب في الأمر أن كلمة “حدود”، والتي يطالب الإسلاميون بتنفيذها كجزء من الشريعة الإسلامية، لم تأت في كتاب الله ولو لمرة واحدة ـ كما يتصور الكثيرون ـ لوصف أي عقوبة بدنية، بل على العكس من ذلك تماما فإن كلمة “حدود” جاءت في عدة مواضع لا علاقة لها بالعقوبات البدنية.
فعلى سبيل المثال استخدم القرآن كلمة “حدود” لمنع الزوج من إخراج زوجته من منزل الزوجية، وكذلك لمنع العلاقة الجسدية بين الزوج وزوجته داخل المساجد احتراما لدور العبادة، وجاءت أيضا لإقرار مبدأ المعاملة الراقية بين الزوجين في حالة الطلاق وهذه بعض الآيات التي ذكرت فيها كلمة “حدود” لوصف هذه المبادئ:
سورة الطلاق آية (1):
“لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا”.
سورة البقرة آية (187):
“وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون”.
بتر يد السارق ليس مبدأ أساسيا في الإسلام، وإنما هو أمر من أمور الشورى
سورة البقرة آية (229):
“الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”.
سورة البقرة آية (230):
“فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (أي أن يعامل بعضهم بعضا بالحسنى).
والأعجب في هذا الشأن أن السلفيين والأصوليين لا يتوانون عن ترديد زعمهم أن “بتر” يد السارق هي أعظم رادع يمنع السرقة، وكأنهم نسوا تماما أو تناسوا أن دولا مثل السويد والنرويج وفنلندا هي من أقل ـ إن لم تكن أقل ـ الدول في العالم في مثل هذا النوع من الجرائم، بالرغم أنها لا تطبق هذا النوع من العقوبات العنيفة على الإطلاق بل وتعتبرها جريمة شنعاء في حق الإنسانية.
اقرأ للكاتب أيضا: ماذا لو كان اسم محمد صلاح “جرجس حنا”؟
ولا ننسى هنا أن نذكر بعض ممن يتشدق بما يسمونه “عبقرية الإسلام” في “إبداع” هذه العقوبة أن الكثير من المجتمعات البدائية كانت تمارسها قبل الإسلام أي أنها ليست بشيء جديد.


والسؤال المطروح هنا هو هل “بتر” يد السارق أمر إلهي؟ أم أنه مجرد مفهوم بشري قابل للاختلاف؟
بعد البحث في الآية الكريمة وفي مفاهيمها المختلفة، يتضح وجود عدة مفاهيم لها وليس مفهوما واحدا كما يظن البعض؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد على الأقل سبعة مفاهيم مختلفة لنفس هذه الآية قد تختلف تماما عن بعضها البعض:
المفهوم الأول: وهو أنه ينبغي بتر يد من سرق، وهذا المفهوم سطحي وغير دقيق للآية كما سنرى في الشرح فيما يلي.
المفهوم الثاني: أن بتر اليد لا يتم تنفيذه إلا على من احترف السرقة فأصبحت هي مهنته، وليس على من سرق مرة واحدة، لأن استخدام “ال” التعريف في الآية تفيد احتراف الشيء وليس القيام به مرة واحدة. فمن أعطى درسا مرة واحدة لا يطلق عليه لقب “المدرس”، إلا إذا درس عدة مرات، وأصبح التدريس مهنته، وهذا الرأي قد ذكره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للآية (تفسير المنار)، ولو كان القرآن الكريم يعنى كل من سرق لقالت الآية “ومن سرق ومن سرقت” وليس “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ”.
المفهوم الثالث: أن الآية الكريمة لا تعني على الأطلاق بتر اليد، لأنها استخدمت تعبير “فَاقْطَعُوا” ولم تستخدم التعبير “فابتروا” والفارق شاسع بين التعبيرين، فقد استخدم القرآن تعبير قطع الأيدي في آية أخرى “وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ” لوصف كيف خدشت بعض النساء أيديهن بسكين حينما رأين نبي الله يوسف، فالقطع في القرآن ـ على عكس البتر ـ يعنى خدشا سطحيا بسيطا يلتئم خلال بضعة أيام، ولو أراد القرآن بتر اليد في حالة السرقة لكان استخدم فابتروا أيديهما بدلا من فاقطعوا أيديهما، وليس هناك أيسر من استخدام كلمة البتر إذا كان هذا هو المعنى المقصود، فقد استخدم بالفعل كلمة مشتقة من البتر ليعني انقطاع النسل وذلك في قوله تعالى “إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ”.
المفهوم الرابع: وهو أن التعبير المستخدم في الآية قد يكون مجازيا، ويعنى منع السارق تماما من السرقة بصورة أو بأخرى مثل وضعه في السجن لفترة من الزمان، كما نقول أحيانا “اقطع رجل فلان من هنا ” وتعنى مجازيا “امنعه من دخول هذا المكان مرة أخرى”، وكذلك أيضا فإن تعبير “قطع لسانه” في اللغة العربية يشير مجازا إلى “منع الشخص من الكلام أو الحديث” وبالطبع لا يقصد بتر اللسان.
والقرآن مليء بالتعبيرات المجازية فمثلا “يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۚ”، لا تعنى يدا مادية بها خمس أصابع فوق أيديهم وإنما تعني التأييد والدعم والتعضيد.
المفهوم الخامس: أن بتر يد السارق ليس مبدأ أساسيا في الإسلام، وإنما هو أمر من أمور الشورى والتغيير تبعا للظروف، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب نفسه وهو ثاني الخلفاء الراشدين وهو واحد من العشرة المبشرين بالجنة كما جاء في كتب الحديث أوقف العمل بما يسمى (حد السرقة) في عام الرمادة، ولو كان عدم تطبيق “بتر اليد” على السارق خروجا على الإسلام لكان عمر بن الخطاب أول من خرج عن الدين. فهل يجوز اتهام عمر بن الخطاب بأنه خرج عن الإسلام لإيقافه العمل بحد السرقة؟ وهل يجوز وصف عمر بالكفر بناء على الآية “وَمنْ لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ـ سورة المائدة آية 44″، أم أن فهمه للدين كان أعم وأشمل من فهمنا المحدود والحرفي له؟ فلم يجد أي مشكلة في إيقاف العمل بهذا الفهم للآية.
المفهوم السادس: لا يقام الحد على السارق إن أعلن التوبة وطلب المغفرة من الله وذلك لقوله تعالى:
“إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم” وقوله “وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ”.
الله تعالى أعطى لنا الحق في اختيار الآيات التي تناسب عصرنا
فإن كان الله تعالى، وهو مالك الملك وصاحب الحق الإلهي في تنفيذ العقوبة، قد غفر لإنسان ما وصفح عنه بعد توبته، فمن نحن حتى نرفض أو نمنع غفران الله له أو نعترض عليه؟ وقد يقول البعض إن هناك حقا “مدنيا” للدولة وفى هذه الحالة ينفذ عليه قانون “مدني” وليس حكما دينيا، لأن صاحب الحق الديني وهو الله تعالى يغفر الذنب ويعفو عن التوابين حتى وإن تكررت أخطاؤهم.
والجدير بالذكر أن الآية التي يستخدمها الأصوليون لتبرير مفهومهم ذكر القرآن بعدها مباشرة أن الله يسامحه إن أعلن أنه سيتوب عن السرقة:
“وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (سورة المائدة آية 38 ـ 39). ونلاحظ هنا أن الآية استخدمت تعبير “بعد ظلمه” (أي بعد السرقة) وليس “بعد عقابه”.
اقرأ للكاتب أيضا:من سيدخل الجنة: الشيخ الشعراوي أم ستيفن هوكينغ؟
المفهوم السابع: أن الله تعالى أعطى لنا الحق في اختيار الآيات التي تناسب عصرنا فقال تعالى “اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم” وذلك يعنى أن هناك آيات حسنة وآيات أكثر حسنا في كتاب الله، وذلك لأنها تناسب المكان والزمان الذي نعيش فيه أكثر من غيرها من الآيات، وتبعا لهذا الرأي فإنه واجب علينا اتباع “العرف العالمي” وهو مواثيق حقوق الإنسان، والتي تمنع العقوبات البدنية وذلك تبعا لقوله تعالى “وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ”.
وعلى ذلك يتبين لنا أن الآية الخاصة بالسارق والسارقة “إلَهية” ولكن تنفيذ الحد في حقيقته ليس تنفيذا للآية الإلهية على الإطلاق، وإنما هو تنفيذ لمفهوم بشري للآية والأخير ليس إلهيا في مصدره لأن فيه اختلافا كثيرا، فقد رأينا على سبيل المثال سبعة مفاهيم بشرية مختلفة لنفس الآية كما سبق، وإن كانت الآية هي من عند الله فإن مفاهيمها المختلفة ليست من عند الله، وذلك لقوله تعالى “وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”.
فالآية ليس فيها اختلاف ولكن المفهوم كما رأينا فيه “اختلاف كثير”!
شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.