يبدو أن الفرس المجوس أعطوا أوامرهم للأحمق المطاع بتدمير دمشق وبدء عملية الانتقام الكبرى تحت شعار: يا لثارات فارس، مموهاً بشعار يا لثارات الحسين يستغلون به الحمقى والمغفلين وغيرهم لسفك الدماء.
دمشق عاصمة التاريخ، وعاصمة الحضارة، وعاصمة الأبجدية، وعاصمة الفن، وعاصمة الشعر، وعاصمة الإسلام، وعاصمة كل الأديان. دمشق الأبية العصية التي تعلمت عبر التاريخ أن تمتص الغرباء وتذيبهم فيها حتى لا يبقى منهم أثر، لم تستطع بكل حنانها وحبها وعطفها وعطائها أن تذيب قلوباً قدت من حجارة قادمة من فيح جهنم، أكلوا خيراتها واستمتعوا بمائها واستعمروا قاسيونها ومزتها، ولكنهم لم يعشقوها، لأنهم صنف ليس من البشر، هم شياطين الإنس لا قلوب ولا عقول ولا أحاسيس ولا مشاعر. تخلت لهم دمشق وأهل دمشق عن أجمل بيوتها وأروع دورها، طوعاً أو كرهاً، ظناً منهم أنهم سيتحولون في يوم من الأيام إلى إخوة لهم في الوطن وإخوة لهم في حب دمشق، ولكن ولأول مرة في التاريخ، يستعصي الحقد على حب دمشق، ويأبى أن يتماهى مع مياه بردى ونسمات الربوة وأزهار الغوطة.
في لحظة ما سيبدأ نيرون العصر بقصف دمشق بكل ما أعد من صواريخ ونار ولهب وعدة وعتاد، سيقصفها من قاسيونها حيث خبأ أسلحته الفتاكة لا عن عيون إسرائيل ولكن عن عيون الدمشقيين. وسيخرج منها كل الغرباء وسيرحل عنها الغاصبون وستهرب منها كل طفيلياتها التي عاشت كديدان العلق تمتص دمائها. سيرحل الغرباء وتبقى دمشق ويبقى أطفال دمشق، يغطون بأجسادهم العارية كل حارة من حواريها يحمونها من القذائف واللهيب، ستبقى بنات دمشق يحمين بشعورهن الطويلة أزقة دمشق العتيقة يفرشونها لتستر كل ذرات ترابها عن أعين الوحوش، سيبقى رجال دمشق يحملون سلاحهم صامدين يموتون واقفين، وستبقى نساء دمشق يسندن جدرانها بأكفهن حتى لا تتصدع وتنهار. سيبقى كهول دمشق رافعين أيديهم إلى السماء يدفعون عن دمشق صواريخ المجرمين يتوسلون إلى ربهم ألا يًستشهدوا إلا على تراب دمشق.
سيرحل الطاغية عن دمشق بعد أن ينتهي من التلذذ بمشهد حريقها، وسيرحل معه كل شياطين جهنم، تاركين دمشق بظنهم جثة هامدة، ولكن هيهات، هاهي دمشق تهتز وتربو تغسلها أمطار أيار، وتسقيها دماء الشهداء، لتُنبت من تحت كل حجر زهرة ياسمين، ومن تحت كل لبِنة زهرة برتقل، ومن تحت كل دار مهدمة شجرة كباد، ومن تحت كل بركة دم يدٌ تبني دمشق الجديدة.
دمشق ستبقى وسيرحل الفرس المجوس، وسيرحل نيرون سفاح العصر ومن معه، وسيرقب العالم هذه المعجزة مشدوهاً صامتاً، وسيأتي العرب والمسلمون خجلين مهطعين مقنعي رؤوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء، معتذرين من دمشق عن تخاذلهم، عن صمتهم، عن كذبهم، عن نقاقهم، عن خنوعهم، عن تآمرهم، ستضمهم دمشق وهي تبكي إشفاقاً عليهم لأنها تعرف أنهم هم الضحية المقبلة، هم هدف الفرس القادم بمكتهم ومدينتهم وأهراماتهم وأزهرهم وتطوانهم وقيروانهم وخليجهم. ستعاود نصحهم بأن يعزموا أمرهم ويكونوا مرة واحدة رجالاً يقفون صفاً في وجه الغزو الجديد، ولكن قلبها وخبرتها وتاريخها يقولون لها: “لا فائدة”. لا تتأملي منهم شيئا لا ترتجي منهم عقلاً ولا حكمةً، فهم هم قبل ثوراتهم وبعدها، وقبل سقوط بغدادهم وبعدها، وقبل دمار دمشق وبعدها. لن يفيقوا من سكرتهم قبل أن تسقيهم أنت من شراب الكرامة والعزة والحرية الذي تخلطينه من زهر الياسمين وعسل البرتقال والكباد والنارنج وماء بردى ودم الشهداء. ستقودهم دمشق إلى درب التحول، إلى طريق الوحدة وستنفي عنهم خَبَثهم وستخلصهم من طواغيتهم وستريهم كيف تعود بهم إلى قمة التاريخ.
لن يضير دمشق ما سيحدث، بل ستخرج كالعنقاء تنفض عنها غبار الحرب والدمار، ستخرج منتصرة في النهاية رغم كل ما حصل، وستشرق شمسها من جديد، وستعيد بناء نفسها بأيدي أبنائها الأصليين وأبنائها الذين أرضعتهم لبن بردى، وابنائها الذين تبنتهم واحتوتهم وربتهم وأحبتهم وأحبوها. لكن التاريخ لن يرحم من دمرها، ولن يرحم من تخلى عنها، ولن يرحم من تحالف مع أعدائها، ولن يرحم من وقف يتفرج عليها وهي تحترق.
صبراً أهل دمشق، فالفرج قريب وإن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسرٌ يُسرين.